(هذه قصة واقعية حدثت لى بالحرف الواحد فى واحد من أهم شوارع طنطا وأكثرها زحاما فى الساعة الثانية عشرة ظهرا) ■ ■ ■ ■ فى البدء كانت الغلبة للقوة. لم يكن للضعفاء مكان فى هذه الدنيا الواسعة. تريدون الحق؟، كانت عصور خير وبركة. على الأقل كانت الأشياء تسمى بأسمائها. ولم يكن هناك حديث لا معنى له عن العدالة والمساواة والعقد الاجتماعى، لم يكن هناك كذب على أنفسنا وعلى الآخرين، وكان الشاعر العربى يقولها بصراحة: (نشرب إن وردنا الماء صفوا/ ويشرب غيرنا كدرا وطينا). ■ ■ ■ ■ ساعتى كانت تشير إلى الثانية عشرة ظهرا حينما دلفت لشركة كمبيوتر تقع فى الطابق الأول. سألت الفتاة الشاحبة عن شىء ما ولم تكد تبدأ الإجابة حتى سمعنا ضجة عند مدخل المكتب. تشتت تفكيرها للحظة ثم بدأت تجيب عن سؤالى. ولكن الصراخ تزايد بشكل ينبئ بأمر جلل. كانت أصوات الاستغاثة عالية جدا وثمة محاولات فاشلة لإغلاق الباب لأن هناك من يحاول دفعه فى الاتجاه الآخر. لوهلة لم أفهم ما يحدث. تركتنى الفتاة لتستطلع الأمر ثم عادت بوجه أكثر شحوبا، صارخة أن هناك بلطجية يقتحمون الشركة. راحت الفتاة تصرخ ذلك الصراخ المحطم للأعصاب. فخرجتُ من الغرفة أستطلع الخبر فوجدت ما يلى: فتى غارقاً بالدماء يحكى بأنفاس لاهثة أن مجموعة من البلطجية استوقفوه، محاولين نزع ساعته(!!) والاستيلاء عليها فلما قاومهم (!!!!) ضربوه بالسنج والمطاوى وطاردوه إلى هنا. هذه هى الحكاية التى سمعتها من الفتى المخضب بالدماء. الموقف كان يتغير من ثانية لأخرى مثل شلال ماء هادر. محاولات اقتحام الباب مستمرة وفى استماتة وجدت العاملين بالشركة يحاولون إغلاقه. فرجة صغيرة كانت تتسع باستمرار. فرجة تذكرنى بأسوأ كوابيسى حينما كنت أكتشف فجأة أن باب المنزل مفتوح وحينما أذهب لإغلاقه أجد من يدفعه فى الاتجاه الآخر. دائما كنت أستيقظ من الرعب وبذلك تنتهى المشكلة. لكن هذا الكابوس صار الواقع الذى أعيشه للأسف الشديد. طلبت من الفتاة التى لم تكف عن الصراخ أن تستنجد بالشرطة ولكنها قالت فى رعب إن الهاتف معطل لأنهم لم يدفعوا الفاتورة!!. ■ ■ ■ ■ الأمن مقابل الحرية. هكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعى ببساطة. الإرادة المشتركة لأفراد جماعة اتفقوا على إنشاء مجتمع يخضع لسلطة عليا فراراً من الفوضى. ثمة اختلافات بين الفقهاء فى حقوق الأفراد والحاكم. (هوبز) مثلا اعتبر أن الأفراد تنازلوا- بسبب الفوضى- للحاكم عن كل حقوقهم بدون قيد أو شرط مقابل الأمن. (لوك) تابعه فى حكاية الفوضى هذه ولكنه خالفه فى أن الأفراد لا يتنازلون عن كل حقوقهم للحاكم، وإنما يحتفظون بالحريات والحقوق الأساسية لهم، وبذلك يجوز عزله إذا أخل بشروط العقد. حكاية الفوضى لم تكن مقنعة ل(روسو) طائر الحرية، لأن الإنسان عاش- فى اعتقاده- قبل نشأة الدولة فى حرية كاملة. ولكنه تنازل عنها للجماعة مقابل حصوله على حريات جديدة يكفلها المجتمع على أساس المساواة، وللجماعة حق عزل الحاكم متى أرادت ذلك. الخلاصة أن الأمن كان دائماً الحد الأدنى المتفق عليه. ■ ■ ■ ■ التظاهر بالشجاعة لم يعد ممكنا الآن. أعرف أننى سأموت يوما ما ولكنى لم أتصور أن أموت بهذه الطريقة. سأقفز من نافذة الشركة التى تقع فى الطابق الأول. ولئن كسرت ساقى فذاك خير من أن أفقد حياتى بهذه الطريقة البشعة. سألت الفتاة عن الطريق للنافذة فقالت وهى تلطم لطما صريحا: الشبابيك مسدودة بالحديد. كنا نخشى اللصوص!!. لحظتها لم أتمالك نفسى من الضحك على هذه المفارقة. ولكن.. أين الشرطة من كل هذا؟ الشىء الذى كان ينغصنى أننى سأفقد حياتى مقابل لا شىء. الحكاية كلها فارغة وتدل على البؤس. هذا الفتى الذى تمت مهاجمته لا يغرى أحدا بالسلب ما لم يكن أشد منه بؤسا. بالتأكيد لا يملك فى جيبه أكثر من أجرة الميكروباص الذى سيعود به إلى منزله بعد يوم حافل بالغبار والتعب. أما الساعة - سبب الجريمة - فرخيصة لا يزيد ثمنها قطعا بضعة جنيهات. اترك أسدك جائعا وانظر وقتها ماذا سيفعل بك؟. هؤلاء البلطجية يعرفون أن زبانية الحاكم قد استلبوهم حقهم فى الحياة الكريمة لكنهم لا يستطيعون الوصول إليهم ليمزقوهم. لذلك فهم ببساطة سيمزقونك أنت. نحن مهددون حتى النخاع. وبقاؤنا أحياء حتى تلك اللحظة دليل فقط على مبلغ العناية الإلهية. يقولون إن مصر من أكثر بلاد العالم أمنا وهذا صحيح باعتراف الأجانب. ولكن السؤال المهم: إلى متى مع كل هذه البطالة والفراغ الأمنى والأجساد الفتية الجائعة التى تصرخ من أجل الطعام؟ من قبل لاحظت أنى أسير فى الطريق ساعات طويلة دون أن أجد ما يشير إلى وجود أمنى. هذا طبعا باستثناء ما يتعلق بأمن مؤسسات الدولة أو السفارات أو المسؤولين المهمين. تجد وقتها وجودا أمنيا مكثفا وباطشا. الأمن مقابل الحرية! الكارثة أننا لم نظفر بكليهما: لا الأمن ولا الحرية. ■ ■ ■ ■ كان الباب يتم اقتحامه بنجاح مؤكد. وفجأة تراجعت كل مشاعر الذعر والخوف على الحياة. إحساس راودنى أن الحياة شر يحسن الخلاص منه، والآن فورا. وفجأة وجدتنى واقفا وحدى. لم أعرف أين ذهب الجميع ولكننى خمنت. حلاوة الروح جعلتهم يختبئون فى دورة المياه أو تحت المكتب. ترى ماذا كان سيفعل فيلسوف مثل روسو فى مثل هذا الموقف؟. سيحاول الفرار بجلده طبعا. وفجأة انقطع الصوت تماما وشعرت أننى فى عزلة مطلقة. شىء يقارب تصوراتنا عن عزلة القبر. دقيقة واحدة مرت طويلة جدا فى هذا الصمت العجيب. لا بد أن عقارب الساعة كانت تتسكع فى كسل. وفجأة سمعت أصواتاً متسائلة ثم وجوها مسالمة تدخل باب الشركة تستطلع الأمر. والذى فهمته أن البلطجية فروا حينما تجمع سكان البناية يستطلعون الأمر دون أن يظفروا بالساعة التى كادت تكلفنى حياتى. المشكلة هنا أن أحدا لم يشرب الماء صفوا وإنما شربناه ( كلنا) كدرا وطينا. [email protected]