أتظن أنك ستحفر حفرة لأخيك وتعمقها، ثم تقف مستمتعا لتراه وهو يتردى فيها، وأن لا أحد يراك، (أيحسب أن لم يره أحد)؟ أتحسب أن ستمكر بالناس وأنت في مأمن، لكن (الله خير الماكرين)؟ وتكيد لهم والله من وراء كيدك محيط، يمهل الظالمين رويدا حتى إذا أخذهم لم يفلتهم؟ أتقول عن النعمة التي أنعم الله بها عليك ما قال صاحب الجنة الهالكة: (وما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا)؟ فاحذر يا هذا أن يحاط بثمرك. أتخال نفسك نمرود تقتل هذا وتطلق هذا وتقول: (أنا أحيي وأميت). فوالله ثم والله، ما عجز الله عن نمرود الماضي، ولن يعجزه نماريد العصر، ونبشركم بجزاء كجزائه، وموتة كموتته. قد يكون الشعب الذي تآمرتم عليه أفقر منكم مالا، وأضعف حالا، وأقل قوة، وأضيق حيلة، ولكن الأيام دول، و(البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت كما تدين تدان)، والملائكة تدون وتسجل، ويوم الحساب تسأل عن النقير والقطمير، وإله السماوات والأرض لا يحب الظلم ولا يرضاه، حرمه على نفسه، وسيحاسب الظالمين أشد الحساب. ثيابكم ليست بيضاء ولا طاهرة كما تبدو، وإنما هي حمراء ملطخة بدماء الأبرياء الذين قتلتموهم وظاهرتم على قتلهم، سوداء كالحقد الذي يملأ قلوبكم، وكصحائفكم أعمالكم التي تخلو من الحسنات، ونجسة لا تطهرها بحار الأرض، ولكن تطهرها النار التي وقودها الناس والحجارة، التي أعدها الله للظالمين من أمثالكم. من زمن بعيد وأنتم مع الظالم ضد المظلوم، ومع القاتل ضد المقتول، ومع الجلاد ضد الضحية، وقامت الثورة وانتصر الحق على الباطل، والعدل على الظلم، والهدى على الضلال، وقلتم كذبا: نحن مع الشعب. ولا والله ما كنتم يوما مع هذا الشعب، ولا مع أي شعب. وقال الشعب المسكين: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه). وعدتم فخافوا انتقام العزيز ذو الانتقام. لم تمارسوا القتل بأيديكم نعم، ولكنكم استأجرتم أخساء أمثالكم، وهششتم لهم وبششتم، وأغدقتم عليهم الأموال، وأجزلتم لهم العطاء، وأشرفتم على تنفيذهم لخططكم، وأنتم وهم شركاء، تصيبكم لعنة جرائمكم، وتحاسبون على ما فعلوا وفعلتم أمام شعوبكم في الدنيا، وأمام الله والخلق أجمعين يوم القيامة. أتخافون قوة مصر لأنكم ضعفاء؟ وتخافون عزتها لأنكم أذلاء؟ وتخافون حريتها لأنكم عبيد؟ وقد قلنا لكم: إن قوتها وعزتها وحريتها قوة وعزة وحرية لكم، ولكن أنى لكم أن تفهموا؟ إما أنكم نسيتم الماضي القريب، حين كانت يد مصر هي العليا ويدكم هي السفلى، حين كان الغذاء والكساء والتعليم والدواء يأتيكم من الشعب المصري، حين كنتم تعانون حرمانا لا يلطفه إلا العطايا القادمة من القاهرة، وإما أنك تعانون ألما نفسيا جراء هذا، وإما أنكم لا تريد لهذه الأيام أن تتكرر، ولكن كائنا من كنتم لن تصمدوا أما الريح، ولن توقفوا عجلة التاريخ. طمأناكم وسكناكم: لا تراعوا فالثورة المصرية صناعة محلية للاكتفاء الذاتي وليست للتصدير الخارجي. ولكن الخائف الرعديد يخاف الأسد وبينه وبينه الفيافي والقفار. الكل يعرف أنكم لا تحاربوننا فقط لكرهكم للحرية وما يصاحبها، ولكنكم تخوضون معركة استباقية في أراضينا بدلا من أن تخوضوها على أراضكم من قريب، ولكن أمر الله نافذ. كنا نقرأ أن الأميرة بنت الأمراء، الحرقة بنت النعمان استأذنت في الدخول على سعد بن أبي وقاص، بعد القادسية، وكانت في حياة أبيها إذا خرجت خرج معها مائتا جارية، يفرشن لها الديباج، ويسترنها بمطارف الخز. فأذن لها سعد، فدخلت امرأة متضائلة. فقال لها سعد: أنت حرقة؟ قالت: نعم. فكرر عليها ثلاثًا. فقالت: وما الذي يعجبك من أمري يا سعد؟ كنا ملوك هذا المصر يجبى إلينا خراجه، ويطيعنا أهله، أيام المدة والدولة؛ فلما حل القدر، وأدبر الأمر، صاح بنا صائح الدهر؛ ففرق شملنا، وصدع عصانا، وسلبنا ملكنا. وكذلك الدهر يا سعد ليس يأتي قومًا بحبرة، إلا وأعقبه عبرة. وأنشأت تقول: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيه سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف ظننا هذه الوقائع وأمثالها قبرت في كتب الأدب والتاريخ، فتلك أيام دالت، وقصص بادت، ولكن أبى القدر إلا أن يعيدها جذعة، فاعتبروا بالأوائل إن كنتم تعقلون، أو اعتبروا بأصدقائكم إن كنتم معتبرون، وإلا فستكونون عبرة لمن يعتبر.