لا يوجد فرعون على وجه الأرض بدون صناعة بشرية ،أي أن الفراعين لا توجد فجأة وبدون مقدمات،فإنتاج أي فرعون يحدث بأمرين،أمر من جهة الفرعون نفسه،وأمر من جهة من تفرعن عليهم،فالأمر المتعلق بالفرعون هو أن ينسى بشريته وبداية خلقه :" هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا"،وهذا الاستفهام (هل أتى) هو للتقرير: أي لقد أتى على الإنسان زمان لم يك شيئا ؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه : ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتأملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئاً من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة ، وسلطت عليه النور ، وجعلته شيئاً مذكوراً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً؟ وهذا تذكير لكل مغرور وكل فرعون نسي حقيقة نفسه أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال،ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى الإنسان حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان! هذه هي حقيقة الإنسان الذي كان نكرة في معرفة الوجود،ينسى بشريته بظلف من الغرور ليظن أنه بامتلاك جزاء من القوة والسلطان- وكل من عند الله- أنه أصبح هو الذي يتحكم في عطاءات الناس،بل وفي مسار حياتهم وحريتهم،حتى أعطى نفسه بعض صفات الله وقال:"أنا أحي وأميت"،بسبب جهله وبسبب ما تكنه الصدور والقلوب من آليات الفراعنة،ثم تخرج من مكنون النفوس ليعلن بها صراحة:"أنا ربكم الأعلى"،"ما علمت لكم من إله غيري". وهذا ينطبق على بعض الدول التي زرعت مفهوم العبودية عند الناس ،وأنه لابد أن يكون هناك سيد وعبد،ثم يخدعون الناس أنهم طلاب حرية وتقدم ،وأن تقدم الشعوب لابد أن يكون بالتبعية للأسياد في كل شيء حتى ولو رفلوا في أذيال الرذيلة والخزي والعار بل ولو دخلوا في جحر ضب!!هذا بالنسبة لصناعة الفراعين لأنفسهم،وهذه الصناعة لا تتأتى إلا في ظل من يرضى أن يكون عبدا للسادة ،والسادة يهيئون نفوس العبيد للعبودية!. أما عن صناعة البشر للفراعين فحدث ولا حرج فإن النفوس التي تربت على الاستعباد وعلى عشق الدنيا وحب الشهوات،لا تستطيع أن تعيش إلا في ظل فرعون يسومها سوء العذاب،إنها النفوس الوضيعة التي تحب دائما أن تكون عابدة للمأمور مهما كان وضع هذا المأمور،ومهما تعاظمت مطالبه،ومهما تجبر وظلم.. ولو سألنا التاريخ وسألنا كل فرعون عن طغيانه وجبروته لقال:" فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين". هذا هو التفسير الصحيح للتاريخ . . فاستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة . ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين! معللين لهم أنهم يريدون لهم الخير وطريق الرشاد" وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق ، ولا يمسكون بحبل الله ، ولا يزنون بميزان الإيمان . فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح .