لم يكن سيلان الدم توقف حتى يعود لشوارع مصر، لكن درجة تدفقه كانت خفت بعض الشيء، وفي مظاهرات الجمعة الماضي ارتوت الأرض بدماء 19 مصريًا أو 12 حسب إحصائية وزارة الصحة في مساء هذا اليوم الآخر الحزين. لا أستطيع وصف الضحايا بأي وصف آخر حتى لو كانوا أشد خصومي السياسيين إلا بأنهم مصريون، نختلف ونتفق ونتعارك ونتصالح وتنتقل السلطة إلى المُعارضة لكن يبقى في النهاية أننا جميعًا أبناء شعب ووطن واحد، لا أحد سيستطيع نفي الآخر ولا إقصاء الآخر ولا القضاء عليه ولا الاستفراد بالوطن، كنا نعيب على مرسي والإخوان اتباع سياسة الإقصاء والاحتكار للسلطة، ولذلك لا يجب الوقوع في نفس الحفرة وإقصاء أي قطاع من المصريين اجتماعيًا وسياسيًا مهما كان حجمه إلا من يعزل نفسه بإرادته عن العمل العام فهذا قراره أو من يُمارس العنف والإرهاب فإنه يستحق حكم القضاء النزيه المستقل فيه. لا معنى للتصنيفات السياسية والايدلوجية في قضية الدم فالذي قتل هو مصري ابن مصري ولد وتربى وعاش ودفن أو سيدفن اليوم أو غدًا في تراب مصر لكن ستبقى المرارة والألم والحزن في قلوب أسرته وأقاربه وأحبابه، والشعور بالظلم خطر كبير في قضية استرخاص الروح البشرية وسهولة إزهاقها بدم بارد وبأعصاب هادئة بالرصاص الحي أو بالخرطوش أو بأي وسيلة للقتل ممن يرتكب تلك الجرائم المشينة. إلا الدم، كل شيء يهون إلا سقوط مصريّ شاب أم فتاة ، طفل أم عجوز، رجل أم امرأة، شخص مسيس أم مواطن عادي سقط بالقدر أو لكونه خرج في مظاهرة سلمية. أشد ما يؤلمني ويجعل النوم يطير من عيني هو الدم، هو تشييع جنازات ضحايا صراع سياسي وعنف غير مسبوق في مصر ودخيل على تركيبة الشخصية المصرية المُسالمة الطيبة. لم يكن ذهب مبارك إذن، بل كان يبقى حتى لحظته الأخيرة ولم تكن تحدث كل هذه المآسي والكراهيات والأحقاد والانقسامات. هل أحيانًا يمكن أن يكون الاستبداد عصمة للبلدان من الانهيار والشعوب من الاقتتال باللفظ أو الأيدي أو السلاح في منطقتنا المنكوبة بميراث تاريخي طويل من الديكتاتورية؟. لم يكن ذهب مبارك وبقي لأنه فقط كشخص هو الذي رحل ونظامه ظل باقيًا لليوم، إنما الأضرار الجسيمة التي تحدث في مصر وبين أهلها وأبنائها يصعب إصلاحها سريعًا فالرتق يزداد اتساعًا والأوضاع تزداد سوءًا. ما قيمة أن يكون قد خرج من السلطة وبقي نظامه وسارت البلاد على طريق مجهول بلا ضوء في نهايته؟!. واحد مثلي لم يتعرّض في ذلك العهد لمُداهمة واقتحام الأمن لبيته كما حصل قبل أيام وفي عهد ثورة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وأنا هو الشخص نفسه وهو الفكر المستقل غير المنتمي حزبيًا وسياسيًا نفسه، بل الجديد أنني صرت أكثر هدوءًا وتوازنًا واتزانًا وسعة صدر في الكتابة. تشوّهت الثورة التي بنينا عليها أحلامًا عظيمة بحجم الجبال في أوضاع جديدة تختلف كليًا عن الأوضاع السابقة وتقرّبنا من نمط الحكم والحياة في ذلك العالم المتقدّم الذي صار يسبقنا بمئات السنوات الضوئية ونحن منذ 3 سنوات لا نعرف أين نضع أقدامنا ولا الوجهة الصحيحة حيث أبرز الجميع مَطامعهم ومَخالبهم لنهش السلطة وحده وحرمان الآخرين منها. إلا هذا الدم العزيز الغزير الذي يخضب أرض مصر ويحولها إلى سرادق عزاء، دم المواطن ودم رجل الجيش والشرطة دم صار بلا ثمن يُراق في أي وقت وكل وقت وعندما يبدأ العام الجديد بالدم فهي المصيبة الكبيرة المستمرة. هل من أطلقوا عليه عام الحسم يقصدون الحسم بلون الدم، أم بالسياسة، فلا شيء غير السياسة لسياسة الناس، وحل أعقد الأزمات. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.