مواجهة الشخصيات الخطرة فى ثقافة القمع الغربي لها تكتيك معروف، تسير خطواته بالترتيب التالى: حدد الخطر كهدفٍ معادٍ، توخّى الحذر منه، ولكن أظْهِِر الاستهانة به، للتقليل من شأنه وإضعاف روحه المعنوية.. حاصره حتى لا ينتشر تأثيره فى رقعة أوسع، وذلك بتلفيق التهم وتشويه سمعته وأهدافه عند الآخرين، .. هدّده بالتلويح بعمل رادع، مع تعليق جزرة أمام عينيه لا يراها غيره، كجائزة خفية إذا أحسن الاستماع وتراجع.. فإذا لم يرتدع فى أى من هذه المراحل، ومضى فى غيّهِ بلا مبالاة، صوِّبْ عليه بإحكام، وتخلّص منه مرةً واحدة، بحادثة غامضة أو برصاصة طائشة.. وبذلك ينتهى الخطر...! [لاحظ أننا فى ثقافتنا القمعية نضيف أحيانا إلى هذه الخطوات المنهجية عند التطبيق إجراءً أكثر تقدما وأكثر فاعلية، وهو خطف الضحية ووضْعها وراء الشمس...!]. فإذا تجاوزنا هذه الملاحظة العابرة أقول: إن هذا التكتيك هو بالضبط ما تتبعه أمريكا بحذافيره تجاه جوليان أسانج صاحب موقع ويكيليكس الذى تفجرت شهرته فى الأشهر الأخيرة من العام المنصرم2010 ميلادية.. جوليان أسانج أسترالي من ولاية كوينزلاند .. ومن الصدف العجيبة أن هذه الولاية الآن غارقة فى الفيضانات، التى تغطى ما يقرب من ثلث مساحتها ، أو مايساوى مساحة كلٍّ من فرنسا وألمانيا معا.. فهى ولاية فسيحة الأرجاء .. وكما تحاصر مياه الفياضانات المدمرة ولاية كوينزلاند، فإن "جوليان أسانج" إبن الولاية المغترب مُحاصرٌ هو أيضا بمخاطر مهلكة.. لأنه تجرأ على كشف الحقائق المستورة فى وثائق أمريكا السرية.. وإذا به يجد نفسه وجها لوجه أمام عالم يحكمه الكذب والجشع والفساد...! لقد حاولت أمريكا أول الأمر دفع الحكومة الاسترالية لإسٍقاط الجنسية عن أسانج.. حتى يصبح كالفأر الحائر بين الأصابع الأمريكية.. ولكن الشعب الاسترالي خرج فى مظاهرات حاشدة ضد هذه المحاولة، فتراجعت الحكومة واعتذرت عن تحقيق هذه الرغبة الأمريكية... رأيته فى برنامج "بلا حدود" بالجزيرة يحاوره أحمد منصور.. وهو يتلقى أسئلة شديدة الحساسية بإنصات وهدوء، ويجيب عليها بصوت هادئ واثق خالٍ من الانفعالات، بكلمات موزونة منضبطة بميزان العقل والمنطق.. يغلب عليها الصدق وعدم التَّكلّلف.. فقلت لنفسى يصعب أن يكون مثل هذا الرجل دعيّ أو مختلق أو كذاب.. أو حتى طالب شهرة أو طالب مال.. فماذا تُغْنِيهِ خزائن الأرض كلها...؟ وهو يضع حياته على كفيه فى مواجهة أشرس وأعتى قوة شريرة فى العالم، قوة أمريكا.. ويواجه كل حكومات العالم الغارقة فى الكذب والنفاق والفساد.. إن موقع ويكليكس يعرّى الجميع بنشر الحقيقة السافرة المجرّدة.. هذا موقف لم يحدث فى تاريخ البشرية من قبل، باستثناء عصر النبوات والزعامات الراشدة.. ولذلك يتهمونه باغتصاب إمرأة فى السويد ويطلبون محاكمته هناك، وهو يعلم أنه لو استسلم لهم فسينقلونه إلى أمريكا ليواجه تهمة أخرى بالتجسس وستنتهى حياته فى سجن مثل سجن جوانتانامو.. فآثر أن يحارب معركته فى بريطانيا.. وهو واثق من براءته .. واثق بأن العدالة البريطانيّة لم تفسد بعد كما فسدت العدالة الأمريكية... الوثائق التى سّربت إليه تُعذُّ بالملايين، يقوم مع فريق كبير من أعوانه الخبراء بفرزها وفحصحها قبل ضمِّها إلى الموقع، ألذى أصبح أكبر مصدر للوقائع الموثّقة، وأكثرها اجتذابا للباحثين عن الحقيقة وهم عشرات الملايين.. ولقد كشف الرجل أن أعوانه المتطوعين موجودين فى البنتاجون والخارجية الأمريكية، وأجهزة الاستخبارات الأمريكية.. فلعلها صحوة ضمير لنفر قليل من البشر فى هذه المواقع بالغة الحساسية.. أفْزَعَهُمْْ أن يشاهدوا حجم الظلم والقهر الواقع على البشر الأبرياء المستضعفين، فى العراق وأفغانستان، وحجم الكذب والزيف وتزوير الحقائق الذى تمارسه حكومتهم لا لخدمة الشعب الأمريكي، ولكن لخدمة فئة قليلة من أصحاب الشركات الكبرى، لا يشبعون من نهب ثروات العالم الفقير.. ولا يبالون بسحق أبناء الشعوب المستضعفة.. لَعَلّ ظهور هذا الرجل فى هذا الوقت الذى استشرى فيه الكذب والظلم والتدمير الأعمى الذى تفرضه أمريكا على العالم.. وإصراره على نشر الحقائق وكشف الذرائع الزائفة التى تغطِّى بها أمريكا على جرائمها اليومية.. لعله لحِكْمةٍ إلهية، لا نستطيع الإحاطة بها ولا ثَبْرَ أغوارها.."وأنّا لا ندرى أشرٌّ أُرِِيدَ بمن فى الأرضِ أمْ أرادَ ِِبهمْ ربّهم رَشَدًا"...! والذى نستطيع أن نؤكده أن ظهور جوليان أسانج هو نقطة تحوّل فارقة فى تاريخ العلاقات السياسية والدبلماسية بين الدول من ناحية وبين أمريكا من ناحية أخرى.. سنشهد تداعياتها فى العام الجديد 2011.. كانت أول الوقائع التى انكشفت فيها مزاعم أمريكا الكاذبة فيلم مصور، سرّبه أسانج إلى الإعلام العالمى لا يستغرق عرضه أكثر من بضع دقائق، ولكنه أحدث هزة مزلزلة أطاحت بما تبقّى لأمريكا من مصداقية .. يصور الفيلم طائرة هليكوبتر أمريكية تهاجم مجموعة من المدنيين العراقيين، ظلّت تطاردهم، وهم يحاولون الفرار منها دون جدوى فقد تمكّنت منهم وأخذت تمطرهم بوابل من الرصاص حتى قتلتهم جميعا.. ثم ادعت أمريكا أنها قتلت مجموعة من المسلحين كانوا يهاجمون أهدافا لتدميرها.. سأله أحمد منصور ما هدفك من نشر هذه الوثائق السرية..؟ فأجاب: لِكَىْ يعرف الناس العاديين فى العالم كله ما يجب أن يعرفوه، و يصحّحوا أفكارهم ومواقفهم .. ثم أضاف أن هذه محاولة لأداءِ مهمة فشلت فى أدائها المؤسسات الإعلامية والصحفية العالمية الأخرى.. سأله: هل تعتقد أن لهذا العمل تأثير فى التغيير الذى تتطلّع إليه...؟ أجاب: نعم.. فبسبب نشر هذه الوثائق كشفنا عن انتهاكات صارخة لم يكن الناس يعلمون عنها شيئا، فلما تبَدّت لهم فى العلن استقال وزير دفاع الدنمارك، واستقال رئيس وزراء تنزانيا .. وحدثت هزة مماثلة فى كينيا.. وظهرت آثارها فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة.. واستطعنا أن نميط اللثام عن خمسمائة مليار دولار يحيط بها الفساد.. ولدينا المزيد من الوثائق التى تثبت أن استهداف المدنيين فى العراق وأفغانستان جريمة مخططة ومقصودة، وليست من قبيل الصدفة كما يزعمون.. نعم لدينا المزيد من الوثائق الأكثر حساسية عن الحوارات السرية التى تجرى خلف الكواليس السياسية والدبلماسية، نقوم الآن بفرزها تمهيدا لنشرها فى الوقت المناسب.. سأله: مع التهديدات التى تلاحقك والمحاكمات التى تنتظرك، ألا تشعر بالخوف..؟ قال: لست خائفا ولكننى حذر.. وهناك مَنْ يساعدنا مِن داخل المؤسسات الرسمية، نعرف عن طريقهم ما تدبّره لنا هذه المؤسسات مِنْ هجمات مقبلة.. ومنها: تُهَمٌ بالتجسس والتجارة فى المخدرات وغير ذلك.. ومن ثَمّ نحتاط لها بالاستعدادت القانونية والإعلامية.. وبتحرّى الدقّة فيما ننشر.. وكلّما صعّدوا هجماتهم وأحكموا تدابيرهم نواجههم بحقائق أكثر حساسية تزلزل مواقعهم... فى مقابلة سابقة من نفس البرنامج "بلا حدود" سأله أحمد منصور: ماهى غايتك القصوى من متابعة نشر هذه الوثائق رغم ما تتعرض له حياتك من مخاطر...؟! قال ببساطة: أن يتوقّف نهب العالم واستغلال الشعوب لصالح فئة قليلة جشعة من البشر.. نريد ن نقطع رأس الحية.. وفى النهاية يصبح العالم أفضل وأكثر عدالة...! هذه إذن هى جريمة جوليان أسانج الحقيقية الذى صدر بحقه حكم مسبّق بالتصفية المعنوية ثم الجسدية: إنه يريد للبشر أن ينعموا بعالم أفضل تسوده العدالة.. وأقول: أليس هذا من صميم رسالة الإسلام وجوهره.. إنها إِذَنْ الفطرة التى فطر الله الناس عليها.. يصل إليها قِلّة من البشر، مَنْ تحرّى منهم التجرّد لهدف إنساني نبيل.. بتحرير نفسه و عقله من أسر الهوى، ومن طغيان المعتقدات الاجتماعية والدينية الزائفة.. واستطاع أن يسقط عن عينيه غشاوة الهالات المقدسة التى صنعتها الأهواء والمصالح السياسية والاقتصادية والسلطوية الجائرة.. إذا تحرّر الإنسان من كل هذه الأوهام، عندئذ سيجد نفسه أمام عتبة الإسلام [عالم أفضل تسوده العدالة] .. فقط لو رفع رأسه قليلا ليرى إشارة الطريق..! سأله أحمد منصور ماذا تتوقع لنجاح مهمتك...؟! فقال: أن يجتمع على هذا الهدف نفسه أكبر عدد من الناس الذين يتمتعون بقدر كَافٍ من الشجاعة.. إننا نصنع القدوة والنموذج من أنفسنا.. ونتقدم المسيرة.. وأنا واثق أن الشجاعة مُعْدية... فهل الشجاعة مُعْدِيةٌ حقّا...؟! [email protected]