اللحظات الفاصلة في تاريخ الأمم لا تحتمل الخلاف على التفاصيل، ولا أنصاف الحلول، ولا مسك العصا من المنتصف، ولا الكلام الحمّال أوجه. ليس كل من وقف ضد ظلم واستبداد نظام السيسي هو مع الإخوان أو منهم، وليس كل من وقف ضد نظام الرئيس مرسي وعشيرته وأهله، يرضى عمّا حدث من قتل واعتقالات طالت حتى النساء والطلاب. صحيح أنه في لحظات الاستقطاب السياسي والحزبي يصبّ طرفا الاستقطاب جام غضبهما على أصحاب التيار الثالث، ولا يسيرون في ركاب الأغلبيات المتوهمة أو الموهومة، ولا يصفقون مع من يصفق لحاكم مستبد، لأن كل طرف يحسبه على خصمه. إنما هكذا هي أقدار من يواجهون طاغوت الحكام، وطاغوت الحركات الشعبوية، وكلاهما لا يقل إقصاء للمخالفين ولأصحاب الرؤى المختلفة، ووجهات النظر الأخرى. كنّا في نظام الدكتور مرسي نواجه مستبدًا محتملا، فإذا بنا مع نظام السيسي أمام ظالم ظلما يقينيا مؤكدًا، لا يواري ولا يداري ولا يغلف ظلمه واستبداده حتى بغلاله قانونية. مصر في لحظة فارقة وعلى مفترق طرق، ومواجهة نظام السيسي وما يرتب له من حكم مصر حكما استبداديا سواء أكان من أمام ستار وبانتخابات تزيف أصوات صناديقها حتى قبل أن تبدأ،ويترتب قضاتها وأجهزة إعلامها،أو يظل يحكم كما يحكم الآن من خلف الستار. أقول: إن نظام السيسي الحالي والمقبل لن يحقق لمصر:لا سلاما داخليا، ولا أمناأهليا، ولا استقرارا مجتمعيا، ولا تنمية اقتصادية، ولا توافقاسياسيا، ولادورا إقليميا محترما. باختصار نظام السيسي خراب حاضر ومؤجل، ومن يقول غير ذلك يعلم أنهيعزف في جوقة غير مسموح له بالعزف خارج النوتة الموزعة، وكلهم قد تعلم من رأس الذئب الطائر. الفاعل الأساسي في المشهد المصري الراهن وإلى أن يشاء الله شيئا، وتتحرك الكتلة الحركة هو بلا مواربة ولا كلام ساكت هو الفريق عبد الفتاح السيسي، وإعلام مبارك يزمّر ويطبل لمن يدفع له، ولمن يحمي مصالحه، وهو إعلام مستتبع في جملته، وإعلام رجال مبارك وابنه جمال أثروا من دماء الشعب، ومن ثروات البلد، نهبوا خيراتها، وجففوا ضرعها،وصادروا مستقبلها لصالحهم ولصالح الحاكم الظالم الذين يموّلون نظامه ليحمي مصالحهم، وليضفي على سرقاتهم المنظمة ونهبهم المنظم صفات القانونية. أقولها صراحة وبوضوح: إن خط مواجهة نظام السيسي بهذه العشوائية والهوائية يضفي على بطشه نوعا من الشرعية والتبرير، فليست هناك مواجهة لنظام استبدادي بالقطعة ولا بالحتة. لا بد من إعادة بناء استراتيجية مواجهة تقوم على بلورة رؤية مختلفة للنضال ضد نظام يريد أن يفصّل مصر بتاريخها وعظمتها على مقاس شخص واحد، نظام يقوم على الفصل العنصري: انتوا شعب واحنا شعب، وشعبهم يوزع عليه الهدايا ويلهيه بالحفلات الراقصة، والشعب الآخر يضربه من الطائرات والأسلحة المجرمة، ولا يتورع عن اعتقال نساءه وطلابه، فهو شعب مستباح. الكتلة الحرجة وهي الكتلة الفاعلة في تعديل ميزان القوى المختل لصالح نظام السيسي خارج ميزان عملية المواجهة. هذه الكتلة الحرجة لا تتحرك لاعتبارات أيديولوجية، ولا تساق لمصلحة فلان أوعلان وهي كتلة لا يمكن شراؤها بالمال، ولا يمكن تحريكها بدون أسباب قوية تتعلق بتهديد الوجود الوطني، أو مس عقيدتها مسّا جارحا يخلبأمنها الفكري، وبسلامها النفسي. وما دامت هذه الكتلة الحرجة خارج حسابات جبهة التغيير فلن يحدث تغيير في بر مصر. هذه الكتلة الحرجة نزلت مرتين في الثلاث سنوات الأخيرة: مرة في الفترة من 25 يناير ولمدة 18 يوم هي فترة سقوط مبارك. وخرجت مرة أخرى في 30 يونيه حتى 3 يوليو هي فترة سقوط أو بالأحرى إسقاط الرئيس مرسي. تلك حقيقة مجردة من ينكرها ينكرها، لكن لن يغير من طبيعتها شيئا، ولا من المعادلات التي ترتبت عليها شيئا. استراتيجية المواجهة هي الخطة العملية لمواجهة نظام السيسي على الأرض،وهي استراتيجية يحتاج بناءها العمل على عدة عناصر: الرؤية والأهداف والقيم العليا وشبكة التحالفات، وتحديد معالم خريطة الصراع: أطرافا وشبكة علاقات، والمراهنة على معادلة الداخل الوطني: قيما وأفكارا وتصورات ومصالح شعب، ولا يمكن أن يهمل دراسة البعد الخارجي (الإقليمي والدولية). استراتيجية المواجهة تحتاج عدة أمور: أولها: إعادة تقييم الفترة السابقة وذلك من سقوط مبارك وحتى تولي الدكتور مرسي، وما تفرزهما من اعتراف بأخطاء، واعتذار عما بدر فيها من تجاوزات، واعتذار عن وعود لم يتم الوفاء بها. ثانيها: إعادة التوازن إلى مكونات التحالف الوطني ومأسسة عملية اتخاذ القرار فيه، وتوسيع قاعدتهليشمل قطاعات أوسع من الرافضين لسير الأحداث في مصر من أول 3 يوليو. ثالثها: إعادة اكتساب ثقة الشارع المصري: والقاعدة الأساسية التي أؤمن بها هنا: طالما كان الصراع بين الإخوان أساسا (وبعض المتحالفين معهم والمناصرين لهم)، والفريق السيسي متذرعًا بمقدرات الدولة المصرية (جيشا وشرطة وإعلام وقضاء) فالنتيجة الحتمية المعروفة سلفا هي هزيمة ساحقة للإخوان، وربما كان هذا يفيد بعض قادة الإخوان ممن يتعيشون على كربلائية الحالة الإخوانية، أو يهربون للأمام خشية المحاكمات الداخلية وسيل أسئلة الشباب، وإلحاحهم على حساب المسئول عن القرارات التي أدت إلى الفشل، وتحويل جماعة من رأس الدولة، إلى وصمها بالإرهاب وقتل أفرادها في الشوارع والميادين. رابعها: الاهتمام بالإعلام: الإعلام له دور هام في استراتيجية المواجهة، فباستثناء قناة الجزيرة لا أحد يعبر عن وجهة نظر الرافضين لنظام السيسي،وهنا لابد أن نؤكد أن الجزيرة (القناة والدولة التي ورائها) ليست جمعية خيرية ولا تجمعا للمحسنين وفاعلي الخير يؤمنون بعدالة قضية الإخوان، بل دولة صغيرة تريد أن تلعب دورا إقليميا كبيرا يتجاوز حجمها (مساحة وسكانا وقوة عسكرية أو اقتصادية) تستخدم الإخوان أو توظفهم، أو في أحسن تقدير توافقت مصالحهم مع مصالح الإخوان، ولأنها (أي الجزيرة ومن يديرها من حكام الدوحة) في التحليل الأخير كيان مصلحي بحت تبالغ في تصوير الأحداث الجارية، وبمبالغتهاتلك خسرت أغلب الجمهور المصري الذي اعتبرها متحيزة للإخوان، وضد مصر (البلد). خامسها: تأسيس جبهة وطنية للتغيير، تجتمع على الحد الأدنى المجمع عليه وهو: دولة ديمقراطية تقوم على العدالة الاجتماعية والحريات العامة والكرامة الإنسانية، وهي أهداف ومطالب ثورة يناير التي لم يتحقق منها شيئا حتى الآن. سادسها: إعادة الاعتبار للتيار الثالث: هناك كثير من الشباب ممن وقفوا في منزلة بين المنزلتين لا يريدون أن يخرجوا في مظاهرات تجير لمصلحة جماعة الإخوان وترفع فيها صور الرئيس مرسي، وأيضا هم لا يرضون بظلم السيسي وإزهاقه للأرواح وعصفة بمقدرات البلد، هؤلاء لا بد من استيعابهم في استراتيجية المواجهة. إنما هذا الأمر يحتاج إلى قدر كبير من التنازلات من قبل الإخوان لا أحسب أن من يدير دفة الأمور الآن لديه الشجاعة على اتخاذها. آخر كلام اللحظة فارقة وإدارتها ومواجهتها لن تكون بالعشوائية وشغل الهواة والعمل بالواحدة أو بالقطعة وتغليب العاطفة ونشر الشائعات التي يسهل تبين اختلاقها، وإدارة الصراعات السياسية بالأحلام والرؤى والمنامات وسيطرة الغوغائية. اللحظة فارقة وإداراتها لن تكون إلا بالعلم والمعرفة:تخطيطا وتخصصا وشمولا واستيعابا لمتغيرات واقع شديد التعقيد، وتفاعلات شديدة التسارع.