لا يصح أن تترك "المسألة القبطية" رهينة بعض رجال الدين ، أو أن يتم تفخيخ الروابط الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والوطنية بين الأقباط وبين وطنهم بفعل تشنج وخيالات بعض الكهنة وعجرفتهم ضيقة الأفق ، لقد شهدت علاقات الأقباط بوطنهم وبأهلهم المسلمين أفضل عصورها عندما كانت النخبة الرفيعة المثقفة في المجتمع القبطي هي التي تقود الرأي العام القبطي وتنسج أثواب تلك العلاقة التاريخية وروحها ونبضها ، وهي تلك النخبة التي كانت أكثر وعيا وإدراكا أيضا بمشكلات الأسرة القبطية وأكثر رحمة بها من التشدد الكنسي الحالي وهي تلك النخبة التي وضعت بنفسها لائحة "38" الشهيرة والتي صدر بها قرار وزير الداخلية الليبرالي الشهير "أحمد لطفي السيد" ، وخلال تلك العقود المديدة من تاريخ مصر الحديث شهدت البلاد العطاء والتداخل الواسع للنخبة القبطية مع الحياة العامة ، وللدرجة التي لا تشعر فيها هل هذا الشخص المتوهج قبطي أو مسلم ، سواء كان سياسيا أو صحفيا أو محاميا أو شاعرا أو ناقدا أدبيا أو روائيا أو فنانا أو عسكريا أو لاعب كرة أو حتى عاملا عاديا ، وكان طبيعيا أن تجد نقابة المحامين المصريين أكبر وأقوى نقابات مصر مثلا تحت قيادة محامي قبطي ، أو أن تجد أكبر صحف مصر الرسمية تحت قيادة صحفي قبطي أو أن تجد أخطر قطاعات الجيش المصري تحت قيادة جنرال قبطي أو أن تجد أبرز أعضاء البرلمان أقباط أو أن تجد أبرز نقاد الأدب في مصر أقباط أو أن تجد أبرز روائيين في مصر أقباط أو أن تجد أكثر شعراء الأغنية المصرية شهرة على الإطلاق قبطي ، .. إلى آخر القائمة التي لا أملك حصرها الآن ، كل هذا النسيج المتداخل والجميل والحميمي والإنساني ضاع الآن عندما سيطر الجناح المتشدد على الكنيسة المصرية منذ مطلع السبعينات ، ثم سيطرت الكنيسة بروحها الجديدة بعد ذلك على المجتمع القبطي حتى أوشك أن ينصهر فيها ، فبدأت النخبة القبطية في الانزواء والتهميش داخل المجتمع القبطي ، ثم بدأ مسلسل الانسحاب القبطي من الحياة العامة بشكل واضح في مختلف المستويات ، بل إن الأصوات القبطية القليلة التي تبدأ في الظهور سرعان ما تخضع للرعب المعنوي الذي تمثله الكنيسة على المجتمع القبطي وكثير منها ينسحب إلى الخطاب الطائفي المغلف بلغة حداثية مزيفة ، ويستحيل أن تجد الآن من الأصوات الجديدة من يجرؤ على انتقاد الكنيسة في أخطائها الواضحة للعيان ، أو أن يجرؤ على طرح رؤى اجتماعية وقانونية بديلة لما تطرحه الكنيسة ، وقد ساهمت الدولة بقدر كبير في هذه الأزمة القبطية الخطيرة ، عندما بدأت علاقاتها بالأقباط تنحصر من خلال قناة الكنيسة ، وعلاقتها بالمجمع القبطي لا تمر إلا من خلال الكهنة ورجال الدين ، وبمرور الوقت أصبح القبطي الذي لديه مشكلة أو أزمة من أي نوع مع مواطنيه أو مع أجهزة الدولة أو حتى مع القضاء ، أول ما يفكر فيه أن يلجأ إلى الكنيسة وإلى الكاهن ، وهو ما عزز من تلك الهيمنة المخيفة للكنيسة على المجتمع القبطي وحولها بمرور الوقت إلى دولة موازية في الوعي الجمعي للأقباط وفي الشعور الغاضب للمسلمين ، ولم يعد هناك أي وجود يذكر للمجلس الملي للأقباط ، مجرد خيال أو بقية من تاريخ ، بعد أن نجح البابا شنودة بحربه المتواصلة وتخطيطه الدائم من تهميش المجلس وعزله عن إدارة أي شأن متصل بالأقباط أو الكنيسة ، لا ماليا ولا إداريا ولا اجتماعيا ، والبقية الباقية فيه مستسلمة للحصار الكنسي الرهيب ، وأصبح من الواضح أن هناك جيلا جديدا من الكهنة مشبعا بالروح الطائفية الانعزالية المتطرفة ، والتي تنظر إلى الوطن نظرة عداء وتستحضر أحقادا تاريخية لا معنى لها ، على النحو الذي قرأناه مؤخرا ، ويكون من الخطورة بمكان ترك مثل هؤلاء يبثون تلك الروح البغيضة في وعي الأجيال القبطية الجديدة ، وأي تخطيط أو جهد لإعادة تصويب مسار علاقات النسيج الواحد بين المسلمين والأقباط في مصر لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق تهميش ذلك النفوذ المتزايد للكهنة على الحياة القبطية ، وإعادة الكنيسة إلى دورها الروحي ، وبسط سيادة القانون على الجميع ، وإشعار المجتمع القبطي أن إرادة الدولة في تطبيق القانون لا تستثني أحدا ، لا كاهن ولا رجل دين ، مسلما أو مسيحيا ،وترسيخ ذلك المعنى بشكل عميق من خلال ممارسات واقعية صارمة ، وإعادة الاعتبار للمجلس الملي ، وتشجيع النخبة القبطية الجديدة على المشاركة السياسية والثقافية والأدبية والاجتماعية مع المجتمع العام خارج الأطر الكنسية الضيقة ، لتخرج إلى فضاء الوطن الرحب ، أهم ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة هو خطورة تمكين الكهنة من اختطاف المجتمع القبطي وعزله عن الوطن ، وإذا كان لتلك الأحداث من فضيلة أو فضل ، فهي أنها وضعت يد من يريد الإصلاح على أول الطريق ، أما أولئك الذين ما زالوا يتعاطون مع الملف بنظرية تطييب الخواطر وأناشيد الوحدة الوطنية وصورة الشيخ مع القسيس ، فهؤلاء هم الذين لا يريدون بهذا البلد خيرا . [email protected]