يتوجَّه البحرينيُّون اليوم للتصويت للبرلمان الجديد في توقيت حسَّاس عاصف إثر الأحداث التي تعصفُ بها المنطقة وصعود الصوت الطائفي بصورة لم يسبقْ لها مثيل، وفي المهرجان الانتخابي للمرشح الوفاقي عبد الحسين المتغوي قال الشيخ علي سلمان -الأمين العام لجمعيَّة الوفاق- وهي جمعيَّة سياسيَّة محتكرة لأنباء الطائفة الشيعيَّة، ولها الكتلة الأكبر في الانتخابات البحرينيَّة وفقًا للصحافة الإلكترونيَّة المؤيِّدة للوفاق، قال الشيخ علي سلمان: "إننا نقتدي بقائدٍ واحد ويجب أن يكون القائد واحدًا، وهو آية الله الشيخ عيسى قاسم". وأشار (علي سلمان) إلى أن خطاب سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم هو خطاب التكليف، وقبل البدء في طرح القضيَّة الرئيسيَّة لهذا المقال لا بد من الإشارة إلى أن التكليف المقصود له معنيان ظاهر وضمني، والضمني هو التكييف لتكليف فتوى الشيخ قاسم للإلزام بالتصويت للوفاق تحت المسئوليَّة الدينيَّة الغيبيَّة، وأما الظاهر فهو أن الشيخ عيسى قاسم قد انحاز إلى خيار المشاركة وليس المقاطعة الذي دعا له تيار حسن مشيمع (حسن مشيمع زعيم حركة حق الذي يعارض الدستور ويقود الاحتجاجات ويطالب منذ 2005 بالوصاية الدوليَّة على البحرين؛ لإعادة الاستفتاء الذي أجراه الإنجليز في البحرين عام 1951 لإلحاقها بإيران أو انتمائها العربي), وهذه مسألة إيجابيَّة من حيث الإيمان بالشراكة الوطنيَّة، وقد يقول قائل: ولماذا تقول ذلك كنقطة إيجابيَّة للشيخ عيسى قاسم والوفاق، وهي خاضعة لتقديرهم بأن المبادرة للمشاركة هو قياس مصلحي بالنسبة لهم؟ وأقول: نعم فليكن ذلك في قياسهم، وهو دليل على أن تيَّار العنف كان ضاغطًا ومرهبًا لخيار المشاركة السياسيَّة، وقد بدا واضحًا خلال الفترة الماضية طمأنينة الأحياء السكنيَّة التي هيمنَ عليها تيَّار العنف وتداولَها البعد الاجتماعي والقرار السياسي في أجواء أهدأ، وهو ما سيتعزَّز حين تثبيت الحالة الأمنيَّة وإطلاق ذوي التورُّط المحدود وبدء السياق القضائي. وكل ذلك السياق يؤشّر بكل وضوح بأن مجاملة جمعيَّة الوفاق لتيَّار العنف الانفصالي كان مضادًّا للحكمة ومعارضًا لمصلحة أبناء الطائفة وأن تحرير المنطقة الملتهبة والمرتَهنة للعنف كان إيجابيًّا بصورة كبيرة ستتزايد في المرحلة القادمة إذا ما تفهّمت كل الأضلاع الوطنيَّة أهميَّة رعاية السلم واستبعاد ثقافة العنف التحريضي والمفاصلة الطائفيَّة وفسْح الأجواء نحو تكثيف المسار الإصلاحي في العمليَّة السياسيَّة في الجانب التنموي والحقوقي. أما المسألة الثانية فهي التساؤل المشروع من قِبل الوفاق الذي قد يعترض علينا، وهو لماذا لا يكون التحزّب في الحالة السنيَّة مقابلًا للتكليف المذهبي، والجواب على هذا السؤال يأتي في مسارين؛ الأول هو نقدُنا للحزبيَّة السنيَّة السلبيَّة وتأكيدنا الدائم في مقالاتنا على أن الكفاءة الوطنيَّة والنزاهة لا يجوز أن تُشترط أو تقرنَ بالضرورة في مرشحي الجمعيَّات الدينيَّة، وتحدثنا مرارًا عن ضرورة وجود قوى الاستقلال الوطني النزيه المنتمي للهويَّة في أي عمليَّة انتخابيَّة وتشكيلة برلمانيَّة وأما المسار الثاني فهو الفارق الكبير بين الاستقطاب في الجمعيَّات الدينيَّة السُنيَّة التي تُدرك جيدًا بأنه لا نصّ معصوم لديها تقذفه في وجه خصومها إنما استدعاء وعظي ولدى الناخب السني بناءً على حرية التشكل الفقهي لرؤيته وتعدُّد المصادر مساحة كبيرة في رفض هذا الاستدعاء وهو ما لا يتكرَّر في الإلزام بالتصويت بناءًا على التكليف الشرعي الغيبي. حريَّة الناخب أم نقض عقله ووطنيتِه، إنّ أشدّ ما يؤلِم ويؤثّر سلبًا في الصعيدين الإنساني الفردي للناخب المحاصَر أو على صعيد العلاقات الوطنيَّة هي أنّ التكليف المذهبي يقوم في حقيقتِه على أنّ المواطنة الإنسانيَّة مسلوبة منه في خيارين هما ذاته وانتماؤه الوطني, فالتكليف يعتبر الناخب المحاصر عاجزًا ذاتيًّا عن تقدير خيارِه الانتخابي أو قاصرًا إنسانيًّا بالكليَّة عن ذلك، وبالتالي فهو لا يجب أن يصوّت بناءًا على رؤيته العقليَّة الناضجة لتحديد أين يقف ممثلُه البرلماني لتحقيق طموحِه الإنساني والوطني، وإنما هو ملزَم بمعايير غيبيَّة واستدعاء طائفي يُحوّل التداول الطبيعي لورقة الناخب إلى تذكرة دينيَّة حولته إلى ساعي بريد مسلوب الإرادة قد حُدد له سلفًا أين يجب أن يضعَ خيارَه، وهذا اعتداءٌ كبير على كرامة الفرد وإنسانيتِه، فضلًا عن احترام عقله وإرادته وشراكتِه الوطنيَّة. وغير صحيح أن يُقدّم الفقه الشيعي على أنه كتلة مصمتة لا تحمل إلا هذا القول، خاصة حين يُرعَب الناخب ويُهدد بأن عليه التسليم الأعمى، والحقيقة بأنّ هذا الادعاء يَسقط من أصله موضوعيًّا؛ فالخلافات بين المراجع في العراق وإيران قائمة في دعم متعدِّد لهذا المرشح أو تلك الكتلة، فكيف يُحدّد من هو العاصي للتوجيه الغيبي ومن هو القادر على ذلك؟؟ فهي في حقيقتها عزلٌ لإنسانيَّة الفرْد وسلْب لحقِّه العقلي المطلَق الذي نصّ عليه القرآن العزيز في أسمى معاني الحرية عند اختيار مصير الحياة، فكيف بسياق حزبي وبرلماني لهذا الوطن أو ذاك؟! ولذلك فإن حركة الإصلاح الديني الشيعي عانتْ من هذه الادعاءات المعبأة عمدًا بخطاب عاطفي متشنِّج يرفض المناقشة العقليَّة والموضوعيَّة له. وأمّا الجانب الثاني فهو ما يترتب على هذا الحشد التكليفي، خاصةً من الجهة المستفيدة من غرْس معاني الانفصال المجتمعي عن التوحّد وتعزيز القطيعة بدل التعاون وتثبيت معاني المواجهة على أُسُس تمييزيَّة ومحاصَصَة خطيرة تجعل الناخب في حالة تحشّد مع أخيه الناخب الآخر منذ البداية على أساسٍ طائفي، وبالتالي تتحوَّل قوى التفكير والضمير الجمعي بسبب هذا التكليف وآليَّة تحشيدِه إلى نزعة خطيرة مؤسَّسة بخطاب ديني في المجتمع. وهنا نفهم قضيَّة مهمَّة وهي لماذا لا يُجدي خطاب العلاقات العامَّة والدعوة للوحدة الوطنيَّة فيما بعد..؟ السبب واضح... وهو أنّ هذا الخطاب إنما يأتي لتغطية هذا الانفصال الطائفي المؤسَّس أو للقيام بمهام هامشيَّة يسعى بها الطرف الطائفي للتخفيف من حدَّة مشروعِه الانفصالي للمجتمع، وبالتالي لم يعدْ هناك أي جدوى من ذلك البرنامج المُجامل المناقض لأساسيَّات خطيرة نُفِّذت منذ بدْء المشروع الميثاقي (الميثاق كان القاعدة الأساسيَّة للدستور البحريني وصوّت عليه بغالبية 98%) وكانت متسلسلةً في سياقها التاريخي منذ الأحداث القديمة, وبمعنى أنّ هذا التكليف والتحشيد الطائفي أُسِّس ابتداءً لعلاقات متوتِّرة مع الشريك الوطني حين اعتبر التصويت لكل من يتقاطع مع الطرف السني، فضلًا عن شخوصِه هو في دائرة المعصية للتكليف الغيبي, وهنا نحن نتحدَّث عن المجتمع بغضّ النظر عن الموقف من المؤسَّسة الرسميَّة ومسئوليتها في تعطُّل الإصلاح, هذا الخَلَل هو إحدى القراءات المهمَّة التي كانت من وسائل الانفصام المجمتعي الذي استُدعي للبحرين من الخارج وخلق تلك الأجواء التي عبَّأَت البحرين ببركان من الطائفيَّة السياسيَّة, وهو ما يخنق الحريَّة الفرديَّة في إطار خيار الإصلاح الوطني ويحول الانتخابات إلى صراع انقسامي خطير، عوضًا عن أن يكون ميدانًا للتنافس الشريف لمصلحة المواطن تنمويًّا وحقوقيًّا. المصدر: الاسلام اليوم