لو صحت الوثائق السرية التي بثتها قناة "الجزيرة" عن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية فالمؤكد ان الرأي العام العربي والفلسطيني كان مخدوعا طوال السنوات العشر الماضية. فالمفاوض الفلسطيني قدم تنازلات غير مسبوقة من اجل التوصل الى اتفاق سلام مع اسرائيل لكن حكومات اسرائيل المتعاقبة لم تتعاط ايجابيا مع هذا الكم من التنازلات وواصلت رفضها لاقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على اجزاء من الاراضي المحتلة في يونيو 1967! وكان اخطر ما كشفته الوثائق ان المفاوض الفلسطيني كان يمارس مهمته دون مرجعية او مراقبة او مساءلة مقدما التنازلات واحدة تلو الاخرى بينما رفض المفاوض الاسرائيلي - في كل المراحل- التنازل عن اي من مواقفه الثابتة على اساس انه غير مفوض وليست لديه الصلاحيات اللازمة! ويبدو هذا طبيعيا ومفهوما في ظل الواقع السياسي الراهن، فالمفاوض الفلسطيني هو نتاج نظام عربي شمولي يخضع بالكامل لتعليمات "الزعيم" على عكس المفاوض الاسرائيلي الذي يمارس عمله باعتباره مسئولا امام مؤسسات وحكومة مسئولة بدورها هي الاخرى امام برلمان ! وهكذا ابدى المفاوض الفلسطيني طبقا للوثائق التي كشفتها "الجزيرة" استعداده للتنازل عن عن اجزاء واسعة من القدسالشرقية مع القبول ببقاء معظم المستوطنات القائمة فيها فيما عدا مستوطنة جبل أبوغنيم في حين رفض المفاوض الاسرائيلي اي حديث عن القدس باعتبارها عاصمة ابدية وموحدة لاسرائيل. وكان غريبا ان يطرح كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات حلا غير مسبوق لتقسيم القدس والتخلي عن الحرم القدسي الشريف وإخضاعه للجنة دولية بل وتأجيل ملفه الى مفاوضات لاحقة. كما تخلي ياسر عبد ربه عن حق العودة اكتفاء بعودة 100 الف لاجيء من لاجييء 1948 خلال عشر سنوات من بين 5 ملايين فلسطيني موجودين حاليا في الشتات الى جانب عرض لتبادل الاراضي والسكان. وخلافا لكل المواقف العلنية وافق المفاوض الفلسطيني على الاعتراف بيهودية اسرائيل وهو مايعني عمليا اعطاء الضوء الاخضر لطرد 1،2 مليون فلسطيني يعيشون داخل حدود 1948 وكانت المأساة الكبرى التي كشفتها الوثائق حجم التنسيق الامني وان قادة السلطة الفلسطينية تلقوا معلومات مسبقة عن الحرب التي شنتها اسرائيل ضد قطاع غزة في آواخر عام 2008 وكان اخطر ما كشفته الوثائق جرأة المفاوض الفلسطيني غير المسبوقة في التعامل مع قضايا حساسة من بينها الوضع القانوني لمدينة القدس والحرم القدسي واللاجئين والحدود دون ان يكون لديه تفويض حقيقي ومباشر من الشعب الفلسطيني. وازاء هذا الكم المرعب من المعلومات التي تضمنتها 1600 وثيقة موزعة على 6500 صفحة كان من الطبيعي ان تشن السلطة الفلسطينية هجوما عنيفا على قناة الجزيرة، وان تتهمها بالتضليل والتشهير ونشر الاكاذيب ، وقالت السلطة ان المفاوضات مع اسرائيل تمت بالتنسيق الكامل مع الزعماء العرب والجامعة العربية، دون اي اشارة الى الشعب الفلسطيني بوصفه صاحب الحق الوحيد في تقرير المصير . وفي هجومها على "الجزيرة" لم تشر السلطة الفلسطينية مجرد اشارة الى الجهة التي سربت الوثائق، مع ان دلائل عديدة تؤكد ان الذي سربها هو العقيد محمد دحلان في ظل الصراع الدائر حاليا بينه وبين الرئيس عباس. فدحلان لا يخفى رغبته في الانتقام من ابو مازن بكشف التنازلات التي قدمتها السلطة لاسرائيل ردا على محاولة الثاني انهاء دوره السياسي واتهامه بالفساد. ويبدو ان الكشف عن الوثائق جاء في اطار الصراع الدائر بين الرجلين، فانصار دحلان سبق ان كشفوا شريطا مصورا لمدير مكتب ابومازن وهو في وضع غير اخلاقي مع فتاة، وقالوا ان لديهم وثائق اخرى تدين شخصيات كبيرة في السلطة، ولعل هذا ما دفع ابو مازن للمضى قدما في تقليص صلاحيات دحلان ثم احالته اخيرا للتحقيق بتهمة التآمر على الاطاحة به! بالطبع ما يجري على الساحة الداخلية الفلسطينية لا يهم احدا سوى الشعب الفلسطيني، وسواء نجح عباس في التخلص من دحلان او تمكن الثاني من خلافته، فالمهم هنا هو ان الوثائق التي بثتها "الجزيرة" كشفت بوضوح هشاشة موقف المفاوض الفلسطيني، كما كشفت – وهذا هو الاهم- التناقض بين التصريحات العامة والخاصة للمفاوض الفلسطيني، وهي عموما ظاهرة عربية بالاساس فمايقال في الغرف المغلقة لاعلاقة له بما يقال امام الميكروفونات! وامام هذا الكم الهائل من الوثائق التي كشفتها "الجزيرة" كان من الطبيعي ان تلجأ السلطة الفلسطينية للتشكيك في صحتها رغم ان الشريكين الامريكي والاسرائيلي لم يكن لهما نفس الموقف، فوزير خارجية اسرائيل المتطرف أفيجدور ليبرمان قال ان الوثائق "الرسمية" التي عرضتها "الجزيرة" اثبتت "فشل" المفاوض الإسرائيلي في التوصّل إلى اتفاق رغم "التنازلات السخيّة" المطروحة عليه. اما الخارجية الامريكية فلم تشكك في الوثائق وقالت انها تعكف على دراستها داعية اسرائيل والفلسطينيين الى استئناف المفاوضات. وكان مثيرا للدهشة اعلان الرئيس ابو مازن انه سوف يتخذ في المستقبل قرارا لا يخطر علي بال أحد وهو حل السلطة الفلسطينية أذا وصلت مفاوضات السلام الى طريق مسدود. بصراحة القراءة المتأنية لوثائق "الجزيرة" أكدت بوضوح ان السلطة لم تقدم شيئا للفلسطينيين طوال السنوات العشر الماضية وان المستفيد الحقيقي من تمثيلية ما يعرف بعملية التفاوض هو اسرائيل!