في مطلع كل سنة سياسية يتوقف المراقبون عند ملامح المشهد العام في تونس ويستقرؤون أبرز المحاوِر المتوقّعة في الأشهر القادمة. وعشية استئناف المحادثات بين الحكومة التونسية والاتحاد الأوروبي، التي ستنطلق يوم 27 سبتمبر الجاري، بهدف تمكين تونس من مرتبة "الشريك المتقدّم"، تدور التساؤلات حول أهم الملفّات التي ستستأثر باهتمام الطّبقة السياسية والرّأي العام خلال سنة 2010 2011. في الواقع، لم يمرّ فصل الصيف بدون أحداث لافِتة للإنتِباه، فقد تمّ استثمار حالة الاسترخاء العام، نتيجة حرارة الطقس وهيْمنة شهر رمضان على الموسِم لإطلاق حملة نداءات طالَب أصحابها الرئيس بن علي بإعلان رغبته في الترشّح للإنتخابات الرئاسية، التي من المفترض أن تنظم في خريف عام 2014. كانت البداية مع ما سُمّي بعريضة 65، قبل أن تلحق بها عريضة الألف توقيع. وكان آخر هذه العرائض، نداءان. الأول، صادر عن كبير أحبار تونس حاييم بيتان بمناسبة حلول "يوم الغفران" الخاص بالديانة اليهودية. والبيان الثاني، أصدرته جمعية مديري الصحف والمسؤولين على المؤسسات الإعلامية، بما في ذلك الإذاعات والقنوات التلفزيونية، الخاصة والعمومية (عددهم 32 شخص)، وقد تضمن النِّداءان، كلٌّ على حِدة، مناشدة رئيس الدولة بالترشح لولاية رئاسية جديدة، إيمانا منهم بكونه "أفضل ضامن لاستقرار تونس". حملة مفاجئة هذه الحملة التي شارك فيها رجال الأعمال بكثافة عالية، فاجأت المراقبين وأثارت عديد التساؤلات في الشارع السياسي التونسي. فهي بدت سابقة لأوانها بفترة طويلة، حيث لا تزال تفصل التونسيين عن الاستحقاق الرئاسي القادم أربع سنوات ونيف، ولم يمضِ على انتخاب الرئيس بن علي لدورة خامسة، سوى بضعة أشهر فقط. لهذا السبب بالذات، تساءل الكثيرون: لماذا الآن؟ كذلك ثار جدل في تونس حول الأسماء الموقِّعة على هذه العرائض. بعضها، وإن كان عددهم قليلا، قد شدّ الانتباه وأثار فضول الكثيرين حول الأسباب والخلفيات التي تقِف وراء تواقيعهم، مثلما حصل مع توقيع السيد الطاهر بلخوجة، وزير الداخلية السابق في عهد الرئيس بورقيبة والذي سبق له أن اتّخذ موقفا نقديا من الأوضاع السياسية بالبلاد، لكن أغلبية الموقِّعين حتى الآن، لم تشكل هُوياتهم مفاجأة لدى أوساط المُسيّسين، بحُكم انتمائهم للسِّلك (الإطار) الإداري أو بحُكم قربهم من أجهزة الحُكم. مع ذلك، فإن الحملة قد دفعت الأمور نحْو خِيار التمديد، خصوصا وأن هذه الآلة التي انطلقت بعيدا نِسبيا عن مظلّة التجمع الدستوري الحاكم، لن تستطيع أية جهة أخرى ما عدا الرئيس بن علي إيقافها. تفاعلات محتملة بالنسبة للتفاعلات المحتملة التي قد تبرز خلال المرحلة القريبة القادمة، فهي لن تخرج عن السيناريو التالي: من المتوقّع أن تشهد الأسابيع القليلة الموالية دفْعا قويا لحملة التواقيع، بهدف خلْق مناخ عام، يبدو فيه عموم التونسيين مُهيَّئين لقبول فكرة التمديد الرئاسي. وستدعى الأحزاب والجمعيات، ذات العلاقة الإيجابية مع السلطة، لتحديد موقفها والمساهمة إيجابيا في تأييد الدّعوة إلى التمديد، وسيجنِّد التجمع الدستوري الديمقراطي كل طاقاته، ليستعيد المبادرة ويجعل منها شغله الشاغِل خلال المرحلة القادمة. ولا يُعرف إن كان الرئيس بن علي سيتعرّض لهذه المسألة في الخطاب، الذي يُلقيه عادة في مناسبة الذكرى السنوية للسابع من نوفمبر، أم أنه سيؤجِّل الأمر إلى محطة أخرى، لكن المؤكد، أن الذين يقفون وراء الحملة، يرغبون في دفعه نحو حسْم المسألة في أقرب وقت ممكن. وإذا ما حصل ذلك، يتِم الإنتقال إلى الجانب التشريعي بإعداد مُسودّة تعديل الدستور بحذف شرط السن الأقصى للترشح، قبل أن يبتّ في الأمر كلٌّ من مجلسيْ النواب والمستشارين، وعندها يُغلق الملف ويلقي الجميع بأسلحتهم ويتكيَّفون مع المعطيات الجديدة، في انتظار ما ستكشف عنه السنوات القادمة. في مقابل ذلك، سيكثف الرافضون للتّمديد من اعتراضاتهم على ذلك، في محاولة لخلق رأي عام مضادّ وسيستغلّون مختلف المنابِر الإعلامية، المحلية والخارجية، للقول بأن التمديد سيفتح الباب أمام رئاسة مدى الحياة. وفي هذا السياق، يقول أحمد إبراهيم، الأمين العام لحركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) المعترف بها والتي تتوفر على نائبين في مجلس النواب "كل شيء يجري، كأن دروس الماضي قد نُسيَت وكأن تونس لم تعرف في ماضٍ ليس ببعيد أزمات وهزّات ناتجة عن هذه العقلية بالذّات، التي أدّت إلى ارتِهان مستقبل البلاد وربط مصيرها بفرد واحد أوحد يُقرِّره مدى الحياة، دون مجال للمساءلة والمحاسبة". المعارضون للتمديد متعدّدون، لكن لا يُعرف إن كانت هذه القضية المشتركة، ستكون عاملا مشجّعا لدفعهم نحو البحث عن صيغة تُعيد التنسيق بينهم وتتجاوز الخلافات التي تشقّهم. ولعل الأسابيع القادمة، تشهد محاولات ومبادرات في هذا الاتِّجاه. والمؤكّد، أن هذه المسألة ستُهيمن بكل أبعادها على الأجواء العامة بالبلاد وستشكِّل مِحور فرزٍ لمُختلف العائلات السياسية، حيث سيكون من الصّعب على أيٍّ منها الاحتفاظ بموقِع الحياد تُجاهها. "الشريك المتقدم" المسألة الثانية، التي ستكون هي أيضا حاضِرة بقوة، تتعلّق بالمسعى الرسمي لحصول تونس على صفة "الشريك المتقدِّم" من طرف الإتحاد الأوروبي. وخلافا لما ورد في تصريحات البعض بأن الإتحاد "رفض" منح هذه الصفة لتونس، فإن يوم 27 سبتمبر الجاري سيشهد انطلاق جولة جديدة من المحادثات في بروكسل وستتبلور أكثر من السابق، الخطوات العملية التي سيتّفق حولها الطّرفان. وفي هذا السياق، انتقد كمال الجندوبي، رئيس الشبكة الأورو - متوسطية لحقوق الإنسان، الاتحاد الأوروبي واعتبر في تصريح له أن الإتحاد "لم يستنفد كل الوسائل التي لديه لضمان نشْر وحماية حقوق الإنسان في تونس"، داعيا بروكسل إلى "إثبات حزمه في إطار علاقاته بتونس في سياق المفاوضات الجارية بين الطرفين". ويدل ذلك على وجود عديد الحكومات الأوروبية، التي تعمل على منح تونس صِفة "الشريك المتقدّم"، بقطع النظر عن ملف الحريات، وهو ما يفسِّر حالة الإطمئنان، التي يتعامل بها الرسميون التونسيون مع هذا الملف، لكن ذلك لم يمنع انزعاج الجهات الأوروبية، بما في ذلك الصديقة للحكومة التونسية، من التعديل القانوني الخاص بما سُمّي بالأمن الاقتصادي والذي يعتقد مَن يطالبون بضرورة الربط بين تحسين أوضاع حقوق الإنسان وبين منح تونس صفة "الشريك المتقدم"، بأنهم هُم المستهدفون بذلك القانون. ولهذا، ينتظر المراقبون ما الذي سيكشف عنه المفاوِض التونسي بخصوص نوعِية الإجراءات التي ينوي اتخاذها في المجال السياسي، لإثبات حُسن النية ولكي يظهر تجاوبه مع رغبة الأوروبيين في تحسين – ولو جُزئي – لأوضاع الحريات وحقوق الإنسان في البلاد. ملف حقوق الإنسان يراوح مكانه الملف الثالث، هو ملف الجمعيات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية المستقلة الذي قد يشهد بعض التطوّرات. وفي مقدمة ذلك، ملف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، إذ لا جديد حتى الآن بعد أن توقّفت المحادثات بين الهيئة المديرة للرابطة وبين خصومها، والتي عقِبتها بيانات وتصريحات، تبادَل خلالها الطّرفان المتنازعان مسؤولية إجهاض تلك المحاولات، التي كادت أن تُسفر عن تسوية مقبولة، تسمح بعقد مؤتمر وِفاقي بينهما. وبقطع النظر عن الخلافات الجزئية، التي بقيت عالقة بين الطرفين، فإن العارفين بما يجري في الكواليس يتحدّثون عن وجود تجاذبات داخل السلطة نفسها، قد تكون ساعدت على إبقاء هذا الملف في حالة مراوحة. فهل يمكن أن تفتح المعطيات التي خلقتها مبادرة التمديد الرئاسي المجال لرفع ما تبقّى من عقبات صغيرة أمام إنجاز هذا الحل الوفاقي؟ سؤال لا يملك أحد الإجابة عنه في اللحظة الراهنة. الصحافة وحرية التعبير.. "الانقلاب على الشرعية" أما بالنسبة لنقابة الصحفيين، التي لا تزال تجر وراءها التّداعيات السّلبية التي خلفها مؤتمر 15أغسطس 2009، الذي رفض نتائجه قطاع واسع من الصحفيين ووصفوه ب "الإنقلاب على الشرعية"، فهو يشكِّل الملف الجمعياتي الثاني، الذي أضرّ بالمشهد العام طيلة المرحلة السابقة. المعلومات المتوفرة حاليا، تؤكِّد بأن الفريقيْن اتَّفقا على عقد مؤتمر توحيدي، سيلتئم على الأرجح في نهاية السنة الجارية، وإذا ما تمّ ذلك بشكل وفاقي وتشكلت لجنة مشتركة لترتيب مختلف مراحل إعداد المؤتمر وتمّ احترام قواعد التنافس الديمقراطي، فإن ذلك سيكون خُطوة هامة في اتِّجاه تصحيح المشهد الإعلامي التونسي، الذي لا يزال يشكو من الهامش المحدود لحرية التعبير. فمحاكمة الفاهم بوكدوس (الذي عمل مراسلا لقناة "الحوار التونسي" الخاصة وغطى الإضطرابات التي شهدتها منطقة المناجم في جنوب غرب البلاد عام 2008)، خلَّفت مزيدا من القلق في أوساط الصحافيين وزادت من إرباك المشهد الإعلامي، خاصة في ظلّ الحالة الصحية الهشّة لهذا السجين المُعتقل منذ شهر يوليو 2010 بأحد سجون الجنوبالتونسي. حراك مكثف في الأفق؟ هذه أبرز ملفات العودة السياسية في تونس. القاسم المشترك بينها، هو استمرار تدنّي حالة الحريات، دون ما تطالب به القوى السياسية، بما في ذلك الأحزاب المتعاونة مع الحكم. وما حدث لثلاثة منها في الأشهر القليلة الماضية، اعتبره المراقبون دليلا على ذلك ومؤشرا سلبيا. فعلى إثر مطالبة هذه الأحزاب (وهي حزب الوحدة الشعبية والإتحاد الديمقراطي الوحدوي والحزب الإجتماعي التحرري) في بيان مشترك ب "تحسين أوضاع الحريات"، وجدت نفسها مضطرة لكي تؤكّد، كل حزب بطريقته، أن البيان المذكور "غير مُلزم لها". مع ذلك، فإن السنة السياسية الجديدة، مرشحة لتشهد حِراكا مكثفا، نتيجة تفاعلات الملفّات المذكورة آنفا، إضافة إلى انعقاد مؤتمرات بعض الأحزاب، وفي مقدمتها مؤتمر الحزب الحاكم، الذي قد يشهد بعض المفاجآت، ومؤتمر حركة الديمقراطيين الإشتراكيين، الذي سيثير بدوره اهتمام المراقبين، نظرا للأهمية السياسية التي يُوليها الرئيس بن علي لهذه الحركة، ذات الرصيد الرّمزي الذي اكتسبته في مرحلة التأسيس (بداية السبعينيات) ومساهمتها في إيجاد حالة من التعددية الحزبية في تونس في موفى السبعينات وطيلة الثمانينات. المصدر: سويس أنفو