بلا مقدمات ولا تمهيد لا أريد لأحد يتصور أن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما حدث بعد 25 يناير وحكم المجلس العسكري ثم انتخابات تأتي برئيس على غرار الدكتور محمد مرسي يمكن أن يتكرر. الإنسان لا ينزل النهر نفسه مرتين، والحوادث التاريخية لا تتكرر بنفس تفاصيلها، إنما للكون وللاجتماع الإنساني سننا ونواميس وقوانين: إذا تكررت نفس المقدمات، تتحقق نفس النتائج. وهذه الأيام السوداء التي نحياها تحت حكم السيسي تنذر بكوارث قادمة. السيسي ليس له شعبية عبد الناصر. ولا انتصار السادات. ولا كاريزمة الشاذلي أو حتى أبو غزالة. ولا توازنات مبارك. ولا خبرة طنطاوي، أو حتى سامي عنان. وطبعا ليس له شرعية مرسي. نحن باختصار أمام هاوٍ يتعلم الزيانة في رؤوس اليتامى، ولن تسمح له المعادلات الإقليمية ولا الدولية بالاستمرار، ولن يساعده ضعف الدولة الاقتصادي على المغامرة. والدول التي تدفع وتموّل ليست جمعيات خيرية، ولا تجمعات للمحسنين للإنفاق على مغامرات الهواة. السيسي هاوٍ التف حوله بعض المرتزقة، تزينوا ببعض من قَبِل على نفسه أن يكون محلِّلا أو تيسا مستعارا، موظِفين بحسن نية بعض الديكورات الرمزية ممن دخل عليها بالخوف على كيان الدولة المصرية، وأسطورة الحرب الأهلية، وانقسام الجيش، وضخّم لهم خطرًا محتمل الحدوث، ليوقع بهم وبالبلد في كارثة تحقق بالفعل، حتى وصلوا بنا إلى تلك اللحظة السوداء التي نحن فيها. عندما آلت الأمور إلى فريق جمال مبارك وعلى رأسهم أحمد عز كتبتُ أنه سيصطدم بالدولة كلها في جبل الجليد العائم، ولم يمر عام وجاءت انتخابات 2010 لتنفجر الأمور، ويصل بحر المصريين إلى درجة الغليان فيثور ويفور ويغرق دجاجلة أرادوا أن يطبقوا قوانين البزنس في عالم السياسة والمجتمع فأفشلوا الاثنين. وها نحن منذ مهزلة 3 يوليو وإلى الآن أمام دجاجلة من نوع آخر، يريدون أن يطبقوا قوانين الجيوش والمعسكرات على المجتمع والدولة وها هم يهلكون الاثنين: جيوشا ودولة. كتبت من أيام أنه طالما كانت المعركة بين الإخوان (تنظيما وموالين) والسيسي متذرعًا بمقدرات الدولة المصرية (جيشا وشرطة واقتصادا وقضاءًا ورجال أعمال ووسائل إعلام) فالنتيجة الحتمية هي سحق الطرف الأول ولو بعد حين. لأن الكتلة الحرجة، وهي الكفيلة بتغيير موازين القوى على الأرض تتصور (ولو خطأ) أنها معركة ليست طرفا فيها، أو كما يقولون: لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وطالما كانت الكتلة الحرجة خارج حسابات المعركة، فهزيمة النظام العسكري شبه مستحيلة. الكتلة الحرجة هي القادرة على تغيير ميزان القوى على الأرض، وتحييد مؤسسة الجيش، بل وتسليم وزيرها تسليم أهالي (وهو ما يسمى في بعض كتب العلوم السياسية: بخيانة الجيش للنظام الحاكم). وفي الأيام الأخيرة اتسعت رقعة المعركة مع فريق سياسي لم يكن معترضا من حيث المبدأ على متاهة مصطفى حجازي، أقصد خارطة الطريق، ويود لو تم الالتزام بها. إنما قطار العسكرة قد وضع على السكة: إما أن يدهس مختلف تيارات المجتمع، وليس فقط المعارضين فيه، وإما أن ينقلب القطار، أو يرجع إلى مساره الطبيعي في معسكرات الجيش وحماية الحدود. وكان قانون منع التظاهر الغاشم والغشيم، وكانت عملية الأحكام الباطلة 11 عاما على بنات دون العشرين، وكانت عملية سلق الدستور وتحصين السيسي، وما أثارته بعض المواد من مخاطر حقيقية كمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. كل ذلك أثبت أنه لن يكون دستورا لكل المصريين، وإنما دستورا للسيسي ولشعبه. اتسع نطاق المعركة، وبدأت معركة تكسير العظام، وبدأ وحش الاستبداد يكشّر عن أنيابه للجميع، ويكشف عن مخالبه الشرسة للجميع. بدأ وحش الاستبداد يطال الجميع ويفترس الجميع، وليس فقط المتفرجين، بل حتى المؤيدين. وبدأت هندسة المستقبل وتفصيل كيان دولة وشعب عظيمين على مقاس شخص واحد هو بلا مواربة ولا كلام ساكت عبد الفتاح السيسي، بل والأخطر نسج مستقبل شبكة علاقات الدولة المصرية الخارجية (إقليميا ودوليا) على مقاسه، وبما يدعم مكانته ومكانه وشبكة تحالفاته ومصالحه ومصالح المرتزقة الذين التفوا حوله ليعزلوا رئيسا منتخبا تم تضخيم أخطاءه، وشيطنة فريقه (ولا ينفي ذلك أصل وجود أخطاء، اعترف بها الجميع (رئيسًا وفريقا). بدأت الموجة الثورية الثالثة، وآن لمعادلات الصراع على الأرض أن تتغير، وتعود التحالفات الأساسية على نفس مبادئ ثورة يناير التي لم يتحقق منها شيء، بل وتم الانقلاب عليها في 3 يوليو، وعلى الأهداف الرئيسية لها وهي: الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وفي الموجة الثورية الثالثة لا عودة لأخطاء الموجتين الأولى والثانية: فلا توظيف للأطراف السياسية، ولا التفاف على المبادئ والأهداف المتوافق عليها، ولا نظر تحت الأقدام، فتغلب مصالح سياسية فئوية ضيقة، ولا بيع للحلفاء والمقايضة عليهم، أو التفاوض من خلفهم أو التضحية بهم مهما كانت إغراءات الدولة العميقة. بدأت الموجة الثورية الثالثة وبدأت معركة تكسير العظام، لن يتراجع العقل الأمني والعسكري عما يظن أنه قد حققه من مكاسب، ولن يتراجع ثوار الموجة الثالثة عن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، الحريات العامة، والكرامة الإنسانية. الناس ما نزلت في 30 يونيه لتنتصر الثورة المضادة، ولا فوضت السيسي لترجع الدولة الأمنية، ولا ليقتل أبنائها في الشوارع وفي الجامعات، ولا لترهن إرادة الدولة المصرية لمن يدفع ويمول مغامرات عفى عليها الزمن، من يموّل ليس جمعية خيرية، بل له مطالب وشروط وأهداف وتطلعات. الناس ما نزلت في 30 يونيه إلا لتدفع خطرا مظنونا، لا لتقع في خطر محقق على كيان الدولة المصرية: خطر حقيقي غير مضخّم، وغير مبالغ فيه. خطر حقيقي، وليس شغل مخابرات، وشؤون معنوية. اتسع الخرق على الراتق، وانكشفت الدولة الأمنية وأجهزتها القمعية الغشيمة. وانكشفت الدولة العميقة، وأذرع السيسي الخبيثة. وآن أن تتوج الموجة الثورية الثالثة بنزول الكتلة الحرجة، فلقد بات الخطر محققا، وعلى الجميع ولن ينجي أحد سكوته، وإن سكت. آخر كلام: عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. والإنسان لا ينزل النهر مرتين. ونظام محمد مرسي أصبح في ذمة التاريخ. ونظام السيسي والدولة الأمنية تجاوزه الزمن.