في حياتي لم أسمع أغنية وطنية بمثل هذه الروعة والجمال والتلقائية والنفاذ إلى أعمق أعماق النفس ، في حياتي لم يمتعني موال في حب الوطن والحرية والكرامة مثل هذا الذي سمعته أمس من مواطن تونسي لا أعرف اسمه ، رغم أن الملايين استمعت إلى مواله وبكت معه بعد أن انتزع الدموع من ملايين المآقي بصدقه وعفويته ولمسه أوتار الحزن التي تسكن ملايين المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج ، الذين يشعرون بمثل ما يشعر به هذا التونسي الجميل ، والذين يتوقون لتلك اللحظة الرائعة ، لحظة الانتصار على الاستبداد والطغيان . لم يكن في أغنيته أو مواله أي مؤثرات صوتية ، لم يكن هناك موسيقى غربية أو شرقية ، لم يكن هناك ملحن أو موزع ، لم يكن هناك كورال يعاونه ويرصد صداه ، لم يكن أمامه أجهزة صوتية حديثة وحساسة كتلك التي يضعونها في الاستديوهات الحديثة لتجعل صوت البعير أغنية ، فقط كان معه الليل والصمت والشوارع المفرغة من البشر بفعل قرارات حظر التجول التي فرضت في أعقاب فرار الطاغية بن علي ، وكان معه أيضا توهج الصدق والنشوة الفطرية العارمة والتي تلامس حافة الجنون من فرط الفرحة بالانتصار على 23 عاما من القهر والإهانة والتهميش والإذلال . كان ينادي في مواله الجميل في أهل بلده ، تونس حرة ، الشعب التونسي ما ماتش ، الشعب التونسي حر ، عاشت الحرية ، المجد للشهداء ، يا شعب تونس ، ما عاد فيه خوف ، بن علي هرب ، المجرم هرب ، اللي قهركم هرب ، اللي سرقكم هرب ، اللي سجنكم هرب ، المجرم هرب ، بن علي هرب ، ما عادش خوف ، عاشت تونس حرة ، المجد للشهداء ... كان يقطع الشارع الفارغ جيئة وذهابا وهو يردد عباراته الموجزة ، ويميل جسده ذات اليمن وذات الشمال وإلى الأمام حتى تكاد رأسه تلامس الأرض ثم ينتصب بقامته معليا هتافه الذي نقلته عدة قنوات فضائية وتداولته الآلاف من مواقع الانترنت ، في الشريط الذي أضع رابطه في نهاية مقالي هذا عجز الشيخ راشد الغنوشي ومقدم البرنامج الذي يستضيفه في إحدى القنوات الفضائية عن أن يمسك دموعه أو يوقفها ، ومن هذا الذي يمكنه أن يوقف تسلل دموعه وهو يسمع هذا الموال الرهيب ، الذي ينتزع دمعاتك من جذر القلب وليس من مآقي العين ، بكى الجميع دون قدرة على تفسير سبب محدد لهذا البكاء ، النصر يستدعي البهجة ، يستدعي الفرحة ، يستدعي الضحك ، يستدعي الابتسام ، فلماذا أبكانا هذا الموال الرهيب ، موال النصر ، هل نبكي تأثرا من أحد مشاهد النصر ، صدمة الفوز الذي لم يكن يصدقه أحد أبدا قبل أيام قليلة ، هل نبكي شوقا للحظة فوز كتلك التي عاشها هذا التونسي الرائع الذي انفلتت كل مشاعره وخواطره وكلماته من كل عقال وكل قيد وكل رقيب ، فأطلق أجمل أغاني النصر وأعذب مواويل الحرية . إن هذا التلاحم الإنساني والعاطفي المثير ، بين جماهير الأمة العربية في كل مكان وكل مدينة وكل قرية وبين أهل تونس وانتفاضتهم ونصرهم ، يكفي وحده إنذارا لكل الطغاة ، أن نسائم الحرية هبت من هناك ، ولن توقفها حدود ، وسوف تتبلور نتائجها حتما في عواصم عربية كثيرة عما قريب ، فالكل الآن عاش لحظة النصر أو ظلا من ظلها ، والجميع أدرك أن كسر شوكة الاستبداد ممكن ، والجميع أدرك أن النصر هو صبر ساعة أو أيام ، والطغاة لا صبر لهم ، لأن الخوف يحاصرهم من كل جانب ، إذا هبت الشعوب ، شرارة الغضب التي انطلقت من " سيدي بوزيد" لتشمل تونس كلها ، تجاوز وهجها الحدود ، ووصل بعض لفحها إلى عواصم عربية عديدة خلال أيام قليلة ، حيث لا تخطئ العين والسمع تلمس أصداء الهلع الذي يعيشه أكثر من نظام عربي الآن . [email protected] رابط الموال التونسي الشهير : http://www.youtube.com/watch?v=A6zO-L2asYA