ربما لم يطلّ خيار تقسيم السودان في أي مرحلةٍ من المراحل كما بدا هذه الأيام فجميعُ التصريحات والمواقف الدوليَّة والإقليميَّة ومن قبلها المحلية تسير في هذا الإطار، فبين الفَيْنة والأخرى يخرج علينا مسئول في حكومة الجنوب يبشِّر الرأي العام بأن انفصال الجنوب وتشكيل دولة جديدة صار أقرب إلينا من حبل الوريد بفضل ما يدَّعِيه من عقلية أهل الشمال وممارساتهم التمييزية والعنصرية ضد أهل الجنوب بل أن عرابي تقسيم البلاد من بينهم باقان أموم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير السودان صاروا يعزفون على وتر الانفصال بالتأكيد، على أن تجربة التعايش مع الشمال -سواء منذ استقلال البلاد أو خلال الفترة الانتقالية- لا تبعث على الارتياح، ولا تؤشِّر لاحتمال استمرار الوحدة بين شريكي اتفاق نيفاشا. وسيطرت لهجةُ الانفصال على حديث زعماء الجنوب متبوعةً بسلسلة من التهديدات لحكومة الخرطوم بعواقب وخيمة في حالة استمرارِها في وضع العراقيل أمام إجراء الاستفتاء في موعده؛ حيث استغلَّ سليفاكير وجوده في واشنطن وهدَّد نظام البشير بامتداد الاضطراباتِ لجميع أنحاء السودان في حالة عدم الوفاءِ باستحقاقات الاستفتاء، لافتًا إلى أن أغلب مواطني الجنوب سيصوِّتون لصالح الانفصال، بل أن أحدهم أكَّد أن هذه العقبات ستدفع عددًا من أبناء الجنوب المتردِّدين بين دعم خياري الوحدة والانفصال إلى تفضيل الأخير مع تصدير إشاراتٍ بأن الشريعة الإسلاميَّة تمثِّل عقبةً كبيرة في طريق استمرار السودان موحَّدًا، فلم تنتهِ معاناة الجنوبيين من عروبة السودان ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية حتى حاصرتهم الشريعة بحسب وصف سياسيين جنوبيين. فكّ الارتباط وزاد من خطورة الأوضاع داخل السودان أن حديث الوحدة لم يجدْ آذانًا صاغية، سواء لدى النخبة الحاكمة في الجنوب بالطبع أو داخل جناح نافذ داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم يرى من الأفضل فكّ الارتباط بين الشمال والجنوب، متذرعًا بأن الصراعات مع الأخير قد شكَّلت عامل ضغط، واستنزافًا للاقتصاد السوداني، بل أنها المسئولة عن الأوضاع المعقَّدة في جميع أرجاء البلاد من حيث انهيار البنية الأساسية وتخلف مسيرة التنمية وتعرضه لعقوبات اقتصادية ومؤامرات لا تنتهي في الشرق ودارفور وغيرها من تبعات الحرب في الجنوب. ولعلَّ من يتبنّون وجهة النظر الأخيرة الداعمة لانفصال الجنوب يتجاهلون التداعيات السلبيَّة، إن لم نَقُل المدمِّرة لهذا الانفصال على الأوضاع، فميلاد دولة في الجنوب قد يقود لتكرار نفس السيناريو في إقليم دارفور الملتهب غرب السودان، في ظلّ تصاعد الصوت الانفصالي وتلويح مسئولي حركة العدل والمساواة باللجوء إلى حقّ تقرير المصير، وفضلًا عن تصاعد الاضطرابات في الشرق واحتمال امتداد الاضطرابات لمعظم أراضي السودان، ومنها جبال النوبة وكردفان، مما يعيد إلى الأذهان سيناريو تفتيت يوغوسلافيا الذي بدأت أوصاله تتحلَّل بإعلان سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما، ثم استمرَّ الحبل على الجرار حتي انفصمتْ عرى الدولة، وهو مشهد قد نراه قريبًا في الخاصرة الجنوبية للأمة العربية، وهو ما ذهبَ إليه نائب سيلفاكير ياسر عرمان عندما أكَّد أن إعلان الجنوب الانفصال سيكون الطلقة الأولى للتحلُّل يليها عدة طلقات لا سيَّما في دارفور. موجَة اضطرابات ومن البديهي الإشارة إلى أن انفصال جنوب السودان المرجَّح سيشعل موجة كذلك من الاضطرابات في شمال السودان، فالمعارضة لن تتركَ الأمر يمرُّ مرور الكرام من جهة تحميل نظام الإنقاذ مسئولية الانفصال وتبعاتِه والعمل على إسقاطه سواء عبر انقلاب عسكري أو حركة شعبيَّة تكرّر ما حدث من نظام جعفر نميري، وهي اضطراباتٌ قد تُغري المتربصين بالسودان سواء من جانب قوى إقليميَّة أو دوليَّة باستغلال الظروف المعقَّدة لابتزاز النظام وانتزاع تنازلات ستكون لها تأثيراتٌ سلبيَّة على مجمل الوضع السوداني تعزِّز من خسارة البلاد للعمق الإفريقي وقطع الصلات مع بلدان حوض النيل. وليت المخاطر تتوقَّف عن هذا الحدّ، فمن البديهي التأكيدُ أن انفصال الجنوب سيشكل كارثةً على الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ فخسارة ما يقرب من ربع مساحة البلاد تنتج وحدها ما يقرب من 70%من ثروتها النفطية ستوجه ضربة موجعةً للاقتصاد المتعثر وسيحرم ميزان المدفوعات من النسبة الأكبر من الإيرادات بشكل قد يؤثر بالسلب على التزامات البلاد المحلية على حدٍّ سواء وحرمانه من دعْم عشرات المشاريع المعتمَدَة بشكلٍ شبه تام على مداخيلِه من النفط. دولَة فاشلة وبقدرِ ما يتجاهلُ الجناح الداعم للانفصال داخل الحزب الحاكم للتداعيات الخطيرة لانسلاخِ الجنوب السوداني فالأمر ذاتُه يتكرَّر بين مسئولي الجنوب الذين لا يخفُون ولعهم بولادةِ دولة جديدة من رحِم السودان، رغم إدراكِهم أن الجنوب لا يملكُ أيًّا من مقوِّمات الدولة على مختلفِ الأصعدة، بل ويفتقد لأبسط معالم البنية التحتيَّة والإمكانيات القادرة خلال المرحلة الأولى على الأقل على كفالةِ أي نوع من الخدمات لمواطنيها بشكلٍ قد يحوِّلُه إلى نموذجٍ جديد للدولة الفاشلة في المنطقة تسير على درب الصومال المجاورة، بل أن الدولة الوليدة تفتقد لأيِّ موانئ لنقل منتجاتِها النفطيَّة إلى الخارج، مما يجعلُها تعتمد بشكلٍ كليٍّ على ميناء بور سودان في تأمين صادراتِها ووارادتِها، كونها دولةً حبيسةً، وهو وضعٌ مرشَّح للاستمرار لعقْد كاملٍ في ظلِّ التعقيدات الماليَّة والفنيَّة لمشروع إقامة خطوط أنانبيب لميناء مومباسا الكيني. اضطراباتٌ أمنيَّة وعلى منوالٍ أشدّ تواجه الدولة الوليدة أوضاعًا أمنيَّة شديدة الصعوبة، فالجنوب الذي تلفّ خاصرته اضطراباتٌ أمنيَّة خلفت خلال العام الماضي فقط أكثر من 2500 قتيلًا على موعدٍ مع استحقاقاتٍ خطيرة تتمثَّل في رفض عددٍ من قبائل الجنوب مثل النوير والشلوك وهيمنة قبيلة الدينكا ونقوك على الأوضاع في ظلّ تحدُّر أغلب النخبة المسيطرة على الجنوب من الدينكا، وهي اعتراضاتٌ قد تأخذُ طابعًا دمويًّا، بل أن الأمر قد يصلُ لاشتعال حرب أهليَّة بين الفُرَقَاء الجنوبيين تهلكُ الحرثَ والنسْل، مما قد يسمح لبعض المتربِّصين باختراق الساحة الجنوبيَّة واكتساب أرضية في ظلّ اهتراء البنيَة والسياسيَّة والأمنيَّة. من الأمورِ المثيرة في ظلّ هذه المخاطر أن أيًّا من الفُرَقاء السودانيين لم يبذلْ محاولات جادَّة للحفاظ على وحدة البلاد، ولم يتبنّ الفُرَقاء الذين انشغلوا طوال السنوات الماضية في الصراع فيما بينهم استراتيجيَّة واضحة لجعْل الوحدة الخيار الأكثر إغراءًا، لدرجة أن كثيرين نظروا باستخفاف للحملات الإعلاميَّة الذي تبنَّاها الحزب الحاكم في السودان أخيرًا لإقناع الجنوبيين بالتصويت للوحدة، بل اعتبروها مجرد ذرًّا للرماد في العيون لن تكون لها أي تأثير على نتيجة الاستفتاء، بل إن الفُرَقاء فشلوا في إيجاد تسويةٍ لعددٍ من الملفَّات العالِقة مثل ترسيم الحدود ومصير أبيي وتقسيم الثروات والمياه وشكْل العلاقات المستقبليَّة، بل إنهم عجزوا -ولفترة طويلة- عن الوصول لتشكيلة توافقيَّة لمفوضيَّة الاستفتاء دون أن تلوحَ في الأفُق أية تسويات لأي من هذه القضايا. دقّ طبول الحرب وربما بفضلِ هذه الأسباب مجتمعةً لا ينظر المراقبون بتفاؤل لسيناريو فكّ الارتباط بين الشمال والجنوب حيث لا يساورُهم الشكّ في أن هذا الانفصال سيأخذ طابعًا دمويًّا، فمثلا منطقة مثل أبيي الغنيَّة بالنفط لم ينجح الفُرقاءُ في الوصول لتسويةٍ حولَه، لدرجة أن قرارَ التحكيم الدولي لم يكن واضحًا، بل أخضَعَه كل طرف لتفسير يخدم مصالِحِه دون الوصول لحلول -ولو توافقيَّة- للخلافات حول حقول النفط أو حقوق الراعي لماشية قبيلة المسيرية العربية، مما يهدد بتحوُّل هذه المنطقة إلى برميل بارود مهدَّد بالانفجار في أية لحظة وسط أنباء عن عزْم كلا الطرفين على حسْم مصير الإقليم بالقوة مما يهدِّد باشتعال مواجهات موسَّعة بين الطرفين تعيد أطول حرب أهلية في إفريقيا إلى صدارة المشهد من جديد، بل تفتحُ الأبواب لتدخُّل قوى دوليَّة في الأمر لن ترضى بتبخُّر حلمِها في ميلاد دولة جديدة في جنوب السودان تقطع الصلات بين الأمَّة العربية والقارة الإفريقية، وهي صلاتٌ لَعِب السودان فيها الدور الأكبر على مدار عقود. ومَن يتابع بعض التصريحات الصادرة عن الجانبين في الفترة الأخيرة يرى سيادة خطاب المواجهة على الطرفين، ودق طبول الحرب؛ فمسئولو الجنوب يتحدثون عن بدائل يملكونها في حالة عدم احترام إرادتِهم، وعن حروب "خاصة" سيلجئُون إليها في حالة نقْض المؤتمر الوطني لتعهداتِه، وهي مواقفُ ردَّ عليها مسئولو الأخير باتِّهام حكومة سيلفاكير، باستخدام نصيب الجنوب من صادراتِ النفط في تمويل آلتِه العسكريَّة وترك مواطنيها نهبًا للجوع والفقْر والمرض، وهو ما عزَّز من احتمالات المواجَهَة، خصوصًا أن أغلب قضايا الوضع النهائي لم تحسمْ حتى الآن بشكل يجعلُ سيناريو المواجَهَة بين الطرفين هو الخيار الوحيد المتاح. وليس أدلّ على احتمال تدخل قوًى دوليَّة في حالة اشتعال المواجهة بين شريكي نيفاشا مما تردَّد خلال الأيام الماضية من تقديم واشنطن حزمة إغراءاتٍ لحكومة الخرطوم لضمان احترامِها لالتزاماتها وإتمام الاستفتاء في موعدِه، بل والقبول بنتائجِه، والاتفاق من حيث المبدأ على قضايا مرحلة ما بعد الاستفتاء، ومنها اقتسام الثروة والحدود بين الشمال والجنوب، فمن ناحية تشتمل مزايا في قطاعي التجارة والاستثمار وتخفيف أعباء الديون ومعها العقوبات الاقتصادية وفتح النوافذ مع الخرطوم، ولا تتجاهل التلويح بفرض عقوبات إضافيَّة على السودان إذا لم يتحققْ تقدمٌ، وهو ما يؤكِّد حسمَ الجناح الداعم للانفصال داخل إدارة أوباما لقرارِه وتأييده الكامل لانسلاخِ الجنوب من الجَسَد السوداني. صمتٌ عربي ومن المؤسِف أنه وفي الوقت الذي تتحرَّك قوى دوليَّة لسلْخِ جنوب السودان عن الوطن الأُمم، وما سيتبعُه ذلك من تفتيتِ وبلقنةِ السودان؛ فإن الجامعة العربية ودولها تقف مكتوفة الأيدي تجاه هذه المساعي، بل إن الأمر لا يقفُ عند هذا الحدّ، فهناك دولٌ مجاورةٌ للسودان أصبحتْ تتعاون مع الجنوب كدولة مستقلَّة ولا تتراجعُ عن تقديم الدعْم المالي والسياسي لها، ولم يعدْ يهمُّها إلا الحفاظ على مصالحها وضمان ألا تشكِّل الدولة الوليدة أي مساسٍ بحصتِها من مياه النيل فقط، متجاهلةً بذلك أبسط مبادئ الأمن القومي، وما يمكن أن تشكِّلُة الدولة الوليدة من تهديد لها خصوصا أن كلَّ الدلالات تؤكِّد تحوُّلها في المستقبل القريب وعبر القوى الكبرى إلى شوكةٍ في خاصرة العالم العربي. وعلى أيِّ الأحوال فإن جميع المؤشِّرات تشيرُ إلى أن الانفصال سيبقى الخيار الوحيد أمام الزُّمْرة المهيمِنة على الجبهةِ الشعبيَّة لتحرير السودان باعتبارِ أنَّ هذا الخيار "نخبويّ" في المقام الأول ولا علاقة له من قريب أو بعيدٍ بهموم المواطنين في جنوبِ السودان، فنهمهم للحكم والسلطة أسكرهم عن رؤية الواقع والتداعيات السلبيَّة للانفصال، وفي مقدمتِها احتمالاتُ إعادة ساعة الحرب مع الخرطوم؛ للدوران لحسْم عشراتٍ من القضايا العالِقة واشتعال حماماتِ الدم في الجنوب مع القبائل الرافضة لهيمَنَة الدينكا نقوك على الحُكْم وتحوُّل الجنوب لساحة تصفية الحسابات بين القوى الكبرى ودول الجوار، وهي تطوُّرات تُوحي أن انفصالَ الجنوب لن يكون سلميًّا في كل الأحوال إن لم يتحولْ واحدٌ من أكبر بلدان إفريقيا إلى بلقان جديد، تنفصم عراه إلى ما يقرب من أربع دول في حالة تنفيذ السيناريو الأسوأ. المصدر: الاسلام اليوم