طبيعة الشخصية المصرية الفطرية طبيعة متسامحة ، وأبعد ما تكون عن التعصب الديني تحديدا ، ولذلك كان المسلمون في مصر الأكثر تسامحا مع أصحاب العقائد الأخرى ، لامتزاج سماحة الإسلام التشريعية بسماحة أهل مصر الفطرية ، فالإسلام بطبيعته دين سمح يتعايش مع أي عقائد أو ديانات أخرى ، لأن نصوصه الدينية ذاتها تؤسس لتلك السماحة وتنفر من التعصب والتطرف وتدعو للتعايش بل وتعتبر أن الحكمة الإلهية كانت في هذا التنوع العقائدي البشري ، لذلك كانت الكنائس المتصارعة في أي مكان حكم فيه المسلمون تحتمي بمظلة عدالة المسلمين من ظلم الكنائس الأخرى المنافسة وبطشها ، وهذه الروح السمحة للإسلام والشخصية المصرية معا هي التي حفظت وجود المسيحية في مصر طوال القرون الماضية ، ولو كان المسلمون في مصر يملكون نصف أو عشر التعصب الذي اتصف به المسيحيون في الأندلس على سبيل المثال لما كان هناك مسيحي واحد في مصر اليوم ، ولم تعرف مصر طوال تاريخ الإسلام فيها أي مظهر من مظاهر المذابح الطائفية الوحشية التي عرفتها أوربا في عصرها الوسيط بين مذاهب المسيحية نفسها ، على النحو المروع الذي وقع بين الكاثوليك والبروتسانت وحصد مئات الآلاف من البشر . في مصر يصعب أن تميز بين المسلم والمسيحي في الشارع أو العمل أو المطعم أو الملاعب أو المحلات التجارية أو أي مظهر للحياة ، الشخصية واحدة في السلوك والمزاج والنكتة ، وعلى مدار التاريخ الحديث كله لم يحدث أي مظهر للغضب الإسلامي تجاه الطوائف الأخرى إلا إذا حدث استفزاز بالغ من تلك الطائفة ، وسرعان ما يزول العارض بزوال أسبابه ، ويكون التوتر عادة في دائرة ضيقة ، والمسلمون في الانتخابات البرلمانية كانوا يعطون أصواتهم أحيانا للمرشح المسيحي ضد المرشح المسلم ، إذا كان المرشح المسيحي يحظى باحترام الجميع ويمثل معارضة جادة ونزيهة وصاحب مواقف شجاعة ، بعكس منافسه ، وقد فاز الرمز المسيحي منير فخري عبد النور القيادي الوفدي في انتخابات 2000 في حي الوايلي بأصوات المسلمين ، وأسقطوا مرشحين مسلمين لأنه كان يتقدم بوجه وطني غير طائفي ، وأذكر حينها أن أنصار منير نشروا إعلانا مدفوع الأجر في صحيفة الأهرام لتهنئته على النصر الكبير وكان عنوان الإعلان الآية القرآنية "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" !! ، والأموال الطائلة التي حققها مستثمرون مسيحيون في مصر في أسواق العقار أو الذهب أو الاتصالات أو غيرها هي أموال المسلمين . كل هذه الروح السمحة والجميلة تحاول تمزيقها الآن طموحات كنسية ضيقة الأفق ، وتشنج بعض الكهنة الذين يبثون روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد ، على خلفية قضايا مغرقة في الطائفية ، مثل التوسع في بناء الكنائس أو الاستيلاء على مساحات أراضي لضمها لمطرانيات أو مطالبة السلطة بالقبض على مواطنة مسيحية تريد التحول إلى الإسلام أو مذهب آخر وتسليمها للكنيسة وإلا حدث ما لا يحمد عقباه أو التحرش بالإسلام وحضوره في الإعلام أو المدارس أو حتى ملاعب الكرة ، وهذه هي الصورة التي تجلت مؤخرا للجميع لدرجة استفزت حتى أبعد التيارات السياسية والفكرية عن الطائفية . وأستأذن في نقل فقرة كاملة من مقال الزميل العزيز الدكتور عبد الحليم قنديل ، وهو مناضل ناصري علماني له موقفه النقدي المعروف من التيار الإسلامي ، يقول قنديل في مقاله المنشور في صحيفة "القدس العربي" قبل أيام ما نصه الحرفي : (راح البابا شنودة يجمع الخيوط كلها في يده، ويعتمد على سياسة ملتبسة، يمد طرف خيط خفي وظاهر إلى جماعات أقباط المهجر، يلومهم أحيانا، ويستثمر أدوارهم غالبا، ويستقوي بفرص الضغط الواردة من الإدارة الأمريكية صاحبة النفوذ الآمر في مصر، ويبني شبكة هائلة من آباء الكنيسة في الداخل، ويدهس استقلال الشخصيات المسيحية 'العلمانية'، ويتوسع في استخدام أساليب الحرمان الكنسي، أو يهدد بها، ويفوض أمن دولته في التفاوض مع أمن دولة مبارك، ويعقد معه الصفقات على طريقة الند للند، ويأخذ من سلطات الدولة لحساب سلطات دولة الكنيسة، وينشئ ما يشبه السجون وأماكن الاحتجاز في الأديرة المعزولة، ويتخذ من خط بناء الكنائس، الفارغة غالبا من مصلين، خط هجوم أمني وديني، ويسقط الاعتراف بأحكام القضاء، ويحل محلها شريعة الكنيسة بحسب فهمه وتأويلاته البالغة التشدد) انتهى النقل عن مقال قنديل . واللافت في تمدد دور الكنيسة أنه يأتي دائما على حساب مصالح الأقباط كمواطنين وتمددهم في الوطن نفسه ، لأنه كلما تضخم دور الكهنة وتعاظمت هيمنتهم وسلطانهم وتنامت مصالحهم المالية وتمددهم السياسي وتعجرفوا بمطالبهم الطائفية التي لا تنتهي كلما استفزوا الطرف الآخر ، وهو ما ينعكس سلبا على الموقف من الحالة القبطية بكاملها ، وبالتالي يتقلص تمدد الأقباط كمواطنين في المجتمع واندماجهم بنسيجه العام وتتعرض مصالحهم السياسية والنقابية والاجتماعية والاقتصادية مع الغالبية الساحقة للضرر بكل تأكيد ، لأن العلاقة تم تفخيخها بالشك والتوتر والترصد والغضب ، لذلك يكون من باب النصح للوطن ونصر وحدته ، ونصر أقباطه أنفسهم ، أن تتضافر الجهود للتصدي لهذا "التغول" الطائفي للكهنة ومحاولاتهم السيطرة الشاملة على الشأن القبطي وتفخيخهم لمشاعر المواطنين بالغضب والكراهية . [email protected]