فجأة انفجر بركان الغضب فى تونس الهادئة، أو التى كانت تبدو هادئة ، بينما اتضح أنه الهدوء الذى يسبق العاصفة. ما زالت الاحتجاجات تتوالى منذ أسبوعين، فمن حيث لا يحتسبون انطلقت شراراة الأحداث من ولاية "سيدى بوزيد" جنوب العاصمة تونس، حيث شهدت يوم الجمعة 17/12 احتجاجات سلمية تصدت لها قوات مكافحة الشغب وقوات البوليس فتحولت إلى اشتباكات مع الشرطة فى أعقاب إقدام الشاب "محمد البوعزيزى" البالغ من العمر 26 عاماً بمحاولة انتحار بإحراق نفسه أمام مبنى الولاية بعد مشاجرة تصدى فيها لمحاولة الشرطة مصادرة عربة يدوية يقوم ببيع الفاكهة والخضار عليها فى السوق وهو العائل الوحيد لعائلته، بذريعة عدم وجود ترخيص معه. كان شعار الاحتجاجات التى انتقلت فى اليوم الثانى إلى عدة مدن وولايات وما زالت بعد أن وصلت إلى العاصمة هو "كفاية بطالة .. كفاية فقراً " سقط حتى الان عدة ضحايا، بعضهم انتحر عندما تسلق عموداً للضغط الكهربائى ولمس الأسلاك فصعق كهربياً، والآخر برصاص الشرطة، وهناك عشرات من المعتقلين، وجرحى لا يتم الإفصاح عن عددهم حتى الآن. كانت ردود الأفعال الحكومية لتسكين الأحوال غير مجدية حتى الآن، ولم يقتنع التونسيون بجدوى تلك الإجراءات، ولذلك استمرت المظاهرات طوال الأسبوعين الأخيرين وانتقلت من مكان إلى مكان، وأصبحت خبراً ثابتاً فى نشرات الأخبار فى معظم وسائل الإعلام. بدأت ردود الفعل بالإعلان عن تخصيص مليارات الدولارات لتنمية مناطق الأحداث، ثم خرج الرئيس نفسه ليعلن عن تفهمه وتعاطفه مع المحتجين وحاول شرح ظروف البطالة كمشكلة عالمية، وهدّد فى نفس الوقت هؤلاء الذين يركبون موجة الأحداث، واتهم قناة الجزيرة وغيرها بالتهويل وصناعة الأكاذيب، مما أطلق موجة من البيانات للاتحادات والنقابات الرسمية ضد "الجزيرة" وضد المتظاهرين، ثم بدأت سياسة التضييق على المظاهرات والاحتجاجات حتى لا تمتد وتشتد أكثر من ذلك. اضطر الرئيس لاتخاذ المزيد من الإجراءات لامتصاص ردود الفعل التى لم تستجب لندائه الأول، فقابل أسر الضحايا ثم أجرى تعديلاً وزارياً شمل عدّة وزراء ظهروا كأنهم ضحية الاحتجاجات ( الشباب والاتصالات والتجارة) ثم بعد أيام عزل 3 ولاة (محافظين) اندلعت الأحداث فى ولاياتهم، مما يدلل على أن رسالة الاحتجاجات لم تصل إلى الرئيس فى حقيقتها بعد، وكأن هؤلاء الوزراء والولاه هم المسئولون، وكان السياسات العامة التى تتخذها تونس سليمة والمشلكة فى التطبيق، وهذا يدل على أمر خطير؛ وهو انفصال نخبة الحكم تماماً عن الشعب التونسى، وعدم إدراك جوهر المشكلة وهو الاستبداد الذى أغلق كل أبواب الحلم فى التغيير السلمى الديمقراطى، والفساد الذى نهب ثروات البلاد وحوّل الحكم إلى مغنم شخصى لعائلة الرئيس ومن حولها من المنتفعين، والقمع البوليسى الذى – إن نجح إلى حين فى كبت الحريات – فإنه لن يستطيع السيطرة على شعب بأكمله. لذلك ذهب بعض المراقبين فى الصحف الخارجية – كمراسل الجارديان البريطانية، إلى أن تلك الاحتجاجات هى فى جوهرها رسالة مضمونها انتهاء حكم الرئيس زين العابدين بن على بعد 23 سنة فى الحكم ، وأن المسألة مسألة وقت لا غير حتى يحدث التغيير،ويقوم شخص آخر بتسليمه إنذار لترك قصر الرئاسة كما فعل هو شخصياً من قبل عندما قام عام 1987 بانقلاب قصر على رئيسه "بورقيبة" بعد مرور 3 سنوات على أحداث مشابهة عرفت وقتها بانتفاضة الخبز عام 1984م. إذا كان الإنذار التونسى لن يجد - فى الغالب – أذناً صاغية لدى نخبة الحكم التونسية، وأن أقدار الله ستجرى وفق حكمته فإن العقلاء خارج تونس عليهم أن يستمعوا بجدية إلى صدى ذلك الإنذار فى بلادهم فالعاقل من اتعظ بغيره، وما أكثر الانذارات التى تأتينا من بلاد مجاورة كالسودان والعراق واليمن ولبنان. يحمل الإنذار فى بدايته أهمية الاستقرار الحقيقي وليس الاستقرار الزائف، هناك استقرار غير حقيقى نتيجة للقمع الأمنى ،والتعتيم الإعلامى، وكبت الحريات ، وتسكين الأزمات. هذا الهدوء الظاهرى قد يستمر لبعض الوقت، ولسنوات وقد يمتد أحياناً لعقود من الزمان، ولكنه ينفجر فجأة فى وجه الجميع دون تحسب أو انتظار، كما يقول الله تعالى { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴿47﴾ } [الزمر] ، وقد يأتى الانفجار من حيث لم يحتسبوا { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } [الحشر : 2] الاستقرار الحقيقى يجب أن يُبنى على أسس حقيقية فى السياسة والاقتصاد والإعلام والحريات فى المجال العام. عندما تغيب المحاسبة والمساءلة والعقاب والثواب نتيجة غياب الشفافية وتداول المعلومات، فلتنتظر المفاجآت والانفجارات. عندما يغيب التداول السلمى على السلطة، حتى ولو كان على المقعد الثانى وليس المقعد الأولى، وعندما لا تكون هناك تعددية سياسية حقيقية وحياة حزربية سليمة، وانتخابات حرة نزيهة، فلتننظر المظاهرات والاحتجاجات. عندما يتحول الإعلام الرسمى إلى أداة لتخدير الشعب، وإطلاق الأكاذيب الرسمية ويُصبح بوقاً لنخبة الحكم، ينصرف الناس إلى وسائل أخرى لمعرفة الحقائق وتنتشر سريعاً شرارة الغضب من مكان إلى مكان، وفى ظل التطور الكبير فى وسائل الاتصالات ، وعدم إمكانية فرض التعتيم الإجبارى، سيصبح الناس جميعاً أدوات إعلامية تنقل الخبر وتنشر الحدث إلى أرجاء الدنيا، فيتحرك الساكن وينتفض المقموع وتندلع شرارة الغضب لتتحول إلى حرائق تنتقل من مكان إلى مكان . عندما يتعود الشعب على التعامل اليومى مع آلة القمع البوليسية، يتراكم رصيد الغضب يوماً بعد يوم، ويظل يتصاعد فى انتظار شرارة ما، قد تأتى من مكان ما، فى وقت لا يتوقعه أحد، ليفشل جهاز القمع الجبارعن أداء دوره، فيتحول قادته إلى تحميل المسئولية على نخبة الحكم المحيطة بالرئيس، وعلى الرئيس نفسه لتصبح المسألة مجرد وقت لإزاحته عن سدّة الحكم ليتكرر سيناريو انقلاب القصر، إذا لم يكن الشعب يمتلك إرادة التغيير الجادة ليحدث تحولاً حقيقياً، ويستمر فى غضبه ضد السياسات ومنظومة الحكم نفسها ولا يظل فى انتظار منقذ أو مخلص يعود بالأمر إلى سيرته الأولى. لقد لفت انتباهى أن الرئيس "بن على" حمّل الشاب الذى أقدم على محاولة الانتحار مسئولية الانتحار حيث قال : إن البعض لهشاشته النفسية قد يقدم على محاولة يائسة للانتحار، وكذلك حذّر من لجوء أقلية سماها (من المتطرفين والمحرضين المأجورين) إلى العنف والشغب لأن ذلك يعطى صورة مشوهة عن بلادنا تعوق إقبال المستثمرين والسياح بما ينعكس على توفير فرص عمل للحد من البطالة، وأعلن أنه سيطبق القانون على هؤلاء بكل حزم. نسى الرئيس أن سياسته منذ عقدين من الزمان ركزّت على محاربة الحركة الإسلامية مما اضطر قياداتها إلى الخروج من البلاد بعد قضاء سنوات طويلة فى المعتقلات والحرمان من أى فرص نشاط بسبب المتابعات الأمنية، ثم انتقل النظام إلى سياسة "تجفيف المنابع" فى حرب ضد التدين نفسه حتى فى أبسط مظاهرة للبس الحجاب وارتياد المساجد للصلاة فى جماعة . فإذا كانت هذه هى سياسة النظام فماذا ينتظر من عواقبها سوى هشاشة نفسية، لأنه إذا غاب الإيمان الحقيقيى، وحورب الإسلام فى مظاهره البسيطة فمن أين يستمد الشباب قوة نفسية لمواجهة صعاب الحياة، تمنعهم من اللجوء إلى الانتحار والتخلص من حياة بائسة لا أمل فيها أو اللجوء إلى إدمان المخدرات لنسيان الواقع والحياة فى سراب الأوهام، مما يؤدى بهم إلى عالم الإجرام لتوفير نفقات الإدمان. وإذا كان هم الرئيس هو جلب الاستثمارات فالسؤال هو أين تذهب عوائد تلك الاستثمارات ؟ ولماذا لا يتم إعادة تدوير عوائد السياحة بحيث لا تقتصر على الساحل الشمالى فقط، فقد انطقلت الأحداث من الداخل التونسى قبل أن تنتقل إلى العاصمة، وانتبهت الحكومة مؤخراً وبدأت البيانات تتوالى عن الاهتمام بالجهات المختلفة. الإنذار التونسى هام لنعيد ترتيب أولوياتنا خاصة فى مجال التنمية وتوزيع حصص الاستثمارات وعوائد التنمية بعدالة تشمل الجميع. وأيضاً إعادة رسم السياسة الأمنية ليعود الاهتمام بأمن المجتمع والمواطن بدلاً من الاهتمام بأمن الرئيس والنظام، ويعود جهاز الشرطة لخدمة الناس بدلاً من خدمة الحزب والحكومة، ولنا الآن فى ظلال حادثة الأسكندرية البشعة التى راح ضحيتها 21 قتيلاً وأكثر من 43 جريحاً عبرة فى إعادة رسم السياسات الأمنية خاصة وقد أتى الحادث عقب تهديدات خطيرة من تنظيمات غير مصرية ويحمل تطوراً نوعياً هاماً بتفجير سيارات ملغومة لم تعرفها مصر من قبل مما يعنى اختراقاً أمنياً خطيراً. ولابد كذلك من إطلاق الحريات العامة لكل التيارات والقوى السياسية لتستوعب طاقات الشباب، مع فتح مجال التغيير السلمى والتداول على السلطة بطرق دستورية. أما الإعلام وحريته فهذا حديث ذو شجون، فلم يعد يجد أية إجراءات للتعتيم والإظلام، فلعل هناك عاقل يرى ويسمع ويعقل ما جرى فى تونس الخضراء التى يوشك أن تتحول إلى حرئق تحرق الجميع.