«طلائع شباب مصر»: التعليم المزدوج بوابة الشباب المباشرة إلى سوق العمل    «المعلمين»: مشروع علاج لأعضاء النقابة بخصومات تصل 60%.. تفاصيل    انتخابات الشيوخ، محظورات خلال فترة الدعاية يجب على المرشحين تجنبها    مرتبات شهر يوليو 2025.. موعد وأماكن الصرف وجدول الحد الأدنى للأجور بعد الزيادة الجديدة    علاء الزهيري: 100 ألف جنيه أقصى تعويض من شركات التأمين لحوادث الطرق    سعر جرام الذهب عيار 21 اليوم السبت 19 يوليو 2025 بعد التراجع الأخير.. بكام الآن في الصاغة؟    حريق سنترال رمسيس.. تعويضات جديدة لمتضرري انقطاع الإنترنت    الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل: وقف إطلاق النار في السويداء يجب أن يصمد    سفير أمريكا لدى إسرائيل: الهجوم على كنيسة فلسطينية بالضفة عمل إرهابي    «نبقى على العهد».. بيان قوي من رابطة جماهير الأهلي في فلسطين بعد أزمة وسام أبو علي    هل سينتقل ألكسندر إيزاك إلى ليفربول؟ رد حاسم من مدرب نيوكاسل    سموحة يحصد ذهبية وفضية في بطولة أفريقيا ل ألعاب القوى 2025 بنيجيريا (صور)    إصابة شخصين بحادث سقوط عمود كهرباء أثناء مرورهما بشارع عرابي في دمنهور    طقس غداً الأحد حار رطب نهاراً مائل للحرارة ليلاً    انتشال سيارة ميكروباص سقطت في رشاح شبرا هارس بالقليوبية    عروض «زمن الفن الجميل» وفلكلور القناة في ثالث أيام «صيف بلدنا» بمدينة العلمين    الخميس.. موعد طرح ألبوم جنات الغنائي الجديد "ألوم على مين"    افتتاح وحدة الرنين المغناطيسي المطورة ب مستشفى سوهاج الجامعي    توزيع 600 كرتونة غذائية و7 أطنان من السلع الأساسية للأسر الأولى بالرعاية بكفرالشيخ    حالة الطقس في محافظة الفيوم غدا الأحد 20-7-2025    العلاقات «المصرية - السعودية».. شراكة استراتيجية وركيزة استقرار للشرق الأوسط    35% زيادة فى أسعار برامج رحلات العمرة لهذا العام    محمد رمضان يطرح أحدث أعماله الغنائية بعنوان «من ضهر راجل» (فيديو)    حسن سلامة: العلاقة بين مصر والسعودية أقوى من محاولات الفتنة والتاريخ يشهد    حصاد الأسبوع    احتجاجات غاضبة بالسويد ضد جرائم إسرائيل في غزة    أسامة نبيه يدفع بتشكيل جديد لمنتخب الشباب فى الودية الثانية أمام الكويت    فيلم مصري يقفز بايراداته إلى 137.6 مليون جنيه.. من أبطاله ؟    تنويه عاجل من «التنظيم والإدارة» بشأن مستندات المتقدمين لوظائف هيئة البريد    «أمن قنا» يكشف ملابسات العثور على «رضيع» في مقابر أبوتشت    جهاز المحاسبة الألماني يحذر من عجز محتمل في صندوق المناخ والتحول التابع للحكومة    التفاصيل المالية لصفقة انتقال راشفورد إلى برشلونة    غلق 47 منشأة طبية مخالفة بالبحيرة وإنذار 24 أخرى    فستان جريء ومكشوف.. 5 صور ل نادين نجيم من حفل زفاف ابن ايلي صعب    ليالي المسرح الحر تختتم الدورة ال20 وتعلن نتائج المسابقات    روسيا.. بين تغيير المواقف والسعى لصفقة تحت الطاولة    قوات العشائر تسيطر على بلدة شهبا بريف السويداء    براتب 900 يورو.. آخر فرصة للتقديم على فرص عمل في البوسنة ومقدونيا    يومًا من البحث والألم.. لغز اختفاء جثمان غريق الدقهلية يحيّر الجميع    هل يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها الفقير؟.. محمد علي يوضح    دعاء أواخر شهر محرم.. اغتنم الفرصة وردده الآن    بلغة الإشارة.. الجامع الأزهر يوضح أسباب الهجرة النبوية    ضبط 20 سائقًا يتعاطون المخدرات في حملة مفاجئة بأسوان (صور)    رئيس جامعة قناة السويس يوجه بسرعة الانتهاء من إعلان نتائج الامتحانات    دون إبداء أسباب.. روسيا تعلن إرجاء منتدى الجيش 2025 إلى موعد لاحق    وزير الصحة يوجه بتعزيز الخدمات الطبية بمستشفى جوستاف روسي    ليلى علوي نجم الدورة 41 لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط    داعية إسلامي يوضح أسرار الصلاة المشيشية    وزير الكهرباء والطاقة المتجددة يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لأعمال توفير التغذية الكهربائية لمشروعات الدلتا الجديدة    "بائعة طيور تستغيث والداخلية تستجيب".. ماذا حدث في المعادي؟    توقيع اتفاقيات تعاون بين 12 جامعة مصرية ولويفيل الأمريكية    خبر في الجول - جلسة بين جون إدوارد ومسؤولي زد لحسم انتقال محمد إسماعيل للزمالك    هل خصم فيفا 9 نقاط من الإسماعيلي؟.. النادي يرد ببيان رسمي    الصحة: إجراء 2 مليون و783 ألف عملية جراحية ضمن المبادرة الرئاسية لإنهاء قوائم الانتظار    أسعار اللحوم اليوم السبت 19-7-2025 بأسواق محافظة مطروح    خالد جلال: معالي يشبه الغندور وحفني.. وسيصنع الفارق مع الزمالك    سوريا وإسرائيل تتفقان على إنهاء الصراع برعاية أمريكية    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة والخداع الاستراتيجي
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 04 - 11 - 2013

في الحروب.. هناك خداع استراتيجي وفي الثوارات أيضًا، ولقد عرفت ثورة 25 يناير خداعًا استرايجيًا نصب شراكه لها وشارك فيه أطراف من الخارج والداخل.. وأخذ الثورة إلي إنحناء المسار وإلي ما ورائه.. إلي كل ما نراه الآن. كان الخداع مبكرًا واتصلت مقدماته بمقولة وخبر، وكانت المقولة لتوني بلير 'رئيس الوزراء البريطاني الأسبق' وكان الخبر علي قناة الجزيرة في شريطها الدوار في مساء 8/2/2011، قال توني بلير 'لن يكون بمقدورنا أن نعترض الثورة المصرية ولكننا نستطيع السيطرة علي حركتها'، وفي قاموس الأبجدية.. فإن السيطرة علي الحركة تعني خداعًا استراتيجيًا يدفع بمسار الحركة إلي التواءات الانحناء.. والبريطانيون هم أساتذته وباحترافية.
وفي مساء 8/2/2011 كان هناك خبر دوار علي قناة الجزيرة ومؤداه.. أن الدكتور عصام شرف يقود مظاهرة أمام مجلس الشعب، كان خبرًا في سياق أخبار تبثها القناة وربما لم يستوقف كثيرين ولكنه أستوقفني، وأتذكر أنني أتصلت ببعض الأصدقاء وطلبت منهم مطالعة الخبر، وأتذكر أنني قلت لهم تعليقًا عليه 'شراك الخداع.. تم نصبها'، فلم يكن الخبر صحيحًا.. فلم تكن هناك مظاهرة أمام مجلس الشعب، ولكن كانت هناك مسيرة لأعضاء هيئة التدريس وكان خط سيرها هو شارع قصر العيني حيث يقع مجلس الشعب، ولم يكن يقودها الدكتور عصام شرف ولكن أحد الذين يسيرون فيها.. لا أكثر ولا أقل، فلقد كان علي رأسها أستاذ جامعي آخر.
من المؤكد.. إنه لا مجال لحديث عن خطأ مهني وقعت فيه القناة.. فمثل هذه الأخطاء التي تحيل المسيرة إلي مظاهرة وتستبدل شخصا بآخر.. لا تقع فيها قناة محترفة مثل قناة الجزيرة، ومن المؤكد انه لا مجال لحديث عن خطأ الاشتباه، فالدكتور عصام شرف مع كل الاحترام لشخصه لا يذكر له أحد إسهامًا ثوريًا أو موقفًا معارضًا في الحياة السياسية قبل ثورة يناير فلقد كان وزيراً للنقل وتمت إقالته لأسباب فنية 'أيا كانت' وليس لأسباب سياسية، وظل عضوًا في الحزب الوطني وفي لجنة سياساته، وكانت له وقبل الثورة ندوات تتعلق بأهمية العلم والتعليم وعندما كان الحاضرون في هذه الندوات يتطرقون إلي الشأن السياسي.. كان سيادته يصمت تمامًا.
*****
كان الخبر هكذا بمثابة 'تصنيع ثوري معلب' للدكتور عصام شرف تمهيدًا لدور ما، وسوف يتضح فيما بعد أن هذا الدور هو رئاسة الحكومة باسم الثورة!!، وباليقين.. فلم يكن هناك ما هو أفضل لانحناء مسار الثورة من حكومة يرأسها عضو في الحزب الوطني وفي لجنة سياساته وتضم عناصر من النخبة المأزومة.
طريق الدكتور عصام إلي رئاسة الحكومة الثورية!!، كان في حاجة إلي 'شرك آخر' من شراك الخداع الاستراتيجي، واقتضي ذلك.. برنامجًا تليفزيونيًا يشارك فيه أحدهم في مواجهة رئيس مجلس الوزراء الأخير في نظام مبارك.. ويقوم بالهجوم عليه واستفزاره، ثم تتكفل أدوات إعلامية بترسيخ المشهد في أذهان الناس وتطويب صاحبه باعتباره 'ثائر الراية'، وعندئذ.. لن يكون هناك من هو أفصل من 'ثائر الراية' للتبشير بعضو لجنة السياسات كرمز ثوري علي رأس حكومة ثورية!!، وهو ما حدث تمامًا.
وبداهة.. فإن ثائر الراية وعناصر النخبة المأزومة ورموز جماعة الإخوان الذين تحلقوا حول الدكتور عصام شرف في مشهد ميدان التحرير.. كانوا يعلمون أن سيادته لا علاقة له بالثورة ولم يقدد مظاهرة أمام مجلس الشعب.. ولكنهم قالوا للناس شيئًا آخر، وكان المشهد وسوف يبقي هو الصورة التذكارية علي غلاف 'ألبوم الخداع الاستراتيجي' وسوف تتصفح الأجيال القادمة وجوه كل من كانوا في الصورة.
فيما بعد.. كانت حكومة الدكتور عصام شرف تحظي بلقب 'الحكومة الأسوأ'.. تقديرًا لجهودها في تفكيك مفاصل ما تبقي من الدولة المصرية، وتقديرًا لمثابرتها في دفع حركة الثورة في اتجاه 'إنحناء المسار'، ومن المؤكد.. فإن السيد توني بلير كان سعيدًا بمقولته.. فهي تسير علي ما ما يرام في 'استقامة المسار'، بقدر ما كنت حزينًا علي صدق مقولتي في مقال بجريدة العربي بتاريخ 20/2/2011 وتحت عنوان 'الثورة ومحاورات العقل السياسي'، فلقد كتبت قائلاً: 'إن الثورة برهنت علي حدة أزمة النخبة والتي طالما كتبت عنها وحذرت منها.. وأظنني كنت محقًا، فقد خرج الشعب إلي الشارع وترك النخبة وراءه في محلها المختار بأستديوهات القنوات الفضائية'.. فلقد باتت أزمتهم أحد ايصالات الائتمان في عملية الخداع الاستراتيجي.
*****
علي الرغم من الأداء الأسوأ لحكومة الدكتور عصام شرف وأعضائها من عناصر النخبة المأزومة، فلقد كانت الفرصة سانحة لاستعادة المسار إلي قضبانه، ولكن استعادة المسار كانت تلاحقها نصائح عكسية جاءت من وراء الحدود، نصائح اغتالت العملية السياسية مبكرًا لتحتد أكثر فأكثر زاوية الانحناء.
كانت الثورة علي طريق نحو بدء العملية السياسية من خلال الانتخابات البرلمانية، وبمعطيات اللحظة.. كان مضمون العملية السياسية يفصح عن ثلاثة مدركات ويربط مصيره بها، مدركات ترسل إشاراتها إلي أنه أولاً لا إقصاء لأحد وبالتالي فإن الأحزاب والجماعات ذات المرجعية الدينية عليها الاستعداد للقبول بالمعادلة السياسية الديمقراطية، وإلي أن ثانيًا هذه المعادلة تتطلب وبإلحاح بناء الثقة بين كل الأطراف وفرصة الوقت لتشييد جسورها، ومن ثم ثالثًا لابد أن يأتي قانون الانتخابات ضابطًا للسرعات.
في ضوء هذه المدركات.. كان اقتراحي بإجراء الانتخابات وفقًا لقوائم نسبية غير مشروطة تضم قوي سياسية متعددة وبنسب لا تسمح لأي منها بالحصول علي أغلبية أو أكثرية فارقة، وكان الاقتراح في تقديري يضبط السرعات ويبني جسرًا لثقة نعبر به وبها إلي دستور توافقي، ولكن الاقتراح جاء في توقيت انعقاد لجنة الوفاق القومي، وفي توقيت التقي فيه بعض أعضاء اللجنة بخبراء أجانب.. نقلوا إليهم التجربة الألمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولي حيث جرت الانتخابات وفقًا لنظام مختلط 'الثلث للقائمة والثلثان للفردي'.
باستدعاء الذاكرة.. فإن الذين صمموا هذا النظام وطبقوه في ألمانيا كانوا خبراء بريطانيين، وقاد هذا النظام وبعد تطبيقه إلي حالة من عدم الاستقرار وغياب الثقة في ألمانيا، ففي أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الولي.. لم يكن لديها أحزاب سياسية قوية ومتجذرة وتقدر بالتالي علي بناء توازنات لنظام انتخاب مختلط.. في لحظة تلح علي التوازنات وعلي الثقة 'تمامًا مثل مصر في أعقاب الثورة'، ورغم ذلك.. رحب البعض في لجنة الوفاق بهذا النظام وضغطوا من أجله ليصدر القانون بالجمع بين القائمة والفردي ولكن بعد تعديل النسب الثلثان للقائمة والثلث للفردي، وهو القانون الذي فتح الباب أمام السرعات القصوي للأحزاب ذات المرجعية الدينية للحصول علي أغلبية أو أكثرية فارقة وقاد بالضرورة إلي فرز ديني مدني وإلي اصطفاف المواجهة بين معسكرين، وببساطة.. قاد إلي اغتيال العملية السياسية وهو ما حذرت منه في مقالي بجريدة روزاليوسف في 17/7/2011، وتحت عنوان 'قانون الانتخابات والعملية السياسية من يغادر؟'، ووصفته بأنه قانون يصادر العملية السياسية ويرسل بدعوة مفتوحة لتعميق الانقسام الديني المدني وتخندق معسكراته، وهو ما جري.. وتحت قبة مجلس الشعب كانت العملية السياسية قد تم اغتيالها وبات الطريق مفتوحًا أمام الأرض المحروقة.
ومؤخرًا.. عاد بعض أعضاء لجنة الوفاق القومي إلي الحديث عن أعمال اللجنة والتي كان من بينهاوعلي حد قولهم اعداد دستور جديد، ولأن أحدًا لم ير هذا الدستور.. فلقد بات من واجبهم أن يطلعوا الشعب عليه وكان من واجبهم أن يطلعوه في حينه، فلماذا لم يطلعوه ويلفت، ويانت نظريوفي السياق انهم لم يتحدثوا عن وفد الخبراء الأجانب ودوره في توجيه قانون الانتخابات إلي النظام المختلط.. رغم كل التحذيرات الدستورية والسياسية التي طالته وانتقدته وانتهت به في نهاية المطاف إلي الحكم بعدم دستوريته، فلماذا الصمت؟
*****
في كل الأحوال.. كان الانقسام الديني المدني قد سري مفعوله في اعقاب الانتخابات البرلمانية، وبات الطريق مفتوحًا أمام الأرض المحروقة ومن بعدها الفوضي وهذا ما أراده أساتذة الخداع الاستراتيجي في لندن ونشطوا في اتجاهه ووجدوا في الانتخابات الرئاسية الفرصة لتكاثر مفعول الانقسام الديني المدني وصولاً إلي الأرض المحروقة، وهو ما دعاني إلي أن أكتب مقالاً في جربدة روزاليوسف بتاريخ 29/5/2012 تحت عنوان 'نافذة' وأنهيته قائلاً: 'الأفق يفصح عن الكثير في أيام قادمة.. فالمائدة تمتد أمامي برقعة شطرنج سياسي واستراتيجي تتحرك فوق مربعاتها قطع بسواتر تمويه وبشراك خداع وألمح علي الطرف الآخر من المائدة.. أحدهم من خارج الحدود'.
وبمكاشفة صريحة.. كانت لندن حاضرة في الانتخابات الرئاسية وقامت بدعم أحد المرشحين في الشهر الأخير قبل الجولة الأولي وإدارة حملته والتي عرفت طوابير التاكسيات وشبكة جرسونات في المقاهي وأدوات تكتيكية أخري طالما اختبرتها لندن في إدارة حملات مماثلة في دول عديدة، ولم تقم لندن بدعم هذا المرشح لكي يفوز في الانتخابات أو يحظي بفرصة الإعادة.. فلو أرادت ذلك لمنحته دعمها في وقت مبكر ولكنها قامت بدعمه لكي يخلخل مواقع مرشحي الوسط الديني والمدني' وبالتالي تذهب أصوات المعسكر الديني إلي مرشح النقطة الطرفية 'د.مرسي' وتذهب أصوات المعسكر الأخير إلي مرشح النقطة الطرفية 'الفريق شفيق' وتجري جولة الإعادة بينهما.. لتحترق الأرض أيًا ما كانت نتيجة جولة الإعادة.
وذلك كله.. لم يك من قبيل المصادفة إنني وفي إحدي القنوات الفضائية وعلي الهواء مباشرة وبينما كانت لجان الفرز تبدأ في فتح صناديق الاقتراع في نهاية اليوم الثاني للجولة الأولي في الانتخابات الرئاسية.. سألني السيد مقدم البرنامج: ما هي توقعاتك بشأن نتائج التصويت، فكانت إجابتي: هناك إعادة بين الفريق شفيق والدكتور مرسي، ولم أكن وأنا أؤكد علي الإجابة أقرأ في كف الطالع أو استطلع بللورته البيضاوية، إذ كان يكفي.. رصد الحضور البريطاني ومؤشر حراك بوصلته الاحترافية في الخداع الاستراتيجي.
*****
جاء مرسي رئيسًا فوق أرض 'محروقة' ومهيأة لتقلصات مخاض الفوضي وانقسام الشعب إلي حد الاقتتال، ولأن الدكتور مرسي جاء ومن الباب الأمامي إلي القصر الجمهوري وسبقه إليه ومن الباب الخلفي المهندس خيري الشاطر، فلقد قلت وفي حواري بجريدة الوفد '9/7/2012'.. إن شرارة الحريق مازالت مشتعلة، فالدكتور مرسي لم يكن يعني أحدًا.. ولكن المهندس خيري الشاطر كان هو الرجل الأكثر أهمية لدي لندن والأرجح إنها هي التي قدمته إلي واشنطون وأئتمنته لديها، فلقد كان رجل المهمة الأخيرة في عملية الخداع الاستراتيجي والمكلف بإنهاء ما بدأته حكومة الدكتور عصام شرف وأعضاؤها من النخبة المأزومة.. تقويض الدولة.
لم يكن الشاطر هو الرجل الأكثر أهمية لسطوة مالية يقبض عليها بأصابعه.. فحسب، ولكن الأهمية تمتد إلي ما هو أبعد من مجرد سطوة مالية ولم يكن خافيًا علي لندن، ففي مرحلة دراسته الجامعية في سبعينيات القرن الماضي.. كان الشاطر شيوعيًا تروتسكيًا 'ولا أعلن هنا علي خياراته الايديولوجية المبكرة.. فهذا حقه وشأنه' ولكن ما يعنيني هو تكوينه التروتسكي 'نسبة إلي تروتسكي الذي كان أحد قادة الثورة الشيوعية في روسيا واختلف بعد ذلك مع ستالين وغادر روسيا'، فالتروتسكية تظل بمثابة نزعة سلوكية وخيار تكتيكي لدي صاحبها ولا تفارقه مهما تبدلت انتماءاته الايديولوجية، وبتعبير آخر إذا
كان أحدهم 'شيوعي تروتسكي' ثم صار إسلاميًا.. فهو يتحول إلي 'إسلامي تروتسكي' وهذا هو أدق تعريف لخيرت الشاطر.
التروتسكيون يؤمنون بالحركة الدائمة والمتصلة وبمعدلات السرعة القصوي ولا يعرفون لأنفسهم- ولا يريدون أنفسهم- نقطة للتوقف، والتروتسكيون يبدون اهتمامًا بالقوات المسلحة في بلادهم ويرغبون وفي مسار الحركة الدائمة والمتصلة- في اختراقها، فالفكرة الأصيلة لديهم هي إعادة هيكلة القوات المسلحة علي مثال كيان عقيدي بمهام ' أجندة الأيديولوجية' بدلًا من كيان احترافي بمهام ' أجندة الأمن القومي' وهي فكرة موروثة من التوجهات المبكرة لتروتسكي ذاته فلقد كان شديد الاهتمام بالقوات المسلحة وكان وقعه علي رأسها في أعقاب انتصار الثورة الشيوعية في روسيا.
كانت لندن واعية بذلك كله، ولذا.. منحت الشاطر أهمية خاصة، فهو الرجل القادر علي خلق إنسيابية لفوضي بدون نقطة للتوقف، وهو الرجل الفاعل في تسريع حراك التصادم مع القوات المسلحة 'الجيش الأكثر تماسكًا في المنطقة' وعلاوة علي ذلك.. فهو - مثل كل التروتسكيين- رجل تكتيكي وليس رجلا استراتيجيا، وبمعني آخر.. رجل قد يكسب معارك ولكنه لا يربح حربًا، ومن ثم فهو في نهاية المطاف سوف يحقق للندن وواشنطن أهدافهما ولن يمسك بأهدافه، وكان يتراءي لي دائمًا.. أن العلاقة التي تربطه بلندن وواشنطن أشبه بالعلاقة بين المقاهي والكازينو، فالكازينو لا يغلق أبوابه وهو مفلس ولكن المقاهي قد يغادره مفلسًا.
كان للشاطر ميزة أخري رجحت كفته لدي لندن ولم تتوافر لغيره من قيادات جماعة الإخوان، وهي علاقته الوثيقة والممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي بعناصر النخبة المأزومة، فهو لم يقطع الصلة وهم لم يقطعوها، وكانت هذه الصلة هي الباب الدوار لكل الصفقات السياسية الصغيرة التي عقدوها مع جماعة الإخوان فكل هذه الصفقات تمت علي مائدة الشاطر.. حاضرًا أو غائبًا، ومن المعروف أن هذه الصفقات تساعد كثيرًا علي تأمين عملية الخداع الاستراتيجي ولمنحها ساترًا، ولقد أدهشني - وبين قوسين- أن يصف أحدهم مؤخرًا الصفقة التي عقدها حزبه مع جماعة الإخوان وجاءت به وبغيره علي رأس قوائم الإخوان في الانتخابات البرلمانية السابقة وحازوا ما بموجبها مقاعد برلمانية.. بأنها كانت نبيلة المقصد، فلم أعرف قبلًا أن الصفقات السياسية الصغيرة توصف ب'نبل المقصد' فعلي حد علمي.. إلها وصفًا آخر يخجل منه صاحبها.
كان الشاطر والنخبة المأزومة هما أهم طرفين داخليين في عملية الخداع الاستراتيجي، ولذلك تسارعت اجتماعاتهما المشتركة قبل الأسابيع الأخيرة التي سبقت الحدث الكبير في '30 يونيو' فكلاهما كان قلقًا كان الشاطر 'وتنظيمه الخاص' مكلفا من حدث يملي عليه نقطة للتوقف، وكانت النخبة المأزومة قلقة من حدث يعريها تمامًا ويحرمها أنبوبة الأكسجين الإعلامي الذي تتنفس به ويطوح بها خارج المشهد، وكان القلق يتجول في أروقة لندن وواشنطن.. فهناك حدث قادم قد تتساقط به سواتر الخداع الاستراتيجي قبل أن تكتمل دورة انحناء المسار، ولأن القلق الجوال يثير ارتباكًا لدي أصحابه تتقاطع فيه التقديرات والخيارات التي تحملها الرسائل، فأغلب الظن عندي.. إنه جاءت من لندن وواشنطن- وقبل 30 يونيو- رسالتان إلي الشاطر والنخبة المأزومة، إحداهما كانت تنصح بالتهدئة والأخري تتعجل المواجهة مع المؤسسة العسكرية بشكل استباقي، وعلي ما يبدو.. فلقد تم اعتماد الرسالة الثانية وتجاهل الرسالة الأولي.
وفي '30 يونيو' كانت هناك رسالة ثالثة وأرسلها - هذه المرة- الشعب المصري إلي كل أطراف الخداع الاستراتيجي.. في الداخل والخارج، كانت رسالة كاشفة ولم تستبق لهم إلاً خيارا واحد وهو 'اللعب علي المكشوف' وكل ما رأيناه بعد 30 يونيو وما نراه حتي الآن.. هو 'لعب علي المكشوف' ولذلك فإن علينا أن نتوقع.. أن هذه الأطراف سوف تدفع سريعًا في اتجاه الحيلولة دون ثبات نقطة ارتكاز واحدة في الداخل المصري وسوف تجري محاولات متلاحقة لخلخلة خارطة الطريق وإحداها الدعوة إلي انتخابات رئاسية.. أولا، ولسوف يكون التصويت علي الدستور المعدل هو 'معركة التل' للإجهاز علي خارطة الطريق، وسوف تقوم عناصر من النخبة المأزومة - وبأسم الثورة- !! بإثارة إشكاليات تتعدد بها مواقع الاشتباك الفئوي والطائفي والاجتماعي.. إلخ، وبعض هذه العناصر كان وراء التفجير الذي دوي - وما زال- داخل لجنة الخمسين حول باب السلطة القضائية، فما انتهي إليه دستور 2012 في هذا الباب كان هو الأفضل لتسوية متوازنة بين الجهات والهيئات القضائية وكانت الحكمة تقتضي الحفاظ عليه مع ترميم بعض ثغراته مثل النص علي إدراج موازنة السلطة القضائية رقمًا واحدًا في الموازنة العامة، والنص علي سن المعاش للقاضي، وتعديل المادة '176' والخاصة بكيفية تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا، ولكن 'أحدهم ' نبش عن جذور تمتد إلي سنوات طويلة مضت وتسبق تأسيس مجلس الدولة-ليتفجر اللغم وتتطاير شظاياه ارتطاما بنقطة ارتكاز تمثلها السلطة القضائية.. وسعيًا إلي خلخلتها وإذا نجح كل ذلك ف 'اللعب علي المكشوف' قد سجل هدفه وهو تشكيل 'كتلة فوضوية حرجة' في الداخل المصري وهذه الكتلة سوف تكون العدو من الداخل.
وأخيرًا.. فقد طرح البعض- وعن حق- ثلاثة أسئلة: لماذا جري التربص- ومازال- بمصر إلي هذا الحد؟ وهل ما حملته سطور مقالي هو رؤية بأثر رجعي؟ وما العمل؟
والإجابة عن السؤال الأول تستدعي إنعاش الذاكرة وإستدعاءها.. ففيما قبل ثورة 25 يناير كانت مصر قد بلغت حدًا من الضعف الحرج وبدت وكأنها أشبه بمريض في غرفة الإنعاش، ولأن المريض لا يقضي عمره كله في غرفة الإنعاش.. فإما أن يغادرها واقفًا أو يغادرها محمولًا فلقد بات أمام مصر أحد احتمالين يشير إليهما الضعف الحرج الذي توسدته، الأول هو إعادة بناء مصر كقوة إقليمية كبري والثاني هو تموضع مصر كدولة هشة تحت الوصاية الدولية- الإقليمية.
في هذا التوقيت.. توقيت الإنعطاف إلي أحد الاحتمالين، كانت هناك مسودة لترتيبات جديدة في الشرق الأوسط، وكانت الترتيبات تمنح اعترافًا بحقوق وإستحقاقات ثلاث قوي إقليمية كبري 'تركيا وإسرائيل وإيران' وعندما نتأمل الخريطة.. فلقد كانت هذه القوي تقع علي قوس مداري يحيط بقلب يمتد من سوريا وحتي اليمن وبدت ووفقا للمسودة دول هذا القلب عاجزة عن حل مشكلاتها.. فلقد ضمت طوائف وقبائل متنافرة عرقيًا ودينيًا ومذهبيًا، وهذا التنافر ووقفا للمسودة صار قابلًا للاشتعال في ظل ثلاثي القوة الإقليمية.. فهو ثلاثي يعبر عن نفسه دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا 'تركيا السنية والطورانية، وإيران الشيعية والآرية، وإسرائيل اليهودية والعبرية' وبالتالي.. فإن السلام الإقليمي في المنطقة والذي يؤمن المصالح الأمريكية والأوروبية بأقل التكلفة، يقتضي- ووفقًا للمسودة- إعادة تفكيك وتركيب دول القلب علي أساس ديني / مذهبي/ طائفي.
كانت الترتيبات -هكذا- لا تقبل بوجود مصر كقوة إقليمية كبري، فمصر القوة الإقليمية الكبري لن تسلم مطلقًا بتفكيك دول القلب وفي صدارتها.. سوريا والسعودية فهما معًا.. بمثابة ضلعي ارتكاز لقاعدة زاوية القوة المصرية الإقليمية، ومن ثم.. أسقطت مسودة الترتيبات الاحتمال الأول وألقت بثقلها وراء الاحتمال الثاني وهو- مرة أخري- تموضع مصر كدولة هشة تحت الوصاية الدولية- الإقليمية، وعندما قامت الثورة كان في صحبتها أضواء كثيرة، ومن بينها ضوء أحمر عرفته غرف عمليات إقليمية ودولية تخوفًا من طموح قد يستعيده الشعب المصري وبإلهام انتصار ثورته.. طموح يأخذه إلي خيار بناء مصر كقوة إقليمية كبري، وفي استباق الفترة.. كأن الخداع الاستراتيجي يفترش الأرض تربصًا بمصر وبمسار ثورتها، وكأن التربص- هكذا بمثابة حرب استباقية للدفاع عن مسودة الترتيبات الإقليمية الجديدة، لقد كانت - بالفعل- حربًا استباقية بوكلاء معتمدين في الداخل.
ولعلي أضيف.. إنه من المؤسف- حقًا- إنه بينما كان أردوغان يدافع عن استحقاقات القوة لتركيا، كان الشاطر يقايض بمصر في مقابل 'الترماي' بينما كانت النخبة المأزومة تلهث لكي تحجز مقاعد لها في عربة 'التروماي' ولولا '30 يونيو' لكان 'التروماي' هو هدية الشاطر وصحبه والنخبة المأزومة للشعب المصري ولأقاموا له نصبًا تذكاريًا في ميدان التحرير وأخذوا معه صورة تذكارية.. يضيفونها إلي الصورة التذكارية التي أخذوها مع الدكتور/ عصام شرف في الميدان.
واتصالًا.. يأتي السؤال الثاني وهو - مجددًا- يقول: هل ما حملته سطور مقالي هو رؤية بأثر رجعي، وأستأذن - وفي متصل الإجابة- في استدعاء فقرات من تصريحات ومقالات منشورة لي قبل الثورة وبعدها فما حملته سطور مقالي لم يكن رؤية بأثر رجعي.. فلقد سبقه استقراء للأحداث وتداعياتها، ففي 27/1/2013 كان لي تصريح منشور في جريدة المسائية قلت فيه نصًا إذا ما استمرت الأوضاع بما هو عليه الآن.. سوف تكون مصر دولة خارج التاريخ مع نهاية عام 2013.. فهو عام الحسم في مستقبل التاريخ المصري ودعوت فيه إلي خارطة طريق جديدة.
وقبل الثورة وفي مقال منشور بجريدة العربي بتاريخ 1/8/2010 وبعنوان 'قصة القصة' قلت أن الملف المصري في تقديري- وعلي عكس تقدير آخرين - هو مسئولية لندن وليس مسئولية واشنطن. وأردفت قائلًا.. أن هناك ترتيبات تتراءي لي وتدفع في إتجاه فوضي وإنهيار في الداخل المصري وحددت توقيته- وبنص كلمات المقال- بتوقيت الوصول إلي ' وضع لاتملك فيه أي مؤسسة في الداخل المصري القدرة علي اتخاذ قرار وتنفيذه ولا تملك فيه أي قوة في الداخل المصري القدرة علي القيام بفعل اعتراضي.. إنه توقيت اللا قرار واللا فعل، وذهبت في استقرائي إلي التنبؤ بأن الترتيبات سوف تسعي وبنص كلمات المقال إلي 'تشكيل مجلس رئاسي لمصر، ولن يكون مجلسًا لإدارة دولة، ولكن مجلسًا لإدارة 'وضع' '...' وسوف يكون علي هذا المجلس أن يوثق التعهد النهائي والأخير بإسقاط أي حقوق أو استحقاقات لمصر كقوة إقليمية كبري '.. ' وسوف يحصل في المقابل علي تطمينات بإمدادات الإسعاف- دوليًا وإقليميًا- ولنصنع المفاجأة.
ولعل الأيام كانت شاهدًا علي صدق الاستقراء، ولحسن الحظ.. فإن المفاجأة لم تنتظر طويلًا.. فلقد صنعها الشعب في 25 يناير 2011، ولكن لسوء الحظ.. فلم تكن المفاجأة كاملة.. فلم تلتق الثورة في إطلالة ميلادها بالرجال الكبار والعقول الكبيرة.
وليستوقفنا السؤال الثالث والقائل: ما العمل؟ وأظنني محقًا إذا قلت وفي افتتاحية الإجابة إنه لا وجود لعمل في ظل وجود هذه النخبة المأزومة.. فالعمل يبدأ برحيلها والذي حان- وقولًا واحدًا- وقته، وقد يتساءل البعض: من الفراغ حال رحيلها؟ وإجابتي.. لا تشغلوا أنفسكم بهذا السؤال، للنزول إلي الشارع للمرة الثالثة.. لإزاحتها.
وبعد.. هناك دائمًا نجمة قطبية في السماء ترشد الملاح التائه، ورغم الخداع الاستراتيجي ورغم أطرافه ورغم انحناء المسار، فإن الشعب ظل دائمًا هو النجمة القطبية.. وطالما بقي شعبًا ولم يتمزق إلي طوائف كما يريد البعض ويرتب، فإن النجمة القطبية سوف ترشد الملاح التائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.