محافظ الإسكندرية يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (صور)    آخر تحديث لسعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري.. وصل لكام؟    «التضامن»: ضم فئات جديدة لمعاش تكافل وكرامة قبل نهاية سبتمبر المقبل    تفاصيل أعلى عائد على شهادات الادخار 2024 في مصر    البيت الأبيض: لا نريد احتلالا إسرائيليا لقطاع غزة    عاجل.. لحظة اغتيال القيادي بحماس شرحبيل السيد في قصف إسرائيلي    إحالة 12 متهما من جماعة الإخوان في تونس إلى القضاء بتهمة التآمر على أمن الدولة    رئيس مجلس الدولة: الانتخابات الحالية بداية جديدة للنادي    كرة يد.. الأهلي 26-25 الزمالك.. القمة الأولى في نهائي الدوري (فيديو)    طقس ال72 ساعة المقبلة.. «الأرصاد» تحذر من 3 ظواهر جوية    التصريح بدفن جثة تلميذ غرق بمياه النيل في سوهاج    شيرين تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: «أستاذ الكوميديا اللي علم الناس الضحك»    أشرف غريب يكتب: أحد العظماء الخمسة وإن اختلف عنهم عادل إمام.. نجم الشباك الأخير    الاستعدادات الأخيرة ل ريم سامي قبل حفل زفافها الليلة (صور)    النيابة تأمر بانتداب المعمل الجنائي لبيان سبب حريق قرية «الحسامدة» في سوهاج    جداول قطارات المصيف من القاهرة للإسكندرية ومرسى مطروح - 12 صورة بمواعيد الرحلات وأرقام القطارت    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    أوكرانيا تسعى جاهدة لوقف التوغل الروسي فى عمق جبهة خاركيف الجديدة    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    طيران الاحتلال يغتال القيادي بحماس في لبنان شرحبيل السيد «أبو عمرو» بقصف مركبة    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    بريطانيا تتهم روسيا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط مقابل السلاح    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    عمر الشناوي حفيد النجم الكبير كمال الشناوي في «واحد من الناس».. الأحد المقبل    عمرو يوسف يحتفل بتحقيق «شقو» 70 مليون جنيه    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    مساندة الخطيب تمنح الثقة    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    إحباط تهريب راكب وزوجته مليون و129 ألف ريال سعودي بمطار برج العرب    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال الضفة الغربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصول من كتاب ماركيز الجديد
لم آت لإلقاء خطبة
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 10 - 2010

بعد ستة أعوام من نشر روايته الأخيرة "ذكريات عاهراتي الحزينات" يعود جابرييل جارثيا ماركيز، الكولومبي الحائز علي نوبل سنة 1982، بكتاب عنونه"لم آت لإلقاء خطبة" والذي يضم 22 خطبة كتبها علي طول حياته ليقرأها علي الجمهور.
الكتاب لم يكن سوي مجموعة أوراق في دوسيه انتبه له منذ عام ونصف، ويضم حتي الخطبة التي كتبها وهو في السابعة عشرة ليودّع بها زملاء مدرسته، كما يضم آخر كلمة ألقاها في مجمع اللغة الإسبانية سنة 2007. وبذلك، يختصر 63 عاماً من ذاكرته الشفوية، وهو الكاتب الذي يكره دوماً الحديث أمام الجمهور، كما أنه يعكس هواجس الكاتب الكولومبي والذكري الجميلة التي تركها في نفسه أصدقاء أعزاء له مثل كورتاثر وألبارو موتيس.
يضم الكتاب نصوصاً أهمها:"كيف بدأت الكتابة" و" الصحافة:أفضل مهنة في العالم"و"زجاجة في البحر من أجل إله الكلمات". كما يتناول أيضاً قضية المخدرات في كولومبيا بخطاب عنونه"هل توجد أمريكا اللاتينية"، وعن الكوارث البشرية ألقي خطابه"كارثة ديموكليس". كما يضم الخطاب الذي ألقاه في الثاني من ديسمبر سنة 1982 بمناسبة فوزه بجائزة نوبل.
هل أمريكا اللاتينية موجودة؟
يبدو مصير الفكرة البوليفارية عن التكامل، مع مرور الوقت، محاطاً بالشكوك، إلا فيما يخص الفن والأدب، وكلاهما يتقدم في طريق التكامل الثقافي علي حسابه حاملاً المخاطرة. عزيزي فيدريكو مايور يفعل خيراً عندما يشغل نفسه بصمت المثقفين، لكن ليس بصمت الفنانين، الذين ليسوا في النهاية مثقفين بل عاطفيين. يعبرون عن أنفسهم بالصراخ من نهر برافو حتي باتاجونيا، بموسيقانا، برسمنا، بالمسرح والرقص، بالروايات والمسلسلات التليفزيونية. ففليكس بي كاجنت، أبو المسلسلات الإذاعية، قال:"أنا أؤمن أن الناس تريد أن تبكي، فلا أفعل سوي أن أقدم لهم الحجة". إنها أشكال التعبير الشعبية الأكثر بساطة وثراءً والتي تصلح كلغة عالمية. وعندما يتحقق التكامل السياسي والإقتصادي، وهذا سيحدث، سيكون التكامل الثقافي فعلاً لا رجعة فيه منذ زمن مضي. فحتي الولايات المتحدة، التي تنفق مبالغ هائلة في الحدث الثقافي، بينما نحن لا ننفق سنتًا واحداً، غيّرنا لهم لغتهم وطعامهم وموسيقاهم وتعليمهم وأشكال حياتهم، والحب. أقصد، أهم ما في الحياة: الثقافة.
(...)
قدم لنا الرئيس دي لا مدريد معروفاً عندما طرح دراما تجارة المخدرات. وهو يري أن الولايات المتحدة تمد يومياً ما بين العشرين والثلاثين مليوناً من مدمني المخدرات دون أي إعاقة، وتقريباً تقدمها لهم هوم دليفري، كما لو كانت المخدرات لبنا أو خبزا أو حتي جرائد. هذا يمكن فقط مع مافيات أقوي من المافيات الكولومبية وبفساد أكبر من السلطات الموجودة في كولومبيا. إن مشكلة تجارة المخدرات، بالطبع، مشكلة تخص الكولومبيين بشكل عميق. وأننا تقريباً الوحيدون المذنبون في هذه التجارة، وحدنا المذنبون لأن الولايات المتحدة بها أكبر سوق للاستهلاك، وبسبب هذه الكارثة تزدهر صناعة تجارة المخدرات في كولومبيا. لديّ انطباع أن تجارة المخدرات صارتْ مشكلة خرجت من يد البشرية. هذا لا يعني أننا يجب أن نكون متشائمين ونعلن هزيمتنا، وإنما علينا أن نحارب المشكلة بناءً علي وجهة النظر هذه وليس بناءً علي رش المبيدات الحشرية.
منذ فترة قريبة كنت مع مجموعة من الصحفيين الأمريكيين في هضبة صغيرة لا يمكن أن تكون أكتر من ثلاث أو أربع هيكتارات مزروعة بالخشخاش. قدموا أمامنا عرضاً: رش المبيدات الحشرية من هليوكوبترات، رشها من طائرات. في الخطوة الثالثة للهليوكوبترات والطائرات، حسبنا أنها من الممكن أن تكلف أكثر مما تكلفه المواجهة. ما يصيب القلب بالأسي معرفة أنه ليس هناك حل هكذا لمواجهة تجارة المخدرات. قلت لبعض الصحفيين الأمريكان الذين كانوا بصحبتنا إن رش المبيدات الحشرية يجب أن يبدأ من جزيرة مانهاتن وعمودية واشنطن. عاتبتهم أيضاً لأنهم هم والعالم يعرفون ما هي مشكلة المخدرات في كولومبيا _ كيف تزرع، كيف تُنتج، كيف تصدّر- لأننا نحن الصحفيين الكولومبيين تحرينا من ذلك ونشرناه، وبقت المعلومات منتشرة في العالم. حتي أن بعضنا قد دفع ثمن ذلك حياته. في المقابل، لا يوجد صحفي أمريكي واحد أتعب نفسه وقال لنا كيفية دخول المخدرات إلي الولايات المتحدة، ولا كيفية توزيعها وتسويقها الداخلي.
(مجتزأ من الكلمة الملقاة في كونتادورا، بنما، 28 مارس1995، تحت عنوان"هل توجد أمريكا اللاتينية؟". والتي حضرها لويس ألبيرتو لا كايي(الرئيس السابق للأورجواي)، فيديريكو مايور ثاراجوثا، ميجيل دي لا مدريد أورتادو(رئيس المكسيك السابق)، سيرخيو راميريث( الكاتب نائب رئيس نيكاراجوا السابق)، فرنثيسكو ويفورت(وزير ثقافة البرازيل)وأوجوستو راميريث أوكامبو(وزير خارجية كولومبيا).
كيف بدأت الكتابة؟
قبل أي شيء، اعذروني لأنني سأتحدث جالساً، فالحقيقة أنني لو نهضتُ سأضع نفسي في مغامرة السقوط من فرط الرهبة. حقيقةً. فأنا اعتقدتُ دوماً أن أصعب خمس دقائق في حياتي سأقضيها وأنا راكب طائرة أو متحدث أمام 20 أو 30 شخصاً، وليس أمام 200 صديق كما هو الحال الآن.
لحسن طالعي، ما يحدث لي في هذه اللحظة يسمح لي أن أبدأ في الحديث عن أدبي، لقد كنت أفكر أنني بدأت أكون كاتباً بنفس الطريقة التي صعدت بها لهذه المنصة: مجبراً. أعترف أنني فعلت كل ما بوسعي لكيلا أحضر هذا المؤتمر: حاولت أن أمرض، فعلت ما يسبب لي التهاباً رئوياً، ذهبت للحلاق علي أمل أن يذبحني، وفي النهاية، خطرت ببالي فكرة الحضور بدون بذلة ولا كرافت حتي لا يسمحوا لي بالدخول لمؤتمر رسمي كهذا، لكنني نسيت أنه في فنزويلا، حيث يمكن الدخول إلي أي مكان بالقميص. والنتيجة: أنا هنا دون أن أعرف من أين أبدأ. لكنني سأحكي لكم، مثلاً، كيف بدأت الكتابة؟
لم يخطر ببالي مطلقاً أنني من الممكن أن أكون كاتباً، لكن أثناء فترة دراستي، كتب إدواردو ثالاميا بوردا، مدير الملحق الأدبي بجريدة الإسبيكتادور ببوجوتا، ملحوظة مفادها أن الأجيال الجديدة من الكتاب لا تقدّم شيئاً، فلا يُري قاص جديد ولا روائي جديد. وختم مؤكداً أنهم يلومونه لأنه لا ينشر إلا لأسماء معروفة لكتاب كبار، وفي المقابل لا ينشر لشباب، بينما الحقيقة-كما قال- أنه لا يوجد شباب يكتبون.
حرّكني حينئذ شعور بالتضامن مع أبناء جيلي وحللت المشكلة بكتابة قصة قصيرة، ليس إلا لإغلاق فم إدواردو ثالاميا بوردا، الذي كان صديقاً عزيزاً لي، أو علي الأقل صار كذلك بعدها. جلستُ وكتبتُ قصة، وأرسلتها لجريدة الإسبيكتادور. الرهبة الثانية انتابتني يوم الأحد التالي، عندما فتحت الجريدة ورأيت قصتي في صفحة كاملة ومعها ملحوظة اعترف فيها ثالاميا أنه كان مخطئاً، لأنه من الواضح أن "بهذه القصة قد ظهر عبقري الأدب الكولومبي"، أو قال شيئاً شبيهاً.
هذه المرة حقاً مرضتُ وقلت لنفسي:" أي ورطة أدخلت فيها نفسي! وماذا سأفعل الآن حتي لا أحبط إدواردو ثالاميا؟". أن أستمر في الكتابة، كانت هذه هي إجابتي. وكنت أواجه دائماً مشكلة الموضوعات: كنت مضطراً للبحث عن حكاية لأستطيع كتابتها.
وهذا يسمح لي أن أقول لكم شيئاً أتحقق منه الآن، بعد أن نشرت خمسة كتب: مهنة الكاتب ربما تكون المهنة الوحيدة التي كلما مورست كلما ازدادت صعوبتها. فالسهولة التي بها جلست لأكتب تلك القصة ذات ظهيرة لا يمكن أن تقارن بالجهد الذي أبذله الآن لكتابة صفحة. أما منهجي في العمل، فيرتبط ارتباطاً وثيقاً بما أقوله الآن. لا أعرف مطلقاً كمية ما أكتبه ولا ماذا سأكتب. أنا أنتظر حتي يخطر شيء ببالي، وعندما تلوح لي فكرة وأقيمها أنها جيدة للكتابة، أجعلها تتجول في رأسي، وأتركها حتي تنضج. وعندما تختمر تماماً(وقد تمر سنوات طوال، كما حدث في "مائة عام من العزلة" حيث مرت تسع أو عشر سنوات وأنا أفكر فيها) أكرر، عندما تختمر، أجلس لأكتبها وهنا يبدأ الجزء الأصعب والأكثر مللاًُ. فليس هناك أمتع في الحكاية من ميلادها، تجولها في الرأس، حركتها وتمردها، أما ساعة الجلوس لكتابتها فلا تهم كثيراً، أو علي الأقل لا تهمني أنا كثيراً.
الفكرة التي تجول بالرأس
سأحكي لكم، مثلاً، الفكرة التي تجول في رأسي منذ عدة سنوات وأشك في أنها قد نضجت بشكل كاف. سأحكيها لكم الآن، لأنه من المؤكد عندما أكتبها، لا أعرف متي، سترون حضراتكم أنها صارت مختلفة تماماً وسيمكنكم أن تلاحظوا بأي شكل تطورت. تخيلوا أنكم في قرية صغيرة تقطن بها سيدة عجوز، لها من الأبناء اثنان، أحدهما ولد في السابعة عشرة، والأخري فتاة في الرابعة عشرة. تُقدِم لهما الإفطار ذات يوم بوجه يعلوه علامات القلق . يسألانها عما حدث. فتخبرهما أنها استيقظت وهي تشعر أن شيئاً خطيراً جداً سيحدث في هذه القرية. يسخر الابنان من أمهما. يقولان إنه شعور سيدة عجوز، أشياء وتمر. ويذهب الابن ليلعب البلياردو، وفي اللحظة التي يوشك فيها علي ضرب الكرة يقول له اللاعب الآخر: "أراهنك ببيزو أنك لن تصيب". يضحك الجميع. ويضحك الابن. ويضرب الكرة فلا يصيب. يدفع البيزو، ويسأله الجميع عما به، فقد كانت لعبة في غاية السهولة. فيجيبهم:"أنتم محقون، لكنني مشغول جداً بأمر أخبرتني به أمي هذا الصباح، قالت إن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية. سخر منه الجميع. وعاد اللاعب الذي فاز عليه وربح البيزو إلي بيته، حيث سيجد أمه أو حفيدته أو أية قريبة أخري. وسعيداً بالبيزو الذي ربحه يقول: " لقد ربحت هذا البيزو من داماسو بطريقة بسيطة جداً، لأنه أحمق. "لماذا تقول إنه أحمق ؟". "لأنه لم يستطع أن يصيب بكرة سهلة قائلا إن هناك فكرة متسلطة تلاحقه، حيث أن أمه قالت له إنها استيقظت وهي تشعر أن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية. تجيبه أمه حينئذ:" لا تسخر من نبوءات العجائز فأحيانا تصيب". تسمعه وتذهب لشراء اللحم. تقول للجزار : "اعطني رطلا من اللحم". وفي اللحظة التي يقطع لها ما طلبته تضيف:"اجعلهم رطلين، لأنهم يقولون إن شيئا خطيرا سيحدث ومن الأفضل أن نستعد له". يعطيها طلبها. وعندما تأتي سيدة أخري تشتري رطل لحم آخر، يقول لها: " خذي رطلين، لأن الناس يقولون إن شيئا خطيرا سيحدث، ولذا يستعدون ويشترون ما يكفيهم من المؤن". حينئذ تجيبه العجوز:" لدي العديد من الأولاد، ومن الأفضل أخذ أربعة أرطال". تأخذ طلبها وتسير. وحتي لا أطيل القصة، سأقول إن الجزار قد باع كل اللحم في نصف ساعة، وذبح بقرة أخري، وباعها كلها، وذاعت الشائعة. وتأتي لحظة يكون فيها أهل القرية في انتظار حدوث شيئ. فتتوقف كل الأنشطة. وفجأة، في الساعة الثانية ظهرا، عندما يشتد الحر، يقول أحدهم :" هل انتبهتم لهذا الطقس ؟". "نعم، لكن طقس هذه القرية دوما حار". "ومع ذلك يقول أحدهم لم يكن حارا أبدا بهذه الدرجة في هذه الساعة". "لكن الثانية ظهرا هي أشد ساعات الحر" . "نعم، لكن لم يكن حارا مثل الآن". تصير القرية خالية، والميدان خالياً، فيهبط عصفور، وينطلق فجأة صوت:"هناك عصفور في الميدان ". ويتجمع الناس، يرتجفون خوفا، ليروا العصفور. " لكن يا سادة، عادة ما تهبط العصافير للميدان". " نعم ، لكن العصافير لم تهبط قط في هذه الساعة" . ويصاب أهل القرية في لحظة بالضغط، ويصيبهم اليأس، ويتمزقون بين هجر القرية وعدم توافر الشجاعة لفعل ذلك. يقول أحدهم:"أنا رجل وسأرحل. يضع أولادة وأثاثه وحيواناته في عربة، ويعبر بالشارع الرئيسي للقرية المسكينة التي تتفرج عليه، حتي يقولون: " إن كان هذا تجرأ وفعلها فنحن أولي بها". ويبدأ الخروج حرفيا من القرية. يحمل أهلها أشياءهم وحيواناتهم وكل شيء. ويقول أحد الأواخر الذين يهربون من القرية:" حتي لا تقع النكبة علي ما تبقي من بيتنا". ويحرق بيته ويفعل الآخرون مثله. ويهربون في ذعر هائل وحقيقي، كما لو كان هروبا في حرب. وفي الوسط تسير السيدة العجوز صاحبة النبوءة، صارخة: " قلتُ إن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية، وقالوا إنني مجنونة".
(الكلمة التي ألقاها في إحدي مؤتمرات الكُتاّب بفنزويلا)
زجاجة في البحر
من أجل إله الكلمات
في الثانية عشرة من عمري كنت علي وشك أن تصدمني درّاجة. أنقذني قس بصرخة: انتبه! وسقط سائق الدرّاجة علي الأرض. بدون أن يتوقف، قال لي القس:"أرأيت ما هي سلطة الكلمة؟". عرفتها في هذا اليوم. فضلاً عن ذلك، كلنا نعرف الآن أن أهل المايا كانوا يعرفونها منذ أزمنة المسيح، وبدقة شديدة، لذا خصصوا إلهاً من أجل الكلمات.
لم تكن للكلمة مطلقاً سلطة شبيهة بسلطة اليوم. فالبشرية ستدخل ألفيتها الثالثة تحت امبراطورية الكلمة. وليس صواباً أن الصورة تحل محل الكلمة ولا أنها تستطيع إطفاءها. بالعكس، إنها تعززها: فلم يتمتع العالم بكلمات كثيرة سهلة الوصول وذات سلطة وإرادة مثلما يحدث في برج بابل الهائل للحياة الحالية. كلمات مبتكرة، أساءت معاملتها أو قدستها الصحافة، الكتب المتاحة، لافتات الإعلانات؛ كلمات منطوقة ومغناة في الراديو، في التليفزيون، في السينما، في التليفون، في مكبرات الصوت العامة؛ كلمات بفرشة عريضة في حوائط الشارع أو مهموس بها في الآذان في ظلال العشق.
لا: المهزوم الكبير هو الصمت. فللأشياء الآن أسماء كثيرة في لغات كثيرة ومن الصعب معرفة كيف تُسمي في واحدة منها. اللغات تتناثر وتنطلق، تمتزج وتلتبس، تصوب ناحية مصير حتمي للغة عالمية.
علي اللغة الإسبانية أن تعد نفسها لدورة كبيرة في هذا المستقبل بلا حدود. إنه حق تاريخي. ليس لأسبقية هيمنتها الاقتصادية، كلغات أخري حتي اليوم، وإنما لحيويتها، لديناميكيتها الخلاقة، لخبرتها الثقافية الواسعة، لسرعتها وقوة توسعها، في مدار خاص يضم 19 مليون كيلومتراً مربعاً و 400 مليون متحدث عند نهاية هذا القرن. قال مدرس آداب إسبانية في الولايات المتحدة وكان محقاً إن ساعات الدرس يقضيها في العمل كمترجم فوري بين أبناء أمريكا اللاتينية من بلدان مختلفة. من الملفت للانتباه أن الفعل pasar له 54 معني، بينما في جمهورية الإكوادور للعضو الذكري 105 اسماً، وفي المقابل كلمة مثل condoliente ، التي تشرح نفسها، والتي نحتاج إليها كثيراً، لم تُخترع حتي الآن. شاب صحفي فرنسي تبهره الاكتشافات الشعرية التي يجدها في كل خطوة في حياتنا المنزلية. أن طفلاً ساهداً بسبب الضوء المتقطع وحزيناً كحمل يقول:"يبدو كفنار". أن امرأة كولومبية من جواخيرا رفضت أن تأكل طبخة النحلة لأن لها طعم الجمعة المقدس. أن دُن سيباستيان دي كوفاروبياس، في قاموسه الأبدي، كتب لنا بيده وحرفه أن الأصفر لون العشاق. كم مرة لم نتذوق نحن أنفسنا قهوة بطعم النافذة، خبزاً بطعم الركن، كريزة بطعم القبلة؟
إنها براهين عند التغني بذكاء لغة منذ زمن لا يسعها جلدها. لكن مساهمتنا لا يجب أن تكون إدخالها في الوسط، بل العكس، تحريرها من سياسة الحديد لتدخل في القرن 21 كدخول بيدرو لبيته.
في هذا الاطار، أتجرأ لأقترح علي الجلسة الحكيمة أن نبسط قواعد اللغة قبل أن تبسطنا هي. فلأنسن القوانين، ولنتعلم من اللغات الأصلية التي تديننا بالكثير والتي زال لديها ما يثرينا ونتعلمه منها، فلنسوعب سريعاً وجيداً الكلمات الفنية والعلمية الجديدة قبل أن تتسلل إلينا دون هضم، ولنناقش بقلب أبيض صيغ الفعل الوحشية، الأمراض المتوطنة، الكائنات الطفيلية، ولنعيد لزمن "مضارع الشك" هيبته، ولنقل váyamos بدلاً من vayamos (...). ولنتأمل الهجاء، رهبة الكائن البشري منذ المهد: فلندفن حرف h غير المنطوق دوماً، ولنعقد إتفاقاً محدوداً بين حرفي ال g وj. ولنضع استخداماً منطقياً للتشديد علي الحروف، (...) وماذا عن حرف b و v؟ ألم يحضرهما أجدادنا الإسبان باعتبارهما اثنين بينما هما واحد؟
إنها أسئلة عفوية، بالطبع، مثل زجاجات ملقاة في البحر علي أمل أن تصل لإله الكلمات. إلا إذا كان بسبب هذه الجرأة والهراء، سينتهي هو وننتهي جميعاً بحسرة، وبحق مطلق، لأن تلك الدراجة المحظوظة لم تصدمني عندما كنت في الثانية عشرة.
(الخطاب الذي ألقاه في مجمع اللغة الإسبانية)
كارثة ديموكليس
بعد دقيقة واحدة من الانفجار الأخير، ربما ودّع الحياة أكثر من نصف البشر، وهزم غبار ودخان القارات المشتعلة الضوء الشمسي، وعاد الظلام المطلق ليسود العالم. شتاء من الأمطار البرتقالية والأعاصير المثلجة تستغل زمن المحيطات وتقلب مسار الأنهار، التي تموت أسماكها من العطش في المياه الملتهبة، والتي لا تجد عصافيرها السماء. والجليد المستمر يغطي الصحراء، والأمازون المتسع يختفي من علي وجه الكوكب الذي دمره البرد، وزمن الروك وزرع القلب سيرتدي إلي طفولته الجليدية، والكائنات البشرية القليلة التي تبقي علي قيد الحياة عند الرعب الأول، وهؤلاء الذين تميزوا بالعثور علي ملجأ آمن في الثالثة ظهر يوم الاثنين المشؤوم الذي حدثت فيه الكارثة الكبري، أنقذوا فقط حياتهم كي يموتوا بعد ذلك من رعب ذكرياتهم. ربما انتهت الخليقة. وفي الفوضي الأخيرة للرطوبة والليالي الأبدية، سيكون الأثر الوحيد المتبقي للحياة هو الصراصير.
أيها السادة الرؤساء، ورؤساء الوزراء، صديقاتي وأصدقائي:
هذه ليست سرقة لحكاية خوان في منفي باتموس، وإنما رؤية مسبقة لكارثة كونية من الممكن أن تحدث في نفس هذه اللحظة: انفجار-موجَه أو واقع بالصدفة- لأصغر جزء من الترسانة النووية التي تنام بعين مفتوحة وأخري مغمضة في أحضان القوات الكبري.
هكذا يوجد في العالم اليوم، 6 أغسطس، أكثر من 50000 رأساً نووياً في وضع الاستعداد. وبمعني منزلي، يعني هذا أن كل كائن بشري، دون استثناء الأطفال، يجلس علي برميل به أربعة أطنان من الديناميت، وقد يؤدي الانفجار الكلي لها للقضاء علي أي مظهر من مظاهر الحياة 12 مرة. وتطرح هيمنة الإبادة الخاصة بهذا التهديد الهائل، المعلق فوق رءوسنا مثل كارثة ديموكليس، الامكانية النظرية لعدم استخدام أربعة كواكب غير التي تدور حول الشمس، وللتأثير في توازن النظام الشمسي. ولا علم ولا فن ولا أي صناعة أخري ضاعفت نفسها عدة مرات مثل الصناعة النووية منذ نشأتها، منذ 41عاماً، ولا ابتكار آخر للإنسان العبقري امتلك قدرة كبيرة علي تحديد مصير العالم.
السلوي الوحيدة من هذه التبسيطات المفزعة _إن نفعت بشيء- هي التحقق من أن الحفاظ علي حياة البشر علي كوكب الأرض أرخص بكثير من الوباء النووي. فلمجرد وجوده فقط، تحل اللعنات الرهيبة والأسيرة في صومعات موت الدول الأكثر ثراءً محل امكانيات حياة أفضل للجميع.
يُسمي هذا، في حضانة الأطفال علي سبيل المثال، حقيقة الحساب الأولي. منظمة اليونيسيف أعدتْ سنة 1981 برنامجاً لحل المشكلات الأساسية لل 500مليون طفل الأكثر فقراً في العالم، بما فيهم أمهاتهن. يُفهم من هذا الرعاية الصحية الأساسية، التعليم الأساسي، تحسين الظروف الطبية، التموين من المياه الصالحة للشرب والغذاء. كل هذا كان يبدو حلماً مستحيلاً تكلفته 100,000مليون دولار. مع ذلك، هذا المبلغ بالكاد هو تكلفة 100 قذيفة استراتيجيةB-1B ، وأقل من 7000 صاروخ عابر قارات، الذي، لإنتاجه، تحتم علي حكومة الولايات المتحدة استثمار 21.200 مليون دولار.
في الصحة، علي سبيل المثال، بتكلفة 10 حاملات طائرات نووية نيميتز، من ال 15 التي ستصنعها الولايات المتحدة قبل عام 2000، من الممكن تحقيق برنامج وقائي يحمي خلال 14عاماً أكثر من 1.000 مليون شخص ضد الملاريا، وتفادي موت- في أفريقيا وحدها- 14مليون طفل.
في الصحة، علي سبيل المثال: كان في العالم العام الماضي، طبقاً لاحصائيات الفاو، 565 مليون نسمة يعانون الجوع. وكان عدد السعرات الحرارية التي يحتاجون إليها بالكاد تكلف أقل من ثمن 149 صاروخ MX من ال 223 التي تنشئها أوروبا الغربية. وبثمن 27 منها يمكن شراء معدات زراعية ضرورية حتي تحصل الدول الفقيرة علي غذائها الكافي في الأربع سنوات القادمة. هذا البرنامج، فضلاً عن ذلك، لن تبلغ تكلفته 9٪ من ميزانية الإتحاد السوفييتي العسكرية سنة 1982 .
وفي التعليم، مثلاً: بتكلفة غواصتان ذريتان ثلاثية الرمح، من ال 25 التي تخطط حكومة الولايات المتحدة الحالية لتصنيعها، أو بكمية مشابهة من الغواصات Typhoon التي يشيدها الإتحاد السوفييتي، يمكن محاولة القضاء نهائياً علي الأمية العالمية. من ناحية أخري، بناء المدارس وارسال مدرسين إضافيين للعالم الثالث ليعتنوا بالطلبات الإضافية للتعليم في العشر سنوات القادمة، يُكلف ما يكلفه 245 صاروخاً ثلاثي الرءوس، رغم بقاء 419 فائضين لزيادة التعليم في ال 15 سنة التالية.
يمكن أن نقول، في النهاية، إن إلغاء الديون الخارجية من كل العالم الثالث، واستعادته اقتصادياً خلال 10 سنوات، يكلف أكثر قليلاً من 6٪ من النفقات العسكرية في العالم في نفس هذا الوقت. ومع كل، أمام الخسائر الاقتصادية الضخمة، لا زال الأكثر قلقاً وألماً هو الخسارة البشرية:فصناعة الحرب تأسر العدد الأكبر من المجندين الحكماء الذين لم يجتمعوا أبداً في أي مؤسسة في تاريخ الإنسانية. إنهم أهالينا، ومكانهم الطبيعي ليس هناك بل هنا، في هذه المائدة، وتحررهم أمر لا غني عنه ليساعدوننا في الإبداع، في مجال التعليم والعدالة، فالشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذنا من الهمجية هو ثقافة السلام.
وبرغم هذه الحقائق الدرامية، يظل مجال الأسلحة دون أن يمنح لحظة من الهدنة. الآن، بينما نتناول غداءنا، شيدوا هم رءوس حربية نووية جديدة. وغداً، عندما نستيقظ، قد نجد 9 أخري في غرف موت الأثرياء بنصف الكرة الغربي. وهي ما ستكلف الواحدة منه-ولو مرة واحدة يوم أحد خريفي- ما يساوي تعطير شلالات النيجر بالصندل.
تساءل ذات مرة أحد الروائيين الكبار في عصرنا إن لم تكن الأرض هي جحيم الكواكب الأخري. ربما تكون أقل من ذلك بكثير: قرية بلا ذاكرة، مهجورة من يد آلهاتها في الضاحية الأخيرة للوطن الكوني الكبير. لكن الارتياب الناتج عن أنها المكان الوحيد للنظام الشمسي حيث نشأت مغامرة الحياة العجيبة، يؤدي بنا بلا شفقة إلي نتيجة ممزقة للقلوب: مجال الأسلحة سار في طريق معاكس للذكاء.
وليس فقط للذكاء البشري، بل أيضاً لذكاء الطبيعة نفسها، التي تهرب غايتها نحو استبصار الشعر. منذ ظهور الحياة المرئية علي الأرض لابد أنه قد مرت 380 مليون سنة حتي تتعلم فراشة الطيران، و180 مليون سنة لتصنيع وردة ليس لها هدف سوي أن تبدو جميلة، وأربع فترات جيولوجية ليستطيع الكائن البشري، مختلفاً عن أجداد أجداده البدائيين، الغناء أفضل من العصافير والموت من العشق. ليس من المشرف للموهبة البشرية، في العصر الذهبي للعلم، أن تتصور شكل عملية ألفية شديدة الإسراف والضخامة، يمكن أن تعود إلي العدم من حيث جاءت بسبب الفن البسيط للضغط علي زر. نحن هنا لمحاولة منع أن يحدث ذلك، لنضم أصواتنا إلي الأصوات التي لا عد لها التي تصرخ من أجل عالم بلا أسلحة وسلام قائم علي العدل. لكن لو لم يحدث ذلك-أو حتي حدث-، لن يكون هباءً اجتماعنا هنا. وخلال ملايين الملايين من آلاف السنين بعد الانفجار، ربما ستتوج سلحفاة خرافية منتصرة قد تتجول الدرجة الكاملة للأنواع، كما المرأة الأكثر جمالاً للخلق الجديد. يتوقف علينا، نحن رجال ونساء العلم، رجال ونساء الفن والأدب، رجال ونساء الذكاء والسلام، يتوقف علينا ألا يذهب المدعوون لهذا التوييج الخيالي في حفلة يحملون فيها نفس الرعب الذي نشعره الآن. بكل تواضع، لكن أيضاً بكل تحديد روحي، أقترح أن نتفق هنا والآن علي تصور وتصنيع قوس للذاكرة، قادر علي البقاء حياً في مواجهة الطوفان الذري. زجاجة لغرقي فلكيين ملقاة في محيطات الزمن، حتي تعرف عنا البشرية الجديدة حينها ما يجب أن تحكيه لهم الصراصير:أنه هنا كانت حياة، غلب فيها الألم وساد الظلم، لكننا أيضاً عرفنا الحب حتي أننا صرنا قادرين علي تخيل السعادة. ولتعرف وتجعل الآخرين في كل زمان يعرفون من هم المدانون بكارثتنا، وكم تصنعوا الصمم أمام صرخاتنا المنادية بالسلام الذي كان أفضل الحيوات الممكنة، وبأي اختراعات همجية ولأي مصالح بائسة محوه من الكون.
(أُلقي هذا الخطاب في السادس من أغسطس عام 1986 في المكسيك، بمناسبة الذكري 41 لقنبلة هيروشيما)
الصحافة أفضل
مهنة في العالم
منذ خمسين عاماً لم تكن قد وجدتْ بعد موضة مدارس الصحافة. كنا نتعلّم في صالات التحرير، في ورش المطبعة، في المقهي المواجه للمبني، في حفلات الجمعة. كل الجريدة كانت صناعة تُشكّل وتُخبِر بلا أخطاء، وتتولد آراء داخل مناخ من المشاركة التي تحتفظ فيها الأخلاق بمكانها. فنحن الصحفيين كنا نسير دائماً معاً، نصنع حياة مشتركة، وكنا متعصبين جداً للمهنة لدرجة أننا لم نكن نتحدث عن شيئ غير المهنة نفسها. كان العمل يحمل معه صداقة المجموعة التي تترك هامشاً صغيراً للحياة الخاصة. لم تكن هناك تجمعات التحرير المؤسساتية، لكن في الخامسة مساءً، دون دعوة رسمية، كل طاقم الدور كان يأخذ راحة من ضغوط اليوم وننضم لتناول القهوة في أي مكان من الصالة. كان تسامراً مفتوحاً حيث نناقش بحماس موضوعات كل قسم ونعطي اللمسات الأخيرة لطبعة الغد. والذين لم يتعلموا في تلك الكراسي المتجولة والملتهبة أربع وعشرين ساعة يومياً، أو الذين كانوا يملون من الكلام الكثير حول نفس الشيء، هذا لأنهم كانوا يريدون أو يعتقدون أنهم صحفيون، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا كذلك. كانت الجريدة حينئذ ثلاثة أقسام كبيرة: أخبار، أحداث، تحقيقات، وأعمدة افتتاحية. الحمل الثقيل كان يقع علي المحرر، الذي كان يحمل في نفس الوقت مفهوم الصبي وحامل الطوب. الوقت والمهنة نفسها برهنا أن النظام المتوتر للصحافة يجول في الواقع في مغزي عكسي. أعترف: أنني في التاسعة عشرة- بعد أن كنت أسوأ دارس للحقوق- بدأت مجالي كمحرر للافتتاحيات وصعدتُ رويداً رويداً وعملتُ كثيراً بسلالم أقسام مختلفة، حتي وصلتُ لأعلي مستوي للمحرر الصحفي المتمكن. نفس الممارسة للمهنة كانت تفرض ضرورة أن أتكون ثقافياً، ونفس جو العمل كان يتكفل بتحميسي علي ذلك. وكانت القراءة إدماناً مرتبطاً بالعمل. عادة ما يكون العصاميون طماعين وسريعين، وناس تلك الفترة كنا كذلك وزيادة لنستمر في فتح أبواب في الحياة لأفضل مهنة في العالم... كما كنا نسميها نحن أنفسنا. ألبيرتويراس كامارجو، الذي كان صحفياً دائماً وكان رئيس كولومبيا مرتين، لم يحصل حتي علي البكالوريا. ولم يكن إنشاء مدارس الصحافة بعد ذلك إلا رد فعل مدرسي لتدعيم فكرة أن المهنة ينقصها التعليم الأكاديمي. الآن لا يقتصر الأمر فقط علي الصحافة المكتوبة وإنما وصل لكل الوسائل المبتكرة والتي علي وشك الابتكار. لكن في اتساعها أخذوا من الشارع حتي الاسم المتواضع للمهنة منذ أصولها في القرن الخامس عشر، والآن لا تُسمي صحافة بل علوم الإعلام أو الإعلام الاجتماعي. النتيجة، عموماً، غير مشجعة.
الأولاد الذين يتخرجون من الأكاديميات مدهوشين، يرون الحياة أمامهم، يبدون غير مرتبطين بالواقع وبمشكلاته الحياتية، ويضعون هدف البطولة فوق الميل الطبيعي والمهارات الخلقية. وخاصة فوق شرطين هامين: الإبداع والممارسة. أغلب الخريجين يصلون للصحافة بعيوب فاضحة، وبمشكلات مع الهجاء والقواعد اللغوية، وبصعوبة لفهم النصوص بمرونة. بعضهم يُقدَر لأنهم يستطيعون قراءة مستند بالمقلوب علي مكتب وزير، أو تسجيل حوار مباغت دون إخبار المتحدث، أو استخدام حوار حميمي قبل ذلك كخبر. أخطر شئ أن هذه الاعتداءات الأخلاقية تخلق مفهوم الخوف من المهنة، القائمة علي الضمير والمؤسسة بفخر علي تقديس المهمة مهما كان الثمن وفوق كل شيئ. لا يثيرهم مبدأ أن أفضل خبر ليس هو ما يُكتب أولاً بل في كثير من الأحيان هو ما يُكتب بشكل أفضل. بعضهم، مدركين لعيوبهم، يشعرون بخيبة الأمل من المدرسة، ولا ترتجف أصواتهم وهم يلقون اللوم علي مدرسيهم الذين لم يغرسوا فيهم الفضائل التي يشتكون منها الآن، وخاصة الفضول في الحياة. الحق أن هذا النقد يفيد في التعليم العام، الذي يفسده اكتظاظ المدارس التي تتبع الخط المفرغ الذي يُعلِم ولا يُشكّل. لكن في الحالة الخاصة للصحافة يبدو أن المهنة، فضلاً عن ذلك، لم تستطع التطور بنفس سرعة أدواتها، والصحفيون تاهوا في متاهة التكنولوجيا المنطلقة بلا سيطرة نحو المستقبل. بمعني، أن المؤسسات راهنت بقوة علي المنافسة الشرسة في جانب التحديث المادي وتركت للمستقبل تشكيل فرقة المشاة وميكانيزمات المشاركة التي كانت تعزز الروح المهنية في الماضي. فصالات التحرير معامل عقيمة للبحارة الفرادي، حيث يبدو من الأسهل التعامل مع الظواهر الفلكية من التعامل مع قلوب القراء. عدم الأنسنة أمر سريع.
هناك تقدم هام حدث في النصف الثاني من القرن وهو امكانية التعليق وإبداء الرأي في الخبر والتحقيق، وهكذا أثريت هيئة التحرير ببيانات معلوماتية.مع ذلك، لا تبدو النتائج أفضل، حيث أن المهنة لم تتعرض أبداً لخطر مثل اليوم. فالعمل الشائن المبني علي اقتباسات مزيفة أو صحيحة يسمح بأخطاء بريئة أو متعمدة، تزييف مؤذي أو تحريفات سامة تعطي للخبر عظمة سلاح قاتل. وآراء المصادر التي تستحق التصديق التام، من شخصيات مطلعة بشكل عام أو من كبار الموظفين الذين طلبوا عدم ذكر اسمهم، أو من مراقبين يعرفون كل شيئ ولا يراهم أحد، كل ذلك يخلق نوعاً من الشكاوي التي لا عقاب لها. لكن المذنب يتمسك بحقه في عدم اطلاع أحد علي مصدره، دون أن يسأل نفسه ألم يكن هو نفسه أداة سهلة لمصدر نقل له المعلومة كما أراد وضبطها بالشكل الذي يناسبه أكثر. أنا أعتقد أنه نعم: فالصحفي السيء يعتقد أن مصدره هو حياته نفسها- خاصة لو كان مصدراً رسمياً- ولهذا يقدسه، يتضامن معه، يحميه، ويصل في النهاية لإقامة علاقة تواطؤ خطيرة معه، تؤدي به لاحتقار نزاهة المصدر الثاني.
(نص الكلمة التي ألقاها في أكتوبر 1996 أمام الجمعية الأمريكية للصحافة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.