الجاحد هو من أنعم عليه الخالق بنعمة العقل السليم مثل بقية بنى آدم الذى شرفه به دون سائر الخلائق ثم يكفر به ويقترف الشر ويحارب الحق.. وهنا يسأل سبحانه وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)ويطرح سؤالا آخر فى سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وهو سؤال استنكارى يعنى كيف يقع منكم الكفر مع وجود هذه الأدلة.. فقد أكرم المولى عز وجل بنى آدم بعقل قادر على التأمل والتفكر والتحليل والتمييز( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).. ثم نجده يعطل هذا العقل.. ويفسد تفكيره الفطرى مستعينا بشيطان الإنس والجن ليوسوس له ليبعده عن الفطرة السليمة. كما أقر الشيطان فى قول الله تعالى( قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15).. وإذا أمعن النظر فى ملكوت الخالق العظيم فسيكتشف أن العقل أعظم وأفضل ما وهب الله الإنسان وإذا استثمره بطريقة مثلى فى عبادة الخالق صار أكرم وأفضل من الملائكة.. ويقارن الخالق كيف كانت منزلة الإنسان فى الزمن البعيد قبل الخلق وبعده فى قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1).. ولكن عندما يكذّب الإنسان الأدلة الإلهية ويغيب عقله ويظن أنه صورة الإله على الأرض وبيده أن يُحيى هذا ويميت هذا.. وهنا أصابته الفتنة وجنون العقل وانجرف إلى الهاوية.. ولكن الطامة الكبرى أنه قد يصيب من حوله من نفس الميكروب من إنكار لعقولهم مثلما فعل قارون وعصبته وفرعون وأتباعه.. وإذا تأمل الإنسان ولو قليلا فى نعمة العقل وفضائلها سيرى أنها من أعظم النعم فى الوجود لأن بواسطتها استطاع الوصول إلى المعبود الواحد القهار وبالتالى رفعته هذه النعمة الغالية مكانا عليا بمعرفته الحقيقية الكامنة فى الكون وهنا يقول المولى عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) فقد شهدت الذات الإلهية لذاته وثبت بالحجة «خلق كل شىء».. ويأتى فى نفس النسق قول على بن أبى طالب رضى الله عنه: «أتزعم أنك جرم صغير ومنك انطوى العالم الأكبر»، ثم يؤكد الحديث القدسى نفس المعنى فى قول النبى ( صلى الله عليه وسلم ) عن رب العزة «ما وسعنى لا سمائى ولا أرضى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن». وإذا بحث المؤمن فى نفسه عن الحقيقة الكاملة للألوهية بأنه لا إله إلا الله ثم وجه النظر فى مخلوقاته من السماوات والأرض وما بينهما فتكون قد تحققت له الكرامة.. ويزيد رفعة كلما أخلص العبودية لله وبالتالى يتحرر من ذل وأسر عبادة فرعون أو أمير أو جماد أو أدنى من ذلك.. ولنا فى سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة عندما أعمل عقله وتحرك به فى الملكوت يمينا ويسارا من خلال تدبره وتأملاته وتنقل بالقياس والدلالات فى مخلوقات الخالق عز وجل استطاع الوصول إلى الحق وخالق الوجود.. وفى آيات أخرى فى كتابه العزيز يطرح الله الدلائل خطوة خطوة. ثم يقدم لنا النتيجة وذلك فى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) وبالعقل استطاع الإنسان أن يبتكر ويصنع السيارة والكمبيوتر والطائرة والقمر الصناعى وغيرها من الاختراعات التى قد يظنها الإنسان فى الماضى من المعجزات حتى ظن الإنسان أنه قادر على الأرض.. وعندما يطول به الظن ويغيب عقله عن خالق العقل وما وهبه من قدرات ثم أعطى المولى مثلا ليمتحن هذا الإنسان عندما يختل عقله فى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)ولهذا لا يجرؤ أحد منذ الخليقة أن يدعو لنفسه أنه الله وأنه لا إله إلا هو. وعندما يخدعه ذكائه ويوجه عقله إلى تقديس المال أو الأمير أو إنه ظل الإله على الأرض فقد ارتضى لنفسه الأسر والذل والمهانة وأن يتيه فى الأرض ومهما طال به الزمن فلن يصل إلى الخديعة التى ظن أنها الحقيقة الدائمة