يسود الغموض الحالة السياسية في مصر هذه الأيام بشكل واضح ، لا أحد يعرف شيئا عن شيء بصورة محددة ، لا أحد يمتلك المعلومة الصحيحة ، لأنه لم يعد هناك مصدر للمعلومات أساسا يمكن التواصل معه ، وأحيانا نعرف عن شؤون الرئاسة أو مجلس الوزراء أو حتى الجيش من خلال الإعلام الأمريكي أو الأوربي وليس الإعلام المصري ، بل إن الملاحظة الأكثر حضورا الآن هي غياب غالب وجوه السلطة عن المشهد السياسي والإعلامي ، بعد أن كانت هناك هوجة ظهور أمام الفضائيات والصحف بعد 30 يونيو ، كان الرئيس المؤقت عدلي منصور يظهر ليقدم حديثا موجزا ومركزا للتليفزيون الرسمي في أي مناسبة ، يستشف منه الناس كيف تفكر الرئاسة المؤقتة ومدى ثقتها بالمستقبل ، اختفى عدلي منصور ولم نعد نراه إلا في النسخة الكوميدية التي قدمها باسم يوسف ، وكان الفريق السيسي يظهر على فترات ليتحدث أو ينقل التليفزيون لقاءاته مع بعض القطاعات العسكرية أو المناسبات يعطي سامعيه شعورا بالثقة والتحكم كما يبشرهم بمستقبل واعد "مصر قد الدنيا وها تبقى قد الدنيا" ، اختفى هو الآخر ، ولم نعد نسمعه أو نشاهده إلا في التسريبات التي تخرج من جهات مجهولة ، وكان زميلنا أحمد المسلماني المتحدث الإعلامي باسم الرئاسة يملأ السمع والبصر يوميا بل على مدار الساعة ما شاء الله تبارك الله لا تفتح صحيفة إلا وتجده ولا قناة تليفزيونية إلا وتسعدك طلته البهية ، حتى قيل يومها أنه الرئيس الفعلي للبلاد ، من كثرة مقابلاته واجتماعاته وزياراته وتصريحاته ، اختفى المسلماني أيضا وكأنه فص ملح وذاب ، وكان الرجل الشيك اللطيف ابن الجامعة الأمريكية مصطفى حجازي ، المستشار السياسي لرئيس الجمهورية ، يظهر كل أسبوع تقريبا ، ربما ليلاحق المسلماني الذي سد عليه منافذ الإعلام بغزارته ، وبعد أن أتحفنا هذا الليبرالي الحداثي المؤمن بالحريات وحقوق الإنسان بدفاعه عن القمع الأمني وقتل المتظاهرين وسحق الاحتجاجات بالدبابات وانتشائه برئحة الدم في الشوارع ، اختفى هو الآخر ولم نعد نراه ولا نسمع عنه شيئا ، وحتى الرجل المندهش دائما في طلته ، الدكتور حازم الببلاوي رئيس الوزراء ، كان يتكلم ويواجه الناس ويتحدث للصحافة والتليفزيون ، الآن لم نعد نسمعه ولا نشاهده ، اختفى هو الآخر ، وامتلأت الساحة الصحفية والفضائية بخبراء آخر زمن ، وكلهم بالمصادفة البحتة يتحدرون من مؤسسات الجيش والمخابرات ، لكي يحدثنا كل منهم عن أن الحكومة ستفعل كذا ، والجيش يفكر في كذا ، والدولة تخطط لكذا ، دون أن ندري باسم من يتحدثون ، ولا ما هي صفتهم ، وربما اعتبروا أنهم حصلوا على تفويض بالتبعية بعد تفويض الفريق السيسي لكي يفرضوا وصايتهم على الدولة والسلطة والحكومة والجيش والشعب معا . تشعر أن هناك ما يشبه حالة إحباط في جنبات السلطة الحالية ، كانت الحماسة قد أخذت الجميع بعد 30 يونيو ، يتكلمون كثيرا ، ينتشون كثيرا ، ويشوحون كثيرا ، ويتعجرفون كثيرا أيضا ، الآن هناك شيء مختلف ، الكل يهرب من المواجهة ، باستثناء الآلة الأمنية والعسكرية في الشوارع والحدود وغارات الأمن الوطني ، وهي أعمال لا يمكنها أن تحل إشكالا ، ولا أتصور أن أصحاب القرار الآن يدركون أنها ستحل شيئا ، ولكن ربما التفكير أنها توقف انهيار الوضع أكثر ، أو أنها تجمد الأوضاع فترة ريثما يتم التفكير في بدائل أو الوصول إلى حل سياسي حقيقي يوقف الانهيار في كل شيء ، في السياسة والاقتصاد والأمن والتعليم والطرق ، وتشعر بصدى هذا الجمود والارتباك حتى في الإعلام الموالي للسلطة الجديدة ، فهناك قلق متزايد وإحساس بالخوف من المجهول ، كثيرون يخافون أن تتراجع السلطة الحالية خطوة ، أو تتم مصالحة مع الإخوان وحلفائهم ، باعتبار أن هذا يمكن أن يربك كل حسابات الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ، ويعيد تهميش بعض القوى التي انتفخت بسرعة مؤخرا بأكبر من حجمها وقيمتها بكثير ، لذلك أحيانا تجد الإعلام الموالي أكثر تحريضا على العنف والقمع من السلطة ذاتها ، إنه إحساس من يجلس بجوار سائق للسيارة وهو غير واثق تماما من كفاءته للقيادة ، فتجده متوترا وفزعا طول الوقت ويتحسب لكارثة محتملة سيتحمل هو نتيجتها رغم أنه لا يملك قيادة العربة أو التحكم فيها . لعله خير ، هي ظنون ، وتأملات مراقب للمسار اليومي للأحداث ، والمؤكد أن في هذا البلد عقلاء يمكن أن يفكروا بمنطق السياسة والمصالح العليا للوطن وليس المصالح العليا للسلطة ولا الأجهزة ، والمأمول أن يسمع أصحاب القرار لهؤلاء العقلاء وليس للمهاويس والموتورين وديدان الفساد القديم .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1