الفقر مُعَاناة وكَرْب ! وأي مُعَاناة وبلاء في أمْرٍ يُشْغل القلب ويُنْسِي الرَّب ؟ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه بل قَرَنَهُ هو والدَّين بالكُفر ، فقال :" اللهمَّ إني أعوذُ بك من الكفر والدَّين والفّقْر" رواه النسائي والحاكم وقال : " صحيح الإسناد " . وفي المُقابل فقد جَعل النبي صلى الله عليه وسلم سَدُّ حاجة المحتاجين وفك كّرْب المكروبين من أعظم الأعمال ، فقال : " وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ كان اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " متفق عليه . * * * شاهدت أول أمس حلقة من حلقات برنامج " واحد من الناس " للأستاذ عمرو الليثي عن البائسات من سجينات الظلم والفقر ، وقد أحزنني ما رأيته من حالات قاسية وصعبة للغاية ، قد مُلئت بها " عنابر سجن القناطر " ، والأصعب في نظري أن تحدث في بلاد ما أكثر الأغنياء فيها , والتي لو حُسِبَت زكاة أموالهم لحَلَّت لنا الكثير من مشاكل هؤلاء الفقراء والمساكين ! - شاهدت حالات لسجينات بكافة الأعمار ، ولكن ما أدمى قلبي هو ما شاهدته من بكاء السجينات المُسِنَّات فوق الستين ، يبكين لوعة الظلم والوَحدة ، وقسوة ظلم الأهل والأقارب !! والوقائع كثيرة كلها تدورعلى قضية من نوع واحد هي : " السجن بسبب شيكات التقسيط لشراء غسالة أو ثلاجة أو بوتجاز .. إلخ " من أجل زاوج ابنة أو تعليم أبناء أو ضمان لقريبٍ أو جار !! - ومن أغرب الوقائع التي شاهدتها قصة السيدة التي بلغ سِنَّها الخامسة والستين ، وهي في السجن منذ اثنتا عشرة سنة ، منذ عام 1998 بسبب باقي قسط لا يتجاوز 250 جنيه تقريبًا ، فكان من التاجر الجشع الذي يجبرهن على توقيع شيكات كثيرة على بياض تفوق قيمة الشيك بفظاعة وعدم رحمة أن جاء لها بأحكام 103 سنة بعدد الشيكات الموقعة . أي والله يحدث هذا في مصر اليوم !! إذا كان الأديب الفرنسي فيكتورهوجو كتب في روايته " البؤساء " - وفيها ما فيها من مآس – عن بئيس سُجِنَ 19 عامًا من أجل رغيف عيش ، فماذا عساه يكتب اليوم - لوكان حيًّا - عن هذه البائسة المُسِنَّة وأخواتها وقد ارتمين في قاع سجن مظلم لا يرحم ! * * * ومع أنني أتضايق كثيرا من الخطباء الذي يتحدَّثون بخطاب قاصر عن بعض الأغنياء بلغة فجَّة يُشْتَم منها رائحة الحقد على الأغنياء وما يملكوه من حطام زائل ، فإنني أوجه للأغنياء نصيحة مختصرة وصادقة عسى أن تنفعهم يوم لا ينفع مال ولا بنون : أيها الأغنياء : إن الغني الشاكر منزلته عند الله عظيمة ، وشكر النعم يكون بإنفاقها في الحلال وأداء الحقوق والواجبات ومنها الزكاة والصدقات والأوقاف الخيرية .. أنتم مدعوون للتفكر في أخلاق النبلاء ممن سبقوكم من الأغنياء وما قدموه لأنفسهم تحت شعار :{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } [ فصلت : 46 ] . - هل سمعتم عن الأوقاف النادرة التي كان يعتني بها أغنياء المسلمون في الماضي : هل سمعتم عن وقف لإطعام الحيوانات المريضة في آخر حياتها حتى لا تتعرض للمهانة ؟ فإذا كان هذا صنيعهم بالحيوانات ، فماذا كان يقدم هؤلاء النبلاء للمحتاجين والمحتاجات من البشر في ذلك الوقت ؟ - هل سمعتم عن " وقف لرفع معنويات المرضى في المستشفيات " حيت يُعْهد لاثنين _ يتقاضون أجرًا - بالذهاب للمستشفيات للحديث بجوار المريض عن تحسن صحته .. من أجل رفع روحه المعنوية للمساعدة في إتمام شفائه ؟ ولو شرعت أعدد لكم هذه الأنواع لبلغت أكثر من خمسين نوعًا . أيها الأغنياء : سابقوا في إنشاء الجمعيات الخيرية الوقفية لإطلاق سراح هؤلاء البائسات السجينات ؟ فالعمل الصالح له أثر بالغ في تفريج الهموم والغموم والقلق الذي تتعرضون له في أعمالكم ، وإذا كانت الدنيا اليوم تضيق بأعمالكم من كثرتها فإن صندوق العمل وهو القبر لا يزيد عن أمتار قليلة ويتسع لمن يقدِّم اليوم العمل الصالح لنفسه ، وقد قال سبحانه : { فلأنفسهم يمهدون } قال مجاهد : في القبر . فسارعوا لعمل الخير ، ولا تنتظروا أن يَعْمَل لكم أحد بعد مماتكم ، فربما انتفع به من لا تحبونه ، فَرُبَّ ساعٍ لقاعد ! * * * ولا يقتصر تقديم النُّصْح للأغنياء فحسب ، فكلنا سنسأل أمام الله عن بكاء هؤلاء البائسات السجينات ، فالكل مطالب بأن يصنع شيئا من قضاة ومحاميين وإعلاميين وجمهور الناس .. - فالقُضَاة النُّبلاء الأذكياء : ينبغي أن يُراعوا حيل التجار الفجار وألاعيب مرتزقة المُحَاماة الذين لا همَّ لهم إلا جمع المال الحرام ! فقد قرأت إعلانا لبعض المحامين - على جدار بعض شوارع القاهرة - بعنوان : " نحن نأخذ أتعابنا من خصومك " يعني المهم عنده تحصيل المال بأي وسيلة وبأي طريقة بغض النظر عن عدالة قضية الخصم . وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الوقت فقال : (( ليأتين على الناس زمان لا يُبَالي المرء بما أَخَذَ المَال أمن حلال أم من حرام )) رواه البخاري . - والمُحَامون الشُّرفاء : عليهم واجب التوعية والإنقاذ : توعية السذج من الناس وهؤلاء المساكين بخطر الوقوع في فخ هؤلاء التجار الفجار ومن يساعدهم ! كما ينبغي التطوع لإنقاذ المظلومين بالتصدي للمرتزقة في هذه المهنة ؟ - والإعلاميون الشُّرفاء : عليهم واجب التوعية والإرشاد ودعوة الفضلاء والنبلاء لحض الناس على عمل الخير ونفع مجتمعاتهم . . - وأما جمهور الناس فعليهم أن يتكاتفوا فيما بينهم بدفع الزكاة والصدقات لإخوانهم الفقراء ، كما ينبغي أن يُحَذِّر بعضهم البعض من هذه النار التي هم أول من يستعر بها . * * * وختاما : أوجه تحية لبرنامج " واحد من الناس " والقائمين عليه لاهتمامهم بهؤلاء المظاليم من الضعفاء والمساكين ، داعيا المخلصين في مجال الإعلام الهادف لتخصيص ولو عشر دقائق يوميا لإرشاد الناس وتحذيرهم وتعريفهم بالقضايا التي تَمَسّ حياتهم بشكل مباشر . أسأل الله تعالى أن يُعيذنا من فقر يُنْسينا ، أوغنىً يُطغينا ، وأن يوفق أغنياء البلاد لسد دين المدينين وتفريج الكرب عن المكروبين ، والله المستعان وعليه التكلان , وهو حسبنا ونعم الوكيل . أشرف عبد المقصود [email protected]