تزامن انطلاق حملة الإنتخابات البلدية في تونس بالاحتفال باليوم العالمي لحرية الإعلام، وهو ما دفع ببعض الأحزاب والفعاليات السياسية المشاركة في هذه الانتخابات إلى التركيز في خطابها على الصعوبات التي تواجه حرية التعبير في البلاد. في الوقت نفسه، أعلن الرئيس بن علي في رسالته السنوية التي وجهها إلى الإعلاميين، أنه سيعمل على "مزيد تكريس التعددية في المشهد الإعلامي ومواصلة دعم صحافة الرأي، لإثراء الحوار الوطني والتعددية الفكرية". كما تعهد ب "تطوير المنظومة التشريعية للإعلام الإلكتروني بما يواكب التحولات التي يشهدها العالم في هذا المجال". كل المؤشرات تدل على أن أطراف المعارضة التي قررت المشاركة في هذه الانتخابات التي ستجري يوم الأحد القادم 9 مايو، لن تظفر بأي بلدية من مجموع بلديات الجمهورية التونسية التي يبلغ عددها 262 بلدية، والتي سيكون جميع رؤسائها من أعضاء الحزب الحاكم. كل ما ستسفر عنه هذه الانتخابات، هو اتساع عدد المستشارين البلديين من غير المنتمين إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي" بالمجالس البلدية، دون أن تكون لهم القدرة على التأثير في سلطة القرار. أما الجديد الذي لفت انتباه المراقبين، فيتمثل في غضب بعض أعضاء الحزب الحاكم من التجمعيين وميل عدد منهم نحو مقاطعة الانتخابات، وربما العمل على إسقاط بعض مرشحي الحزب الحاكم الذين لم يحظَوا بالإجماع في جهاتهم، رغم أن مثل هذا الاحتمال لا يزال أمرا مستبعدا سياسيا. فتركيبة هذا الحزب قد اختلفت كثيرا عما كانت عليه من قبل. وبالرغم من أنه يحمل اسم "التجمع"، إلا أنه يتمتع بقدرة واسعة على ضبط أعضائه وأنصاره، حتى وإن اختلفت آراؤهم وتضاربت مصالحهم، وبالتالي، ما حصل في أواسط السبعينات من القرن الماضي عندما شق بعض الدستوريين عصا الطاعة وطالبوا بضرورة القيام بإصلاحات سياسية عندما انتبهوا إلى أن النظام قد أصيب بالتكلس، ليس واردا في السياق الحالي، أو هكذا يبدو. حملة باهتة ومشاركة ضعيفة أما من جهة المعارضة، فقد مثلت القائمات المستقلة الستة المتبقية - بعد أن أسقطت الإدارة ثمانية أخرى - التي شكلها التحالف القائم بين "حركة التجديد" (الحزب الشيوعي سابقا) و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" و"حزب العمل الوطني الديمقراطي" (غير معترف به) و"تيار الإصلاح والتنمية"، خطوة على طريق تطوير صيغ العمل المشترك، الذي تراجع كثيرا في صفوف المعارضة. بالرغم من أن الحملة الانتخابية قد انطلقت يوم الأحد 2 مايو، إلا أن عموم التونسيين يبدون وكأنهم غير معنيين بما يجري، وهو ما جعل البعض يتوقع بأن نسبة الإقبال على الاقتراع ستكون ضعيفة، وقد لا تتجاوز 45% في أفضل الاحتمالات. فالمواطن التونسي لا تغريه الانتخابات ولا يهمه شأن الأحزاب ويفتقر لدوافع قوية تجعله مقتنعا بأن له قدرة على تغيير السياسات. فقد تعوَّد منذ خمسين عاما على أن يتكيَّف مع ما تقرره السلطة، ثم يتعامل مع خطابها بسلبية شديدة، وذلك هو أسلوبه الأساسي في التعبير عن عدم رضاه. جد أم هزل أم ضحك كالبكاء؟ فيما يتعلق بالساحة الإعلامية، فإن المشهد العام لم يتغير كثيرا، باستثناء الحركية التي تشهدها صحيفة الصباح، وانفتاحها التدريجي على أقلام كانت محجوبة. لقد غادر توفيق بن بريك السجن وهو أكثر عنادا وإصرارا على مواصلة خصومته مع الرئيس بن علي. وبالرغم من أنه لم يعتبر نفسه من قبل "زعيما سياسيا "، إلا أن الأشهر التي قضاها في المعتقل، جعلته – خاصة يوم خروجه – أشبه ب "الزعيم" في ساحة تفتقر للزعماء، وهو يرد على عشرات المكالمات الهاتفية التي تهاطلت عليه من مختلف الفضائيات ووكالات الأنباء والصحف الفرنسية والأوروبية والأمريكية والعربية. ولا ندري إن كان الرجل جادا أم ساخرا. فقد بدا بن بريك وكأنه يخوض حملة من أجل الترشح للانتخابات الرئاسية التي ستجري خلال عام 2014 ووجّه رسالة إلى الرئيس ساركوزي، دعاه إلى "جلسة عمل لإطلاعه على أوضاع الحريات في تونس ومساعدته على إقناع الرئيس بن علي بفتح حوار"، وختم رسالته المثيرة بقوله "هذه آخر مرة يطرق فيها باب الإيليزي"، وإذا ما أخفقت محاولته، فإن وِجهته القادمة ستكون أمريكا، حيث قيل له بأن الرئيس أوباما لا يرى مانعا. كثيرون رأوا في ذلك نكتة، لكن سوء التقدير جعل الجد يختلط بالهزل. أما بالنسبة لنقابة الصحفيين التونسيين، فقد استمر الانقسام، خاصة بعد أن جدد اتحاد الصحفيين العرب انحيازها للقيادة الجديدة وحسم أمره في القيادة الشرعية واعترض على المنظمات الدولية، التي اتهمها بالإساءة إلى تونس والتدخل في شؤونها، وهو ما أثار ردود فعل واسعة من داخل تونس وخارجها، بلغت إلى حد اتهام المتحدِّثين باسم هذا الاتحاد بأن المواقف التي عبَّروا عنها أثناء مؤتمرهم الذي عُقد بتونس كانت "مدفوعة الثمن". وبقطع النظر عن ردود الفعل المختلفة، فإن المشهد الإعلامي التونسي لا يزال غير مقنع لكثير من الأطراف الدولية، بما في ذلك الرئيس أوباما، الذي أدرج تونس مؤخرا مع دول مثل "بورما والصين وكوبا وإريتريا وكوريا الشمالية"، التي اتهمها في البيان الصادر عن البيت الأبيض يوم 3 مايو الجاري ب "الاعتداء على حرية الصحافة". معضلة رابطة حقوق الإنسان الحدث الآخر الذي شد اهتمام المراقبين للساحة التونسية، فقد تمثل في المفاوضات التي انطلقت بين الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وبين عدد من الأعضاء (معظمهم من أبناء الحزب الحاكم) الذين سبق لهم أن لجؤوا إلى القضاء واستصدروا أحكاما لصالحهم، حالت دون عقد مؤتمر الرابطة طيلة العشر سنوات التي خلت. وبالرغم من أن هذه المفاوضات لم تُسفر حتى كتابة هذا المقال عن نتائج من شأنها أن تشيع التفاؤل، إلا أنها مع ذلك اكتسبت أهمية سياسية وجعلت البعض يتوقع بأن السلطة قد اقتنعت بضرورة معالجة هذا الملف، الذي طال وألحق ضررا فادحا بصورة تونس على الصعيد الدولي. ومما زاد من أهمية هذه الخطوة التي اتخذتها السلطة تجاه رابطة حقوق الإنسان، تزامنها مع تطور المحادثات الدائرة منذ فترة بين الحكومة التونسية وهياكل الاتحاد الأوروبي بهدف تمتيع تونس بموقع الشريك المتقدم. وقد تم الإعلان مؤخرا عن تقديم الطرف التونسي لتصوره لهذه الخطوة النوعية، والتي تفترض جملة من الالتزامات السياسية والاقتصادية مقابل عدد من الامتيازات الهامة، ويبدو أن هذا التصور قد استند في خطوطه العريضة على ما ورد في البيان الانتخابي للرئيس بن علي. في هذا السياق، تحركت مجموعة من المنظمات الحقوقية الدولية من خلال توجيه رسالة جماعية (29 أبريل 2010) في محاولة منها لدفع الاتحاد الأوروبي نحو ممارسة الضغط على الحكومة التونسية في مجال حقوق الإنسان والإصلاح السياسي، في حين أن الناطقين باسم الاتحاد يتجنبون الحديث عن وجود ضغوط أو شروط مفروضة على الطرف التونسي، ويفضلون وصف ما يعرضونه على شريكهم، هو مجرد "نصائح"، مثل إلحاحهم على فض مشكلة الرابطة وحلحلة أوضاع الصحافة والكف عن ملاحقة النشطاء. والمؤكّد، أن الاجتماع الذي سينعقد في لكسمبورغ يوم 11 مايو الجاري والذي سيشارك فيه وفد تونسي بقيادة وزير الخارجية كمال مرجان، سيكشف عن طبيعة نوايا الأوروبيين ويحدد الاتجاه الذي ستسير فيه مستقبلا العلاقات التونسية الأوروبية. مخاض داخل حركة النهضة في خِضمِّ هذه الأجواء العامة، لا يزال بعض المنتمين إلى حركة النهضة المحظورة يوجِّهون أسلحتهم الثقيلة ضد من كانوا يعتبرونه أحد مراجعهم الفكرية، لمجرد حصوله على جواز سفر من القنصلية التونسية بباريس وإعلان استعداده للعودة إلى بلاده، بعد حرمان دام أكثر من عشرين عاما. فبعد القيادي المعروف محمد النوري، الذي تعددت زياراته إلى تونس، ها هو الأستاذ الجامعي والباحث في الدراسات الإسلامية عبد المجيد النجار يتهيأ بدوره لينزل بمطار تونسقرطاج، دون أن يتم اعتقاله بتهمة الإنتماء إلى حركة النهضة المحظورة. وبدل أن يُعتبر ذلك مؤشرا على تطبيع تدريجي وخطوة متقدمة نحو تحقيق انفراج سياسي قد يكون أكثر أهمية، رأت فيه بعض كوادر الصف الأول من الحركة "مؤشر خيانة" وعلامة عدم انضباط، ومنهم من بلغت به الجُرأة إلى التشكيك في معتقداته، ناسفين بذلك تاريخهم المشترك مع رجل قاسمهم الأيام الصعبة. لكن مع ذلك، لم تكشف السلطة ما الذي تريده من هذه القرارات التي وإن اكتسبت طابعا فرديا، إلا أنها لا تخلو من بعد سياسي. فمثل هذه العودة لم تكن واردة مطلقا قبل بضع سنوات خلت. كما أن قيادة حركة النهضة من جهة أخرى، لا تريد أن تقر بأن فشلها في إدارة صراعها السياسي مع السلطة دون تحقيق مكاسب فعلية، هو الذي دفع بأفضل كوادرها إلى اللجوء إلى معالجة القضية بأسلوب مختلف. في الوقت نفسه، يُعتبر الجدل الدائر منذ أشهر داخل حركة النهضة وفي محيطها الأخطر في تاريخها قد يهدد وحدتها، إذا ما استمر بدون ضوابط وأهداف ولم يؤدّ إلى مراجعات عميقة وجدية. لكن المؤكد أيضا، أن عشرات التونسيين لا يزالون عالقين خارج البلاد منذ سنوات طويلة، نتيجة حِرمانهم من جوازات السفر، وهو ما دفع بعدد من الأحزاب السياسية إلى إصدار بيان مشترك يوم 5 مايو 2010 تبنَّت فيه قضية هؤلاء المهجَّرين واستنكرت فيه ما وصفته ب "محاولات مقايضة حق العودة بالإستقالة السياسية والإبتعاد عن الشأن العام والتعاون الأمني". هكذا يبدو المشهد السياسي التونسي منظورا إليه من زواياه المختلفة عشية الانتخابات البلدية.. تتحرك المرايا قليلا بهذا الإتجاه أو ذاك، لكن الجوهر لا يزال ثابتا بدون تغيير. المصدر: سويس أنفو