إن مقياس الخيرية في الناس ليس أن يقدم الواحد منهم عملاً عظيماً ، وإنما الخيرية حين يقدم الواحد ما هو قادر على أدائه بعد استنفاد جهده وطاقته ، ولهذا نرى النبي عليه الصلاة والسلام يستعمل إيجابية كل صحابي بما هو قادر عليه وبما هو أهل له ، حتى صار كل صحابي أمة وحده ، ففي الجانب العسكري استفاد من فكر سلمان الفارسي رضي الله عنه وخلفيته الحضارية فاقترح الخندق ، والحباب بن المنذر يقترح الوقوف على الماء يوم بدر ، وآخر ينصب المنجنيق في غزوة الطائف ، وأبو بصير يخطط لحرب عصابات بعيداً عن بنود صلح الحديبية ، وأما الجانب الاقتصادي فنرى ذلك الصحابي الذي يؤرقه كثرة أبناء المهاجرين والأنصار ، فينقل زراعة القمح إلى الحجاز ، وعبد الرحمن بن عوف يصفق بالسوق حتى لا يكون عالة على غيره. وفي جانب الفكر والتربية يسارع عبد الله بن عمرو بن العاص لتدوين الحديث ، وزيد بن ثابت لجمع القرآن ويسارع في تعلم العبرانية والسريانية . إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل الإيجابي من كل أحد ، فكثيراً ما كان يوجه كلامه إلى الأفراد .......... " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده " ، " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع إن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها "،" بلغوا عني ولو آية " ، " تبسمك في وجه أخيك صدقة "، " سلم على من عرفت ومن لم تعرف ". لقد كان من النتائج المبهرة التي ورثتها هذه التربية النبوية ، أن خرج القادة والخلفاء والوزراء والعلماء وخرج الجنود والمرابطون ، يتسابقون في البذل والعطاء والتضحية والفداء ، لعلمهم أن المرء يهيئ لنفسه مقعداً في الجنة ، ....... إن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يتقدم فيقول يا رسول الله " اسألك مرافقتك في الجنة ؟ فيقول له : أعني على نفسك بكثرة السجود ... ويتقدم آخر فيقول : يا رسول الله : ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل ؟ ، فيمضي يقاتل يطلب الشهادة ليستعجل دخول الجنة ، ويعلن علي رضي الله عنه عن أشواقه وأعظم ما يتمنى فيقول : الضرب بالسيف والصوم بالصيف وإكرام الضيف وقل مثل هذه الأشواق ما تمناه أبو بكر وعمر وعثمان وبقية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة . إن أهم ما يميز المسلم الإيجابي جملة من الأمور : أولاً : أنه يتعامل مع الأحداث والمواقف بحذر ، فهو لا يتعجل الأحكام ولا يقدم رأيه إلا بعد تأن ولا يصدر عن رأي العلماء ، بل يزن الأمور بميزان الشرع ، فما وافقها أخذ وما خالفها ترك . ثانياً : أنه في زمن الفتن ، يمسك زمام نفسه ويلجم لسانه عن الإشاعة ويتحرى الصدق ، يتأمل حكمة الله فيما قدره وكتبه على عباده من الفتن المزلزلة ، التي قدرها لحكمة وكتبها لعلم يعلمه سبحانه . ثالثاً : في المصائب التي منها الموت والمرض والهموم والغموم ، يكل المسلم الأمر إلى الله ويحوقل ويسترجع ، ولا تقعده المصيبة عن العمل ، ولا تقعده الهموم عن بذل الجهد ، لعلمه ويقينه أنها قدرت عليه قبل خلق السماوات والأرض ، ومادام الله تعالى قد كتبها وقدرها فهي حبيبة لنفسه لأن الله هو الذي كتبها عليه . رابعاً : وأهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية ، يرمق أعلى الجنة وهو يعمل ، ويتطلع إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر ونهى ، ويطمع فوق ذلك كله إلى ذلك اليوم الذي يرى فيه وجه الخالق جل جلاله ، حين يكشف الستر عن عباده ، ( نسأل الله أن نكون منهم ) . قد يقول قائل : إذا كانت الإيجابية بهذه الأهمية ، فكيف يكون الطريق إليها ؟؟ فأقول له : أولاً : بالنية السليمة والعمل الصالح . ثانياً : بالعلم وهو علم الدين وإذا أضيف له علم الدنيا كان خيراً على خير ، خاصة ونحن في عصر القوة العلمية والتقنية . ثالثاً : الانشغال بتقوية الإيمان من ذكر وصلاة وتلاوة وصدقة وتذكر للآخرين وقيام ليل وصيام نهار . رابعاً: الحفاظ على الهمة وهو العامل المهم في حياة المسلم ، أن يحتفظ بهمته ولا يضيعها ، قال الجنيد رحمه الله ( عليك بحفظ الهمه فإن الهمة مقدمة الأشياء ) ، وقال بعضهم ( إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه ، فإنه لا يدري متى يغلق عنه ) خامساً: النفسية المتفائلة ، وهذه من أهم مميزات المسلم الداعية خاصة ، فإنه في غمار الحركة يصنع من الشمعة ضوءاً ، ومن المصائب مغنماً ، ومن الموت حياةً ، لا ييأس إذا قنط الناس ، ينظر للحياة بعين الرضا لا بعين السخط ، ويدفع مكاره الحياة بالصبر والتسليم ولا يعني هذا أنه لا يحزن ولا يتألم بل يصيبه ذلك كله ، ولكنه لا يقعد ولا يفتر عن الحركة والعمل. يظل شعور المسلم بالعجز وافتقاره إلى الله تعالى وعونه وتسديده هو العامل المحرك لكل أسباب هذه الإيجابية ، فبقدر إظهار ذله لربه تعالى واستمداد العون منه ، بقدر ما ينال التوفيق والإعانة ، حتى أنه ربما سن سنناً في الخير لم يسبقه إليها أحد . قال تعالى ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الفضل الكبير ﴾ (فاطر /32).