أسوأ الناس في الدنيا والآخرة: المنافق الذي يلقى الناس بوجهين، أو وجوه مختلفة؛ فلا الناس يحبون نفاقه، ولا ربّ الناس يرضى عنه، ولا المجتمع يستقيم أمره إذا كثر فيه هذا الصنف السرطاني من البشر؛ بل تفسد سيرته، وتختل مسيرته، وينقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين. لأن الأمور ينبغي أن تكون مستقيمة، لا عوج فيها، ولا انحراف، ولا غش.. وأسوأ المنافقين المتكسّب بالدين يبتغي الدنيا، والمتحدث باسم الله لا يبتغي وجهه سبحانه. ويقترب منه في السوء: الفاسق الذي يدّعي الطهر، واللص الذي يدعي الأمانة، والخوؤن يعادي الشرفاء باسم الشرف وطهارة اليد. والحق أن قطاعًا من الناس يعيشون ازدواجية من نوع غريب، تؤدي إلى الجمع بين المتناقضات، ما ينتهي بهم إلى صور من الخلل النفسي، أو الاجتماعي، أو العقيدي، يمكن أن توضع – ولو مجازًا – في إطار النفاق العملي أو الاعتقادي. وهذه الازدواجية لا يحياها – في زعمي – العلماني، ولا اليهودي ولا النصراني؛ لأن أحدهم منسجم – تمامًا – مع معتقده ودينه وفتاوى الحاخامات وأصحاب القداسة الكرادلة. فهو يعيش حياته على الوجه الذي يريد؛ بكل صور الانفلات والتطرف الخلقي والعقيدي، والاجتماعي؛ دون أن يكون بعيدًا جدًّا عن اليهودية أو النصرانية.. فالكنيسة – مثلاً – رضيت أن تعيش، وأن تترك أتباعها يعيشون، ووافقت على أن يفعل أحدهم ما يشتهي، ويبقى – مع ذلك – النصراني الصالح، الذي سيسكن على يمين الرب في ملكوت السماء.. كيف هذا؟! إن كل مطلّع على حال أصحاب هاتين الديانتين اللتين تعايشان الإسلام فيما صار الآن يسمى بالشرق الأوسط – أو حتى بعيدًا عنه – يجد مصداق هذا الكلام في السلوك القولي والعلمي لليهود والنصارى.. فنصراني هذا الزمان يمكنه أن يشرب الخمر، ويسكر، "ويصهلل" منذ مقتبل عمره، بل يمكن أن يُفطم عليها كما فطم عليها زميل الدراسة الكوري (سامي مين يول تشي) الذي هداه الله بعدُ فأسلم! ولم لا والكنيسة تجعل من الطقوس داخلها أكلَ الخنزير وشربَ الخمر، حيث يتحول الخبز – فيما يعتقدون – إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه، فهل يكون الخمر حرامًا إذا كان شرابًا قربانيًّا داخل الكنيسة يوزعه "الأب" بنفسه؟! ونصراني هذا الزمان يمكنه أن يزني، أو يشذّ جنسيًا، ويجد الكنيسة التي تشجعه، والأب القسيس الذي يباركه، والذي يدعو لإقامة الحفلات المختلطة داخل الكنيسة، ويطفئ الأنوار بنفسه، وينصرف بعد أن يطمئن إلى أن الأمور على ما يرام. ولا أنسى الزيجة التي تمت في بريطانيا منذ ستينيات القرن الفائت داخل الكنيسة – ولأول مرة بشكل علني – بين شابين من الشواذ، وما حدث من زيجات منذ هذا الوقت إلى يومنا هذا، ولا أنسى الآباء غير الأسوياء الذي فاح عفنهم، وزيجات السحاقيات التي تتزوج فيها امرأتان ترتدي إحداهما ترتدي ملابس العروس البيضاء، وأما الثانية فتكون متأنقة في "بدلة " رجل، ليباركها قسيس مثل ميشيل فيلدنج الذي قال بفخر: إن كنيستي تتمتع بنظرة متحررة من ناحية الشذوذ الجنسي، وتقبله طريقة الحياة! أو يتزوج رجلان يكون أحدهما المدام والآخر الجنتلمان، كما فعل الشايب العايب ألتون جونز الذي يتباهى بها البريطان! ونصراني هذا الزمان لا يجد مانعًا من أكل الربا، وعبادة البنك المركزي في بلده من دون المسيح؛ لأن عنده نصًّا إنجيليًّا يأمره أن يجعل ما لقيصر لقيصر؛ فهو – إذن – حرّ في أن يأكل الربا أضعافًا مضاعفة، ويباهي – مع ذلك – باقتصاده المتين. أو يتجر في الأعضاء البشرية ويتكلم عن الرحمة. أو ينشئ شبكات دعارة الأطفال ويتباكى على تشغيل الأطفال في العالم الثالث. ويبيع الأسلحة للمتحاربين ويتحدث عن السلام. أو يكيل بمائة مكيال ويتحدث عن العدالة. ويصدّر أدوات التعذيب لأباطرة الدكتاتوريات في العالم الثالث عشر، ويتحدث عن حقوق الإنسان.. دون أن يحس بأدنى تناقض بين كونه مسيحيًّا ومشعلاً للحروب، أو مصدّرًا للفتن؛ لأن هذا من جملة (ما لقيصر) فلا دخل ليسوع - عليه السلام - ولا للكنيسة، ولا لأحدٍ فيه. بل إنه – حتى – لو أحس بشيء من تأنيب الضمير لتوجه إلى أقرب أبرشية، وجلس أمام الكاهن معترفًا لينال صكّ المغفرة الذي يُحلّه من ذنوبه كلها، ويعفيه من المسؤولية عن خطاياه، فتصير صفحته بيضاء كيوم ولدته أمه، ولا تهم الأرواح التي أزهقت، والأموال التي نهبت، والأباطيل التي روّجت، والإباحيات التي نشرت عبر الفضائيات والإنترنت والمجلات المتخصصة والهاوية.. فالغفران – عندهم – سهل المنال، (واللي تعرف ديته اقتله)! لهذا لا يحس أمثال الإرهابيين الدموي جورج بوش، وديك تشيني، وميلوسوفيتش - وأشباههم من كل زفتيتش وهباببيتش وظلميتش وبطشيتش - بأي نوع من تأنيب الضمير؛ بل يشعرون بالفخر والنشوة والاستعلاء بما أسالوا من دماء، وما كوموا من أشلاء، وما قتلوا من أبرياء! واليهودي أمهر من النصراني في هذا الباب، بحكم " العراقة " التاريخية، والإذن التلمودي ليهود العالم بأن يفعلوا مع (الأمميين) ما يشاؤون، فالتلمود – كتابهم الأقدس – يبيح لهم الربا مع الجوييم – غير اليهود – والزنا والسرقة والقتل، وشرب دم الأممي أو مزجه بالفطير المقدس عندما تسنح الفرصة، وتؤمَن المؤاخذة! وهو – مع ذلك – يهودي صالح، يضمن الجنة، ويمتلك مفاتيحها، ويقول بملء صوته: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا.. ). فلا غرابة – طبق عقيدته – إذن – إذا رأيت أربعة أو خمسة أو عشرة يهود كالبغال المعلوفة، يجتمعون على صبي في العاشرة، وفي أيديهم الحجارة (وهات يا كسر) في مفاصل يديه ورجليه، بعد ركله والبصق عليه وضربه ضربًا مبرحًا.. لا يحسون مع ذلك بأدنى مهانة، أو معرة، أو تأنيب (اسمه إيه ده). بل تراهم يبتسمون؛ لأنهم – طبق عقيدتهم – يقومون بقربة دينية يثابون عليها! ولا غرابة أن يستقتل الإرهابي نتن ياهو في الدفاع عن إرهابييه الصهاينة الذين دكوا غزة بالفوسفور الأبيض، والذين قتلوا ركاب أسطول الحرية، والذين يمارسون الإرهاب (الديني) صبح مساء، ويحمييهم الأصوليون المتطرفون في الغرب.. لا غرابة؛ فهو متوائم تمامًا مع معتقدهم الديني والقيمي والفكري والقانوني! ولا غرابة أن يستميت القاتلان بلير وبوش وأعوانهما من الأذناب في التفنن في الدفاع عن إبادة الملايين، وتشويه الملايين، وتشريد الملايين، ونسف التاريخ والجغرافيا والحقيقة والأخلاق في العراق وأفغانستان، فهو متوائم تمامًا مع معتقدهم الديني والقيمي والفكري والقانوني! ولا غرابة أن يستميت الإعلام النصراني الغربي في تشويه الحقائق، وصناعة الأكاذيب، واستباحة كل ما حرمته الشريعتان النصرانية واليهودية، فهو متوائم تمامًا مع معتقدهم الديني والقيمي والفكري والقانوني! لكن الذي يشغلني أكثر هو أمر المسلم الذي يريد أن يعيش حياته بكل ما فيها من سلبيات – بجانب قصوره الشخصي، والنقص الشديد في معرفته بدينه – يأخذ من عقائد الغرب، وسلوكيات أبنائه، وينهل من أهواء النفس وتسويل الشيطان.. ثم هو مع ذلك يرفض – تمامًا – أن تناقشه في أمر دينه، أو تنصحه، أو تنتقده، لأنه مسلم (أربعة وعشرين قيراط) وله من العمل ما يكفيه لدخول الجنة – كما سمعت من فم رئيس تحرير جريدة كبيرة، وهو أحد كبار المسقفين المرموقين – ولأنك ربما توصف بمائة وصف ووصف، أقلها أن (سلك حضرتك ضارب) وأنك متخلف حضاريًّا، هذا إذا لم يلصق بك تهمة الإرهاب، أو العمالة، أو بيع الوطن لصالح فيدل كاسترو، أو بول بوت، أو شبرا بخوم المحطة. والاتجاه العام بين قطاعات عديدة من المسلمين– إبقاء الحال على ما هو عليه، واعتبار أيّ شيء موجود - مهما كانت دناءته - إسلاميًا (وآخر حلاوة) بل كثيرًا ما يتطوع بعضهم بالسعي لإضفاء المشروعية وإقامة الدليل عن أن كل شيء (تمام) من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والبخاري وأبي حنيفة وابن تيمية وابن عبد الوهاب ومحمود مرسي وأسامة أنور عكاشة. وكثيرًا ما يتحرك بعض لاعبي الشطرنج لاستصدار فتاوى بمشروعية كذا أو كذا مما يستحيل أن يكون مشروعًا، ليجد من يفتيه بكلمات شرعية تُلوى أو تساق على غير وجهها، ويُنتحى بها نحو فهوم غير مسبوقة ولا معقولة.. وبسهولة يمكن إيجاد كائن من أصحاب (الذمة الأستك) والعقل الصلد، والقلب الأغلف، ليؤكد أن البيكيني لباس شرعي متحضر، لأنه زينة، والله تعالى يقول: (قل من حرم زينة الله؟!) وأن الأنشطة (السياحية) ضرورة وفريضة لأن الله يقول: (سيروا في الأرض فانظروا)! وإن التجارة في الخمر عمل مباح لأنها تنشط السياحة، والسياحة فريضة، وما لا تتم الفريضة إلا به فهو فريضة. وإن عزل الدين عن الدنيا أمر معلوم من الدين بالضرورة، لأن الله يقول في الإنجيل: (أعطوا ما لقيصر لقيصر.. وما لكوش دعوة بحاجة)! وتجد من الكتبة من يجعل الراقصة فلانة مبدعة، والفنانة علانة راهبة من راهبات الفنّ، والمفكر العلماني ترتان رمزًا حضاريًّا إسلاميًّا، والشاعر الحداثي هو صناجة العرب البعارير، وشاعر الشعارير، وداعية التنوير السلفي المستنير. وإن المستقرئ قد يصل إلى نتيجة تبدو مريحة.. وهي أن الدنيا كلها ستقبل الإسلام، وتحبه وترتضيه – بما فيها مجلس الكنائس العالمي، والكنيست الإسرائيلي وال CIA والجن الأزرق – إذا كان في وداعة النصرانية، ومرونتها، وقدرتها على (المشي جنب الحيط) وإعلانه الرغبة في أنه (عايز يربي العيلين، وربنا يطلعنا منها على خير)! لو حصل هذا لما كان الإسلام مشكلة، ولما (ردح) له الردّاحون، ولعن جدوده اللّعانون.. لكن الداهية في هذه الإسلام أنه يريد أن ينظم الدنيا، ويتدخل في الاقتصاد ليمنع الربا، وفي السياسة ليمنع الأرزقية، والحلنجية، والنصابين، ومصاصي الدماء، وبائعي الشعوب من الاستمرار في التدمير، وفي الترفيه ليحرم الفيديو كليب، والبريك دانس والحلو والنبي تبسم والنبي، وفي الحرب ليمنع التطهير العرقي واستخدام النابالم، وفي حقوق الإنسان ليحرم التعذيب والقسوة، وفي مناهج التعليم ليقطع دابر الخطط الراندية، والدنلوبية، والغوردونية، والفرويدية، والدّركايمية، وكتب التربية الجنسية المقررة على أولى حضانة. وإذا كان الغربي يشعر بالضنك، والخواء الداخلي، وجوع النفس – رغم غياب إحساسه بالتناقض – فما بالك بالمسلم الذي يرفع الأذان حوله في اليوم مرات ومرات، ويقرأ – إذا صلى: (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). أيمكن ألا يحس بالتناقض الداخلي، والضّنك والشظف، وأنه كالمقاتل المكشوف الذي لا يجد ملجأ يأرز إليه، ولا منجىً يلوذ به، ولا شفيعًا يؤازره، ولا نصيرًا يظاهره؟! أستبعد.. وأستبعد أيضًا ألا تكثر في الأمة في عقود قادمة أنواع من الجرائم والابتلاءات لا عهد لها بها.. أقلها ارتفاع معدلات الانتحار بسبب الشقاء النفسي، وزيادة الأمراض الاجتماعية التي لم تكن فيمن قبلنا، وتسلط الظلمة والمتاجرين بالشعوب، وتعسف الجلادين والإرهابيين الرسميين، والبلطجية حملة السنج والجنازير، وتنفذ تجار القوانين ومزوري إرادات الشعوب، وتحكم الجهلة والسفلة والمأبونين، وقوة قبضة المعلم حكشة بتاع الصنف، والبدري افندي بتاع الحزب، والست فتكات العمشة بتاعة السمو الروحي! فهل نتراجع قبل الفوت، ونستقيل ربَّنا عزّ وجل قبل الموت؟ ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد