قصة الطفل الفلسطيني كرم دعنا من الخليل والذي حكمت محكمة الاحتلال بفرض الإقامة الجبرية عليه في بيت جده ستة أشهر تبعث في النفس مشاعر مختلطة فهي من جهة تحكي قصة مأساة جديدة من قصص المعاناة الفلسطينية التي لا تنتهي، وعنوان القصة هذه المرة طفل يفترض أن يقضي حياته بين اللعب واللهو والمرح، لكنه في قانون الاحتلال مذنب يستحق العقاب لأنه ألقى حجراً عبر به عن غضبه على من احتل أرضه واعتدى على شعبه... لكن هذه القصة من جهة أخرى تبعث على السخرية فهي تكشف مدى تفاهة الاحتلال وضيق أفقه ومحدودية تفكيره، فدولة بأجهزتها الشرطية والقضائية تلاحق طفلاً وتعامله معاملة الند للند. في تفاصيل القصة اختطفت قوات الاحتلال الطفل كرم دعنا البالغ من العمر اثني عشر عاماً وأودعته السجن خمسة أيام قبل أن تصدر المحكمة حكماً بتغريم أهله، وفرض الإقامة الجبرية عليه في بيت جده ستة أشهر، وعدم السماح له طوال هذه المدة بالذهاب إلى بيت والده أو إلى مدرسته، والتهمة هي إلقاء حجر.. قصة الطفل كرم ليست استثنائيةً في تعامل الاحتلال مع الأطفال، فالاحتلال صاحب سجل أسود في الجرائم ضد الأطفال، والإحصائيات تؤكد أن استهداف الأطفال هو نهج ثابت في سياسة الاحتلال، فعدد قتلى الانتفاضة من الأطفال بحسب المراكز الحقوقية 1859 شهيداً، ولا نزال نذكر مشهد قتل الطفل محمد الدرة الذي تحل ذكراه العاشرة هذه الأيام، والذي قدر أن يكون استهدافه في حضور إعلامي وثق الجريمة التي هزت الضمير العالمي، ولولا صدفة الوجود الإعلامي لمرت الجريمة كما مرت مئات الجرائم الأخرى. ولا يتوقف الاستهداف الصهيوني للأطفال بعمليات القتل التي قد يبررها الاحتلال بأنها كانت بالخطأ، ولكن هناك مئات الأطفال الذين يختطفهم الاحتلال ويزج بهم في السجن، وكثيراً ما تكون التهمة هي إلقاء حجر. لكن ما يميز قصة الطفل كرم هو ما تكتنزه من الدلالات والرموز. أحياناً تكون في الحياة مواقف تظهر فيها الرموز والدلالات بشكل مكثف فتوضح جوهر المسألة وتجردها من الشوائب والملابسات، وقصة الطفل كرم هي من هذا النوع الذي يكشف حقيقة المشهد ببراعة دون أي معالجة إخراجية ليصبح العنوان بكل بساطة (دولة في مواجهة طفل). هذه القصة وغيرها تكشف عن المأزق الأخلاقي الذي يعيشه كيان الاحتلال. فهو من ناحية يقدم نفسه بأنه جزء من العالم المتقدم المتحضر، وأنه واحة الديمقراطية في صحراء الدكتاتوريات، لكن أفعاله تفضحه ولا تعطيه فرصة للاستمرار في الخداع والتضليل، فهو يضطر لمناقضة نفسه وللتصرف بطريقة العصابات، حتى لا يدفع الثمن الذي تقتضيه الطبيعة الحضارية فيضطر إلى إظهار طبيعته العدوانية إذ لا يستطيع أن يعيش إلا بطبيعته.. مرجع هذا التناقض البنيوي الذي يعاني منه الاحتلال أن كيانه أسس من أول يوم على الاحتلال واغتصاب حقوق الآخرين، فمهما حاول إظهار نفسه بمظهر حضاري ديمقراطي فهو لا يستطيع أن يغير جلده لأن ذلك سيؤدي إلى فنائه. فمثلاً بينما يقدم الكيان نفسه للعالم بأنه دولة ديمقراطية، إلا أنه لا يستطيع أن يظل منسجماً مع هذا الادعاء على طول الخط لأن ذلك سيكلفه أن يدفع ثمناً يؤثر على تركيبته العنصرية الاحتلالية، فيضطر إلى مناقضة هذه الديمقراطية في تعامله مع فلسطينيي الداخل الذين هم جزء من مواطنيه لكنه يحرمهم من حقوقهم ويعمل على طردهم بدوافع عنصرية، وهكذا فإن الاحتلال والديمقراطية نقيضان لا يلتقيان. بالطبع فهذا ليس هو المثال الوحيد على التناقض الوجودي الذي يعيشه كيان الاحتلال، فكونه احتلال يكلفه أن يتصرف بطريقة العصابات لمواجهة الحق الصارخ الذي لا يستطيع مواجهته بمنطق القانون، وهكذا يقع الكيان في تناقض بين ادعائه بأنه جزء من المنظومة الدولية وأنه دولة تحترم القوانين والأعراف، وبين تصرفات العصابة التي يقوم بها لحسم معاركه، وقد ظهر هذا السلوك الهمجي جلياً في حرب غزة وما احتوته من فظائع تترفع العصابات عن ارتكابها من تعمد استهداف المدنيين بالمئات واتخاذهم دروعاً بشرية، وقصف المدارس والمساجد والمستشفيات، مما جعل الكيان في نظر العالم دولة عصابات مارقة ترتكب جرائم حرب، وأدين في مجالس حقوق الإنسان الدولية، مما استنزفه كثيراً إعلامياً وسياسياً ، ورغم ذلك فهو لم يتعلم من الدرس ولم يراجع نفسه وأعاد ارتكاب ذات الحماقة مع أسطول الحرية حين خلع ثوب الدولة وارتدى ثوب عصابات القراصنة فهاجم الأسطول في أعالي البحار وأعدم المتضامنين الإنسانيين، وسرق محتويات السفينة..وكما وقع الكيان في هذه الحماقة فإنه سيقع في غيرها ومن العبث الظن بأنه سيتعلم من أخطائه، فهو يقوم بهذا السلوك لأنه لا يستطيع أن يحيا إلا به ، فما دام قد ولد ولادةً غير طبيعية فليس من المتوقع أن يسلك سلوكاً طبيعياً ، لأنه إن لم يفعل هكذا فإن وجوده الاحتلالي سيكون في خطر.. هذه الحقيقة حول طبيعة تركيب الكيان الصهيوني وإن كانت تسبب لنا قدراً من المعاناة والألم إلا أنها تحمل الخير الكثير، فما دام التناقض سمةً رئيسيةً في التركيب البنيوي لكيان الاحتلال فهذا يعني أن كيان الاحتلال يحمل بذور فنائه في داخله وأنه مهما أوتي من حيل دبلوماسية وإعلامية وسياسية فلن يستطيع أن يخفي وجهه القبيح، لأن كونه قائماً على الاحتلال والظلم يفرض عليه نمطاً من السلوك لا يستطيع أن يغيره، وقد اقتضت سنة الله أنه لا يصلح عمل المفسدين. إن هذا التناقض البنيوي مفيد لنا في أنه سيظل هو الكاشف والفاضح لحقيقة هذا الكيان البغيض، ويشكل حصانةً للوعي ضد الاختراق والتزييف، فكلما همت طائفة منا بالركون وتناسي الماضي ومحاولة فتح صفحة جديدة من الحل السلمي مع الكيان، قام الكيان بغبائه بخطوة تعيد تذكيرنا وتجهض أي وهم بإمكانية التعايش والحل السلمي. إن كل يوم يمر يزيد من المأزق الوجودي الذي يعيشه الاحتلال، وما بني على باطل فهو باطل والأمر لا يحتاج منا أكثر من التحرر من الوهم وشيء من العمل المنظم لتعميق مأزق الاحتلال وعزله وصولاً به إلى الانهيار الكامل كما فعل بأشياعه العنصريين في جنوب أفريقيا من قبل.. "وما هي من الظالمين ببعيد" والله أعلى وأعلم.. [email protected]