يبدو ان القيادة السياسية في مصر لم تفهم جيدا رسالة الشارع ولم تعي مطالب المتظاهرين والتي أعلنوها في هتافاتهم في ربوع مصر لعدة أيام متتالية ، الرسالة كانت المطالبة بتغيير النظام بالكامل بحل مجلس الشعب المزور وتخلي مبارك عن رئاسته للدولة وللحزب الوطني وتعديل الدستور لتكون انتخابات الرئاسة المقبلة حرة وتعددية وليس فقط تغيير حكومة احمد نظيف لتأتي حكومة أخرى حتما ستكون أيضا حكومة الحزب الوطني ، فالكل قرأ وسمع هتافات المتظاهرين في ربوع مصر وهي "الشعب يريد.. سقوط النظام.. وارحل يا مبارك.. ويسقط مبارك " الا ان الوحيد الذي لم يقرأ ولم يسمع ذلك هو الرئيس ونجله جمال مبارك الذي باتت أحلامه في التوريث تتحول الى سراب رويدا رويدا . لا ادري لماذا قرأ الرئيس المشهد المشتعل خطأ او هكذا قرأ له - بضم القاف- المشهد من قبل بطانة السوء بان الشارع ثار بسبب الأداء السيئ لحكومة نظيف وان تغييرها سيهدئ من ثورة الغضب ، بينما الحقيقة ان بطانة السؤ هذه تريد الاستمرار في التربح وتضخيم ثرواتهم في بنوك سويسرا من دماء الشعب وثرواته ، لذا ، بعد صمت مطبق للنظام بالكامل لعدة ايام ، كان اول قرار أخذه الرئيس بعد ايام من المظاهرات التي تطالب بالتغيير هو انه طلب من الحكومة تقديم استقالتها بل وتحاشى الرئيس ان يقول انه (أقال) الحكومة ، وكانت امام الرئيس فرصة نادرة لان يسجل اسمه في التاريخ باحرف من نور ليصحح اخطاء الماضي ويضع مصر على الطريق الصحيح لاختيار رئيسها المقبل وبرلمانها وحكومتها بكل حرية ويتخلص من رموز الفساد مدعوما بثورة الشارع ، الا ان الرئيس مبارك أضاع هذه الفرصة التي ربما لن تتكرر. خطاب الرئيس والقرار الذي اتخذه بتغيير الحكومة فقط وليس تغيير النظام بالكامل وحل الحزب الوطني الحاكم وابعاد نجله (جمال) وشلته من رجال الاعمال عن السلطة بعد ان استنزفوا خيرات مصر وزادوا من عدد الفقراء واحتكروا السلع الإستراتيجية ، يؤكد انه ونظامه الحاكم لم يفهم المدلول السياسي من وراء ترحيب جموع الثائرين بالجيش الذي نزل الى الشارع بعد ان اختفت الحكومة تماما عن الساحة السياسية ، ولم يفهم النظام ورئيسه تعمد المتظاهرين حرق مقار الحزب الوطني واقسام الشرطة ومقار المحافظات باعتبارها تمثل رموزا للسلطة السياسية والامنية التي قهرت الشعب لاكثر من ربع قرن ونشرت الخوف واليأس والإحباط في قلوب شباب مصر الذين شاخوا مبكرا وهم في ريعان الشباب. فالثورة الجديدة التي أعادت الى مصر حيوتها وشرفها جعلت المصريين يرفعون رؤسهم بكل فخر بين شعوب العالم الحر، لانها اثبتت اننا شعب حي تدب فيه الحياة .. شعب لديه طموح الى المستقبل.. وكانت سعادتي غامرة وكذلك سعادة اقراني الذين مارسوا العمل السياسي لسنوات في فترة المراهقة والشباب ، فسنوات عمرنا التي قضيناها في التسعينيات " وهي اخر عقد من عقود القرن العشرين " في توعيه الناس والتغيير سواء في الجامعة او القرية او المدينة او الشارع لم تذهب هباء رغم الاعتقالات والشطب في الانتخابات الجامعية او المنع من السكن في المدن الجامعية او الابعاد عن العمل في التدريس الى وظائف ادارية ، بل كانت حلقة من حلقات النضال وكاننا سلمنا شعلة التغيير التي استلمناها من جيل الثمانينيات الى جيل جديد من الشباب هو جيل القرن الحادي والعشرين الذي حقق الحلم الذي كان يراودنا يتحقق وهو ان نرى الشعب يتحرك ويطالب بحقوقه بنفسه . تلك الثورة كان وقودها الشباب الجدد وشبابنا الذي شاخ مبكرا وهوشباب على درجة عالية من الثقافة والتعليم والحب لهذا الوطن ، بعضهم يعاني البطالة والفقر وكان امامه باب واسع لان يكونوا من فئة الاغنياء باللجوء الى ارتكاب جرائم السرقات التي انتشرت في مصر خلال الاشهر القليلة الماضية الا انهم رفضوا وقرروا انتزاع حقوقعهم الاقتصادية والاجتماعية بايديهم عبر الخروج الى الشارع والبعض الاخر من الثوار الجدد قرروا استهداف رموز السلطة التي تبطش بهم كل يوم سواء بالارهاب الامني والاعتقالات العشوائية ، او تعرض بعضهم للاهانات والسب والشتم في نقطة تفتيش او حاجز مروري ولم يكن احد منهم قادرا على الرد او مجرد الدفاع عن كرامته . هؤلاء الشباب يريدون وجوها جديدة من اول الرئيس وحتى اصغر قيادي في النظام ، والشعب يريد ان يستيقظ يوما فلا يرى للحزب الوطني الحاكم وجودا فهو الحزب الذي سخر الاجهزة الامنية وامن الدولة بالترغيب والترهيب لحمايته وحماية فساد قياداته لسنوات وسنوات ، وهو الحزب الذي مكن قلة من رجال الاعمال من السيطرة على مراكز صنع القرار ونهب ثروات البلاد عبر ممارسات احتكارية او صفقات تجارية بالمليارات وهي من اموال الشعب الذي حرم من ثرواته فازدادت القلة الغنية غنى وازدادت الأغلبية الفقيرة فقرا فكان الانفجار الشعبي الاخير . رحمك الله يا شاعر تونس الحرة ابو القاسم الشابي عندما قلت : إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر اعلم ان كلماتي هذه ربما تكون سببا في المزيد من الابتلاء والملاحقات لكاتبها ، لكنها كلمة حق أردت ان اجهر بها .. فالساكت عن الحق شيطان اخرس .. "اللهم بلغت اللهم فاشهد". صحافي مصري – عضو اتحاد الصحافيين العرب [email protected] [email protected]