تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة المغفور له -بإذن الله- الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي، (رحمه الله وأكرم مثواه)، وكنت قبل ذلك قد علمت بالمرض العضال الذي لم يمهله طويلا، جعله الله كفارة للذنب، وتطهيرًا للقلب، ليسكن إلى جوار النبيين والصديقين والطيبين الأبرار. لا أدري ءأُعزي نفسي أم أعزي أولاده وتلاميذه ومحبيه في وفاة والدنا ووالدهم الدكتور الماحي (رحمه الله)، فلقد تشرفت بمعرفة الراحل الفاضل، منذ نحو عشرين عامًا تقريبا لم أر فيها منه إلا تواضعا الكبار وسموا في أخلاقه قل نظيرها.. ومنذ أربعة أشهر تقريبًا وقبل أن يخط الموت خطوط النهاية في حياته، التقيته في الرياض، فأقبل علينا كعادته بسمو أخلاقه.. ألاق الجبين مشرق الوجه بسام المحيا، في عينيه تشعر بسعة الكون، ومن مفردات كلماته، ووصاله مع الله، تشعر أنه صديق الوجود.. كان شامخا ومعطاء كشجر النخيل، وكنت دائما حينما أراه أشعر أننا إزاء رجل.. رجل من الذين قال الله فيهم (من المؤمنين رجال...). لقد أعطاه قلبًا كبيرا مثل السماء في اتساعها، وأعطاه الله قلمًا أبان به الحق، ووهبه الله نفسًا سخيةً، جمعت حوله المحبين من كل مكان.. عرفته أبًا حنونًا مساندًا على تحمل الصعاب، ومجاملا.. وعالمًا جليلا أنفق عمره سمحا في أداء رسالته تجاه دينه وأمته ووطنه، وأدى واجبه بكل جد ووفاء وسخاء.. ولكن ماذا سنقول أمام قضاء الله عز وجل وقدره؟. وهكذا في كل يوم تتواتر علينا الحقائق بأن الموت آت لا محالة، فالموت يسطو على الحياة في جنح الليل وفى وضح النهار، ولا يفرق هذا القدر المقدور بين شيخ وشاب ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين مطلوب أو مزهود فيه، إنه تجلِّى لقانون القهر الإلهى، ومظهر من مظاهر مساواة البشر..كل البشر أمام هذا القانون. وفي ذلك يقول أستاذنا الدكتور إبراهيم أبو محمد: "...وإذا كان الضحايا من أبناء البشر بمآت الآلاف في كل يوم ولكن الذاكرة الإنسانية تتوقف فقط عند بعضهم. وقليلون هم أولئك الذين يرحلون عنَّا ويودعون دنيانا وقد تركوا بصمات غائرة في عمق النفس وفي ميادين الحياة؛ فكانوا للدنيا منارات وللخير والبر علامات.. أولئك الرجال يحزن الكون عليهم حين تخلوا منه أماكنهم وتتوقف عن الشهيق والزفير صدورهم.. قليلون هم أولئك الذين ارتفعت هممهم لمعالى الخلود بمواقفهم، فطرقوا أبوابه حتى دخلوا، وبقيت كلماتهم بعد رحيلهم حية نابضة". ولقد كان فارسنا المفكر الإسلامي والعالم الجليل الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي واحدًا من هؤلاء. يتمتع بروح تألف من يقبل عليه فتحبه ويحبك، على ملامحه تبدو البساطة والأصالة، فتواضعه ممزوج بالعزة، وقوة تماسكه ممزوجة بالحنان وقدرته فائقة على تجاوز الصعاب وتحدى المتاعب مهما كانت ثقيلة. ولن تنسينا الأيام والسنون بشاشة وجهه، وذكاءه الحاد، وفكره المتوقد، واحترامه الصغير قبل الكبير، وحُبّه الشباب وتبني النابغين منهم، واعتماده على النفس، وطول النَّفَس في العلم والعمل، وصبره على تحمل الأحقاد وتسامحه مع أصحابها.. ولن تنسينا الأيام والسنون ما طرقه قلمه من كتابات رائدة تلمست الواقع الإسلامي بمشكلاته وتحدياته وهمومه وقضاياه المصيرية خصوصا في القارة الإفريقية، بعمق المؤرخ الذي ينظر إلى بعيد، وهو يحمل تجارب السابقين، وخبرات الأمم الغابرة.. وينظر إليها برؤية العالم والفقيه المدقق، فضلا عن سعيه الحثيث لتنقية المجتمع الإسلامي الكبير من براثن التخلف والخرافات والعشوائيات الفكرية والثقافية، وتخليصه من معاول الهدم، وكان يعمل على تعزيز التعاون الإسلامي من ناحية، وبناء العقل المسلم لينهض بدوره في البناء وتحقيق الرخاء من ناحية أخرى. ولن تنسينا الأيام والسنون أياديه البيضاء في خدمة العلم والدين واللغة العربية، وترسيخ التواصل الإسلامي الإفريقي، ودوره الرائد في تطوير جامعة الملك فيصل بتشاد والارتقاء بها خلال فترة رئاسته لها؛ لتقوم بدور ريادي في القارة الإفريقية، باعتبارها جامعة إسلامية عربية تخرِّج أجيالاً من الدعاة والعلماء المسلمين الأكفاء، ويدرس بها طلاب من مختلف دول أفريقيا، وتوفر لهم بيئة إسلامية وأكاديمية تساعدهم على البحث والتحصيل.. وصدق الشاعر العربي حين قال: مات قوم وما ماتت مآثرهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات إن وفاة العلامة الزاهد، أحد كبار علماء الأمة الإسلامية العاملين ودعاتها الصادقين –نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- الدكتور عبد الرحمن الماحي (رحمه الله) ليلة الثلاثاء 8 من المحرم 1425ه الموافق 12 من نوفمبر 2013م، تعد خسارة كبيرة للأمة العربية والإفريقية والإسلامية. وإذا كان مصابنا أليمًا في وفاته -رحمه الله- فعزاؤنا أنه ترك تراثًا خالدًا، سيكون –بإذن الله- معينًا لا ينضب للأجيال القادمة.. وندعو الله سبحانه وتعالى أن ينعم عليه بشآبيب رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يرد حوض المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة. عظَّم الله أجر أولاده وتلاميذه ومحبيه، وألهمهم جميل الصبر والسلوان، فأجر الله وثوابه خير عوض في كل مفقود، أما المرحوم فإن جوار الله خير له من جوار الدنيا.. و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
* المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية الباحث والمحاضر في الفكر الإسلامي عضو اتحاد المؤرخين العرب