في البدء كانت الغلبة للقوة ..لم يكن للضعفاء مكان في هذه الدنيا الواسعة ..تريدون الحق ؟ ..كانت عصور خير وبركة ..على الأقل كانت الأشياء تسمى بأسمائها ..ولم يكن هناك حديث لا معنى له عن العدالة والمساواة والعقد الاجتماعي ، لم يكن هناك كذب على النفس وعلى الآخرين وكان الشاعر العربي يقولها بصراحة - نشرب إن وردنا الماء صفوا ، ويشرب غيرنا كدرا وطينا . ......................... ساعتي كانت تشير إلى الثانية عشر ظهرا حينما دلفت لشركة كمبيوتر تقع في الطابق الأول ..سألت الفتاة الشاحبة عن شيء ما ولم تكد تبدأ الإجابة حتى سمعنا ضجة عند مدخل المكتب ..تشتت تفكيرها للحظة ثم بدأت تجيب عن سؤالي .. ولكن الصراخ تزايد بشكل ينبئ أن الأمر جلل ..كانت أصوات الاستغاثة عالية جدا وثمة محاولات فاشلة لإغلاق الباب لأن هناك من يحاول دفعه في الاتجاه الآخر .. لوهلة لم أفهم ما يحدث .. تركتني الفتاة لتستطلع الأمر ثم عادت بوجه أكثر شحوبا صارخة أن هناك بلطجية يقتحمون الشركة .. ............................... راحت الفتاة تصرخ ذلك الصراخ المحطم للأعصاب ..وخرجت من الغرفة استطلع الخبر فوجدت ما يلي ..فتى غارقا بالدماء يحكي بأنفاس لاهثة أن مجموعة من البلطجية استوقفوه محاولين نزع ساعته(؟؟) والاستيلاء عليها (؟؟؟) فلما قاومهم (؟؟؟؟؟) ضربوه بالسنج والمطاوي وطاردوه إلى هنا.. هذه هي الحكاية التي سمعتها من الفتى المخضب بالدماء . الموقف كان يتغير من ثانية لأخرى مثل شلال ماء هادر ..محاولات اقتحام الباب مستمرة وفي استماتة وجدت العاملين بالشركة يحاولون إغلاقه ..فرجة صغيرة كانت تتسع باستمرار ..فرجة تذكرني بأسوأ كوابيسي حينما كنت أكتشف فجأة أن باب المنزل مفتوح وحينما أذهب لإغلاقه أجد من يدفعه في الاتجاه الآخر .. دائما كنت استيقظ من الرعب وبذلك تنتهي المشكلة..لكن هذا الكابوس صار الواقع الذي أعيشه للأسف الشديد . طلبت من الفتاة التي لم تكف عن الصراخ أن تستنجد بالشرطة ولكنها قالت في رعب أن الهاتف معطل لأنهم لم يدفعوا الفاتورة !!. ......................... الأمن مقابل الحرية ..هكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعي ببساطة ..الإرادة المشتركة لأفراد جماعة اتفقوا على إنشاء مجتمع يخضع لسلطة عليا فرارا من الفوضى ..ثمة اختلافات بين الفقهاء في حقوق الأفراد والحاكم .. (هوبز) مثلا أعتبر أن الأفراد تنازلوا - بسبب الفوضى - للحاكم عن كل حقوقهم بدون قيد أو شرط مقابل الأمن ..( لوك )تابعه في حكاية الفوضى ولكنه خالفه في أن الأفراد لا يتنازلون عن كل حقوقهم للحاكم ، وإنما يحتفظون بالحريات والحقوق الأساسية لهم ، وبذلك يجوز عزله إذا أخل بشروط العقد .. حكاية الفوضى لم تكن مقنعة ل(روسو) طائر الحرية لأن الإنسان عاش – في اعتقاده - قبل نشأة الدولة في حرية كاملة.. ولكنه تنازل عنها للجماعة مقابل حصوله على حريات جديدة يكفلها المجتمع على أساس المساواة ، وللجماعة حق عزل الحاكم متى أرادت ذلك. الخلاصة أن الأمن كان دائما الحد الأدنى المتفق عليه . .................................................... التظاهر بالشجاعة لم يعد ممكنا الآن ..أعرف أنني سأموت يوما ما ولكني لم أتصور أن أموت بهذه الطريقة ..سأقفز من نافذة الشركة التي تقع في الطابق الأول ..ولئن كسرت ساقي فذاك خير من أن أفقد حياتي بهذه الطريقة البشعة .. سألت الفتاة عن الطريق للنافذة فقالت وهي تلطم لطما صريحا : الشبابيك مسدودة بالحديد ..كنا نخشى اللصوص... لحظتها لم أتمالك نفسي من الضحك على هذه المفارقة. ولكن.. أين الشرطة من كل هذا ؟ ......,,,,............. الشيء الذي كان ينغصني أنني سأفقد حياتي مقابل لا شيء ..الحكاية كلها فارغة وتدل على البؤس ..هذا الفتى الذي تمت مهاجمته لا يغري أحدا بالسلب ما لم يكن أشد منه بؤسا ..بالتأكيد هو لا يملك في جيبه أكثر من أجرة الميكروباس .. أما الساعة – سبب الجريمة - فلا يزيد ثمنها قطعا عن بضعة جنيهات . أترك أسدا جائعا وانظر وقتها ماذا سيفعل بك ؟ ..هؤلاء البلطجية يعرفون أن زبانية الحاكم قد استلبوهم حقهم في الحياة الكريمة لكنهم لا يستطيعون الوصول إليهم ليمزقوهم ..لذلك فهم ببساطة سيمزقونك أنت . نحن مهددون حتى النخاع ..وبقاؤنا أحياء حتى تلك اللحظة يدل فقط على مبلغ العناية الإلهية .. يقولون أن مصر من أكثر بلاد العالم أمنا وهذا صحيح باعتراف الأجانب ..ولكن السؤال المهم : إلى متى مع كل هذه البطالة والفراغ الأمني والأجساد الفتية الجائعة التي تصرخ من أجل الطعام؟ من قبل لاحظت أني أسير في الطريق ساعات طويلة دون أن أجد ما يشير إلى وجود أمني ..هذا طبعا باستثناء ما يتعلق بأمن الدولة أو السفارات أو الأشخاص المهمين ..تجد وقتها وجودا أمنيا مكثفا وباطشا .. الأمن مقابل الحرية ؟ الكارثة أننا لم نظفر بكليهما لا الحرية ولا الأمن . ...................... كان الباب يتم اقتحامه بنجاح مؤكد ..وفجأة تراجعت كل مشاعر الذعر والخوف على الحياة ..أحساس راودني أن الحياة شر يحسن الخلاص منه .والآن فورا . وفجأة وجدتني واقفا وحدي ..لم أعرف أين ذهب الجميع ولكنني خمنت .. حلاوة الروح جعلتهم يختبئون في دورة المياه أو تحت المكتب ..ترى ماذا كان سيفعل فيلسوف مثل روسو في مثل هذا الموقف ؟..سيحاول الفرار بجلده طبعا. وفجأة أنقطع الصوت تماما وشعرت أنني في عزلة مطلقة ..شيء يقارب أفكارنا عن عزلة القبر ..دقيقة واحدة مرت طويلة جدا في هذا الصمت العجيب..لا بد أن عقارب الساعة كانت تتسكع في كسل ..وفجأة سمعت أصواتا متسائلة ثم وجوه مسالمة تدخل باب الشركة تستطلع الأمر .. والذي فهمته أن البلطجية فروا حينما تجمع سكان البناية يستطلعون الأمر ودون أن يظفروا بالساعة التي كادت تكلفني حياتي ..المشكلة هنا أن أحدا لم يشرب الماء صفوا وإنما شربناه كلنا كدرا وطينا. ............... [email protected]