البنك الأوروبي لإعادة الإعمار يقرض جو باص للنقل 10.6 مليون يورو    قصر ثقافة الأنفوشي يستضيف ماستر كلاس حول فلسفة العلاقات البصرية في المسرح    وفد نقابة المهندسين يتابع أعمال المرحلة الثانية من النادي بأسيوط الجديدة    رئيس الوزراء: الأعاصير الإقليمية تكشف حكمة الرئيس السيسي    رئيس الوزراء: زيادة البنزين والسولار خلال أكتوبر المقبل قد تكون الأخيرة    بتكلفة 65 مليون جنيه.. محافظ الشرقية يفتتح 4 مشروعات جديدة غدًا    مدبولي: زيادة البنزين المقررة في أكتوبر قد تكون الأخيرة.. ودعم السولار مستمر    موعد صرف مرتبات شهر سبتمبر 2025 للموظفين والأشهر المتبقية بعد بيان المالية    نتنياهو: ترامب دعاني لزيارة البيت الأبيض بعد أسبوعين    وزير الخارجية يلتقى سكرتير عام منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية    لاعبو غزة والكرة.. عندما تنزح الأحلام من المخيمات إلى ملاعب القاهرة    أحمد موسى: كل ما يفعله نتنياهو اليوم سيكون له رد فعل    طبيب الأهلي: الفحوصات أثبتت إصابة إمام عاشور بعدوى فيروسية.. وإجراء وقائي للفريق    غرفة عمليات وإشراف قضائي.. كل ما تريد معرفته عن اجتماع الجمعية العمومية    أول تعليق من حسام البدري على قرار الخطيب بعدم الترشح لرئاسة الأهلي    ننشر أمر إحالة المتهمين فى واقعة مقاومة السلطات وحيازة مخدرات بالأقصر للمفتى    فى الأقصر .. الإعدام ل4 متهمين لاتهامهم بمقاومة السلطات وحيازة مخدرات    فني صحي طنطا يتصدر قائمة تنسيق الثانوية الصناعية 3 سنوات بحد أدنى 99.5%.. النتيجة كاملة    بعد طرح البرومو الرسمي.. هذا هو موعد عرض فيلم فيها ايه يعني    بالزي الفرعوني.. نجمة "تايتانيك" كيت وينسلت أمام الأهرامات بالذكاء الاصطناعي    الجرائم الأسرية دخيلة على المجتمع المصرى    ماريا كاري تخطف الأنظار بإطلالتها ومجوهراتها الفاخرة في حفل أم أي 2025    ريهام عبد الحكيم: المنافسة صحية وأنغام أقرب الناس لقلبي    فيديو - أمين الفتوى يوضح حالات سجود السهو ومتى تجب إعادة الصلاة    كم يحتاج جسمك من البروتين يوميًا؟    اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة: أي اعتداء على أسطول الصمود جريمة كبرى    بعد صعودها لأعلى مستوى في 14 عامًا.. كيف تستثمر في الفضة؟    فسحة تحولت لكارثة.. إصابة سيدتين في حادث دراجة مائية بشاطئ رأس البر    شن حملات تفتيشية على المستشفيات للوقوف على التخلص الآمن من المخلفات في مرسى مطروح    لأول مرة.. رئيس الوزراء يكشف عن رؤية الدولة لتطوير وسط البلد    أمين الفتوى يوضح الجدل القائم حول حكم طهارة الكلاب    الرئيس الصومالي: علاقتنا مع إثيوبيا لا تؤثر على شراكتنا مع مصر    الصحة: توفير لقاح الإنفلونزا الموسمية مجانًا للفرق الطبية    الشيخ خالد الجندى: أبو هريرة كان أكثر الصحابة رواية للسنة النبوية    مراسل "القاهرة الإخبارية" من النصيرات: غزة تباد.. ونزوح جماعى وسط وضع كارثى    شاهد تخريج الدفعة 7 من المدرسة القرآنية فى سوهاج    "حياة كريمة" تنظم قافلة طبية شاملة لخدمة أهالي القنطرة غرب بالإسماعيلية    افتتاح المؤتمر السابع للشراكة من أجل المبادرات الدولية للقاحات (PIVI) فى القاهرة    طريقة تجديد بطاقة الرقم القومي إلكترونيًا 2025    رئيس هيئة النيابة الإدارية يلتقي معاوني النيابة الجدد    أمل غريب تكتب: المخابرات العامة المصرية حصن الأمن القومي والعربى    8 صور ترصد استقبال زوجه وأبناء حسام حسن له بعد مباراة بوركينا فاسو    برشلونة يعلن مواجهة خيتافي على ملعب يوهان كرويف    هتوفرلك في ساندويتشات المدرسة، طريقة عمل الجبن المثلثات    تشكيل الهلال المتوقع أمام الدحيل في دوري أبطال آسيا    «شوبير» حزين لجلوسه احتياطيًا في لقاءات الأهلي ويطلب من «النحاس» تحديد مصيره    البنك الأهلي المصري يحتفل بتخريج دفعة جديدة من الحاصلين على منح دراسية بمدينة زويل    انتبه.. تحديث iOS 26 يضعف بطارية موبايلك الآيفون.. وأبل ترد: أمر طبيعى    السكك الحديدية: إيقاف تشغيل القطارات الصيفية بين القاهرة ومرسى مطروح    وزيرة الخارجية البريطانية: الهجوم الإسرائيلي على غزة متهور    مهرجان الجونة السينمائي يمنح منة شلبي جائزة الإنجاز الإبداعي في دورته الثامنة    الأرصاد: انخفاض طفيف فى درجات الحرارة.. وبدء الخريف رسميا الإثنين المقبل    وزير التعليم: المناهج الجديدة متناسبة مع عقلية الطالب.. ولأول مرة هذا العام اشترك المعلمون في وضع المناهج    محافظ بني سويف: 28% نسبة الإنجاز في مشروع كوبري الشاملة ونسير وفق الجدول الزمني    أمين الفتوى: الشكر ليس مجرد قول باللسان بل عمل بالقلب والجوارح    بلدية غزة: اقتراب موسم الأمطار يهدد بتفاقم الكارثة الإنسانية بالمدينة    اليوم.. انتهاء العمل بمكتب تنسيق القبول بجامعة الأزهر وغلق تسجيل الرغبات    إبراهيم صلاح: فيريرا كسب ثقة جماهير الزمالك بعد التوقف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الثقة والريبة
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 06 - 2009

فى حديث بينى وبين أحد الأصدقاء حول خطاب أوباما فى القاهرة، وصفنى الصديق بأننى «متفائل»، وأن ظاهر الأمور ليس بالضرورة كباطنها. وأعتقد أن ما قاله الصديق يعبر عن قضية عامة. فهناك بشكل عام نوعان من البشر، بل وأحيانا من الجماعات أيضا. فهناك من يصدقون بشكل عام ما يقال لهم. كما أن هناك أيضا من يرتابون فى كل ما يقال أمامهم.
الأولون كثيرا ما يوصفون بالسذاجة، فى حين أن الآخرين هم أقرب إلى الارتياب أو ما يعبر عنه بالإنجليزية Cynics التى لم أجد لها ترجمة دقيقة، فكل ما يقال أمامهم هو تغطية لأشياء غير معلنة وغالبا شريرة. وإذا كان الأولون يوصمون «بحسن النية»، فإن الآخرين يوصفون «بحسن الفطنة». وبشكل عام تتوافر الصفة الأولى لدى الشباب وصغار السن، فى حين أن الثانية تظهر بشكل أوضح لدى الشيوخ وكبار السن. الأولون يميلون إلى التفاؤل وحسن الظن بالمستقبل، والآخرون أقرب إلى التشاؤم نتيجة تجاربهم وخبراتهم الماضية. ولعل الحقيقة هى بين الأمرين، فالبشر ليسوا ملائكة لا يكذبون أبدا كما أنهم أيضا ليسوا شياطين يكذبون باستمرار. ومع ذلك فإن هذه النتيجة التوفيقية بالاعتراف بوجود الصدق والكذب معا، ليست دقيقة، ولا هى مفيدة. فالصدق والكذب ليسا على قدم المساواة. حقا يتواجد الأمران فى كل المجتمعات وبلا استثناء. فالجميع يصدق ويكذب، ولكن، وهنا الفارق، الأصل فى الأشياء هو الصدق فى حين أن الكذب خروج أو استثناء على هذا الأصل. ويرجع ذلك إلى اعتبارات بيولوجية فى تكوين الإنسان الطبيعى كما يعود فى نفس الوقت إلى ضرورات اجتماعية لوجود المجتمع نفسه وتماسكه، فضلا عن ضوابط أخلاقية راسخة. فالصدق بعمومه وليس الصدق المطلق هو من طبيعة الإنسان السوى كما أنه العنصر الأساسى لوجود المجتمعات واستمرارها.
فهل نصدق الآخرين أو لا نصدقهم؟ هل نفترض مقدما أن الآخر صادق أم كاذب؟ هذا هو السؤال.
وكنت قد نشرت فى جريدة الأهرام منذ عدة سنوات (2006) مقالا بعنوان «الإنسان حيوان كاذب». ولم يكن المقصود من هذا العنوان القول بأن الإنسان يكذب دائما، بل كان الغرض هو الإشارة إلى أن الإنسان هو وحده القادر على الكذب رغم أن الكذب ليس كل حياته. فكيف يختص الإنسان دون غيره بالكذب؟
الكذب مرتبط باللغة. فدون لغة لا كذب، فأنت تطلق عبارات ذات معانى مستقرة فى الوجدان الاجتماعى ولكنك قد تقصد أشياء أخرى. فالكذب عمل إرادى مقصود. ونظرا لأن الإنسان وحده يتمتع بالإرادة الحرة ونعمة اللغة، فهو وحده أيضا القادر على الكذب. فقد حبا الله الإنسان وحده من دون الكائنات الأخرى بنعمة اللغة. حقا هناك العديد من الحيوانات والطيور التى تصدر أصواتا محددة للتعبير عن احتياجاتها البيولوجية مثل الجوع أو الخوف أو الرغبة فى الجماع. ولكن هذه الأصوات ليست لغة لأنها ليست إرادية واختيارية بل هى مجرد تعبير غريزى. أما اللغة عند الإنسان فهى عمل إرادى، فهو يختار متى يتحدث ومتى يصمت، وعندما يقرر الحديث فهو يختار الألفاظ المناسبة، وقد يكذب فيما يقوله.
فاللغة وما توفره للإنسان من حرية فى اختيار الكلمات والألفاظ تعطيه الفرصة للصدق أو الكذب. واللغة مجال واسع يسمح للفرد بالاختيار والمراوغة. فاللغة بما تتضمنه من حرية الاختيار تسمح للإنسان بالمغالطة والادعاء بل والكذب. وهكذا، فكما يتمتع الإنسان وحده بالبلاغة أو الفصاحة، فإنه أيضا وحده القادر على الكذب. وكما يصعب أن تجد عصفورا فصيحا أو بقرة بليغة، يستحيل أن تجد بغلا كاذبا! الحيوانات لا تكذب لأنها لا تستطيع ذلك.
وإذا كان الإنسان وحده يكذب فليس معنى ذلك أن الكذب هو صفته الأساسية. فيظل الأصل عنده هو الصدق، ويأتى الكذب استثناء من هذا الأصل. فالطفل الصغير يصدق غالبا والكذب عنده أمرٌ غريبٌ ومستهجن، وعلى حين تصدر عباراته الصادقة تلقائيا ودون عناء، فإن الكذب يحتاج منه إلى جهد وتترتب عليه عادة معاناة نفسية. الصدق أقرب إلى الفطرة والكذب يحتاج إلى جهد وصنعه. فأنت لا تحتاج إلى أسباب أو مبررات لقول الصدق، ولكنك فى حاجة لذلك عند الكذب. الكذب خروج على الطبيعة والتلقائية.
وإذا كان الكذب هو نتيجة وجود اللغة، فإن غلبة الكذب على الحوار يهدم اللغة ذاتها ويفسدها ويعطل دورها. فإذا غلب الكذب وشاع بين الناس ضاعت المعانى وفقدت الكلمات مغزاها وانقطع التواصل بينهم، ولم يعد للغة من معنى أكثر من مجرد أصوات بلا دلالة. فاللغة تقوم على ركيزتين، الأولى «لغوية» بحت من حيث توافر الكلمات وتعددها ووضوح معانيها واستقرار قواعد الصرف والنحو عند استخدامها، أما الركيزة الثانية فهى ركيزة «اجتماعية» تتعلق بتوافر الثقة بين المتحدثين باللغة على الصدق فى الحديث أو على الأقل حسن النية. فالتعامل باللغة يفترض قدرا من حسن النية فى صدق ما نعلنه. ووجود اللغة واستمرارها يفترض درجة من المصداقية فى خطاب الأفراد، وأنهم، وإن لم ينطقوا دائما بالصدق الكامل، فإنهم لا يتحدثون أيضا بالكذب المطلق. فالمجتمعات قد تتقبل هامشا من الكذب وتتعايش معه، ولكنها لا تستطيع الحياة فى جو من الكذب المطلق.
ولكن الحاجة إلى الصدق بشكل عام وإن لم يكن مطلقا لا ترجع فقط إلى اعتبارات الطبيعة البشرية بل يبدو أن هناك أيضا نفورا أخلاقيا طبيعيا لدى معظم الجماعات ضد الكذب. فالكذب ليس فقط خروجا على التلقائية بل هو مدان أخلاقيا واجتماعيا. والإنسان ليس مجرد كائن حى عادى، ولكنه وعلى خلاف الكائنات الأُخرى هو كائن «أخلاقى» يميز بين الخير والشر، ويعرف الفارق بين الحق والباطل. وليس من الضرورى أن يقوم دائما بأعمال الخير أو يتجنب أعمال الشر، ولكنه يعرف الفارق بينهما ولا ينجو من خجل من نفسه عند اقتراف أفعال شائنة ومن شعوره بالخزى والعار أمام مجتمعه الصغير. فجميع الأديان وكذا المبادئ الأخلاقية تدين الكذب وترى فيه جريمة أخلاقية واجتماعية. ولذلك يصعب أن يظهر الكذب علنيا، ويظل دائما من أبناء الظلام يبرز مترددا وعلى حياء وعادة مغلفا بالعديد من المبررات النفسية. فالكذب يتضمن تكلفة اجتماعية من سخط الناس واحتقارهم للكاذب.
لكل ذلك، فإن الكذب وإن كان صفة للبشر لا يشاركهم فيها أحد من الكائنات الحية الأخرى، فإنه يظل مع ذلك استثناء فى حياتهم. فالأصل فى العلاقات الإنسانية هو الصدق والاستثناء هو الكذب، ولكنه استثناء شائع، كهامش يمثل نسبة محدودة من مجمل علاقات التخاطب. فلا يوجد مجتمع واحد بلا كذب. ولكن ليس معنى ذلك أن كل ما تقوم به هذه المجتمعات أو أغلبه كذبا. الكذب - ورغم انتشاره يشغل حيزا أقل بكثير مما يشغله الصدق.
وبطبيعة الأحوال تختلف الجماعات من حيث مدى غلبة الصدق فى نظامها الاجتماعى والسياسى والأخلاقى. وقد رأى بعض الدارسين أن المجتمعات الأكثر تقدما استندت فى تقدمها إلى ما تتمتع به من ثقة فى المعاملات ومصداقية فى التعامل، وذلك على عكس المجتمعات التى تندر فيها الثقة فى التعاملات وتغلب عليها الريبة والكذب، فإنها قلما تعرف تقدما اقتصاديا واجتماعيا. فمجتمعات التقدم أكثر صدقا وصراحة كما أن مجتمعات التخلف أكثر كذبا ولوعا.
وكل ذلك لم يمنع بطبيعة الأحوال من أن التاريخ البشرى قد عرف أكاذيب هائلة استمرت قرونا نتيجة لمعتقدات خاطئة أو حماية لمصالح اقتصادية أو مزايا اجتماعية لطبقة أو جنس.
والخلاصة أنه رغم كثرة الكذب وتفشيه فى عالمنا البشرى، فمازال الأصل هو الصدق وبالتالى الثقة فى الآخرين. حقا، ليس صحيحا أننا نعيش فى عام من الملائكة، ولكنه قطعا ليس عالما من الأبالسة. فهناك الصدق والكذب، ولكن الصدق أكثر وأعم، وإن كان الكذب أخطر وأشد إيلاما.
قد يكون من حسن النية أو حتى من السذاجة الميل إلى التفاؤل إزاء ما يصدر من السياسيين من مؤشرات إيجابية، ولكن الاعتقاد بأن كل بارقة أمل تظهر من جانبهم لا تعدو أن تكون مصيدة للإيقاع بنا أمر لا يقل خطورة. صحيح أن سوء الظن من حسن الفطن، ولكن المثل يقول أيضا تفاءلوا بالخير يأتيكم. وتظل الحجة الأخيرة لأصحاب نظريات الشك والارتياب، هى أن «السياسيين»، وربما يضاف عليهم رجال المال، ليسو من فئة البشر، أو هم بالأحرى فئة خاصة من البشر لا تتقيد بما يتقيد به عموم الناس. وهو احتمال لا يسهل استبعاده ببساطة. والله أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.