مقال كتبه الأديب الكبير عباس محمود العقاد ( بمجلة الكتاب مج7 جمادى الآخر سنة 1368ه أبريل 1949م ) عن معنى الأديب !! * * * من هو الأديب ؟ للأستاذ عباس محمود العقاد كان جماعة من (( الأدباء )) يتحدثون عن وظيفة الأدب الاجتماعية ، فاختلفوا في الفرق بين وظيفة الأديب في المجتمعات القديمة ووظيفته في مجتمعاتنا العصرية ، فخطر لي أن أسألهم : ومن هو الأديب في المجتمعات القديمة ؟ إننا نتكلم عن الأدب في المجتمعات قديمها وحديثها كأن الأدب بمعناه الذي نعرفه اليوم قد كان معروفًا وهكذا بين جميع الأمم وفي جميع الأزمنة ، وهو ولاشك خطأ لا يصمد لأول سؤال . فأنت إذا نزلت اليوم ببلد من بلدان الحضارة وقلت لهم : دلوني على رجل من أدبائكم لم يجهلوا ما تريد ودَلُّوك على واحد ممن يصح أن يطلق عليهم وصف الأديب كما تعنيه . ولكن على من يدلك أهل الجاهلية مثلا إذا نزلت بينهم وقلت لهم: دلوني على واحد من أدبائكم ؟ إنهم لا يدلوك على الشاعر ، ولا على الرواية ، ولا على النسابة . ولا على الخطيب ، وإن كان العلم بالشعر والتاريخ والخطب مما يدخل في نطاق صناعة الأدب في الأزمنة الحديثة . ولو أنك سألت عن أديب في صدر الإسلام لفهموا أنك تقصد إنسانًا بريئًا من العنجهية البدوية واللوثة الأعرابية . وإني على ما فيّ من عنجهية * * * ولوثة أعرابيّتي لأديب وقد تتحدث إلى هذا الأديب الذي يدلونك عليه فيخوض معك في سمر شائق وطرائف شتى من أطايب الحديث ، ولكنه قد يرضيك من هذه الوجهة ولا يحسب في زمنه من أهل العلم ، ولا يحسب في الزمن الحديث من زمرة الأدباء . ولعلهم يدلونك على مثله في أنس محضره وظرف معشره لو أنك نزلت بمصر أو بقطر من أقطار العربية في أواخر القرن التاسع عشر ، وسألتهم أن يجمعوك بأديب من الأدباء . * * * أما معنى الأديب كما نفهمه اليوم فهو من المعاني المستحدثة التي تطورت فترة بعد فترة في العصور الأخيرة ، فكان الأوربيون يفهمون من مقابل هذه الكلمة Man of letters أنه رجل مطلع على الكتب دارس للعلوم ، لأن دراسة الكتب على اختلافها كانت هي الفارق بين العلماء والجهلاء . ثم شاعت الدراسة وتنوعت فعرفوا الفرق بين عشرات من الموضوعات التي يطلع عليها الدارسون ، ومنها الموضوع الذي خصص لمعنى الأدب بمدلوله المصطلح عليه في هذه الأيام ؟ أهو الشاعر ؟ أهو القصاص ؟ أهو ناقد الشعر ؟ أهو المطلع على سير الأدباء والقصاصين والنقاد ؟ إنك إذا قلت (( فلان شاعر )) فقد وصفته بغير حاجة إلى وصف الأدب بعد ذلك . وكذلك تصف (( القصاص )) سواء كتب القصة المطلولة أو النادرة القصيرة . فإذا قلت عن العارف بالشعراء والقصاص إنه أديب قيل لك : حسن ! ولكن ما الفرق بين مؤرخ الأدب وناقد الأدب وبين الأديب ؟ حينئذ يلوح لك أن دليلك القديم لم يكن على ضلال بعيد . ونعنى بالدليل القديم ذلك المرشد الذي كنت تسأله في العصور الأولى أن يرشدك إلى أديب فيذهب بك إلى رجل حسن الحديث . * * * فالأديب بكلمة واحدة هو (( المحدث )) في جميع العصور ، وقيمته في كل عصر تختلف باختلاف حديثه ومن يحدثه ومن يتطلب منه الحديث ، سواء كان حديثه مما تسمعه الآذان أم تعبره الأعين في صفحات الأوراق . وبهذه الصفة وحدها يمكن أن تميزه من الشاعر ومن القصصي ومن الناقد ومن مؤرخ الآداب . أيكون الأديب شاعرًا ؟ أيكون قصاصًا ؟ أيكون ناقدًا للشعر والقصة ؟ أيكون عالمًا مطلعًا على تاريخ هؤلاء وتواريخ غيرهم ممن يحفل بهم التاريخ . نعم ، ولكنه في هذه الحالة يكون شاعرًا وأديبًا ، أو قصاصًا وأدبيًا ، أو ناقدًا وأديبًا ، أو مؤرخًا وأديبًا ، . ولا يلزم حتما أن يكون واحدًا من هؤلاء ليقال إنه أديب . فهو محدث حسن الحديث أيا كان موضوع الحديث ، وأية كانت صفاته الأخرى التي تقترن بحسن الحديث . وبهذا المعنى كان أديب الزمن القديم محدثًا في مجلس الصحب أو محدثًا في مجلس الأمير . وبهذا المعنى أصبح أديب الزمن الحاضر محدثًا لقرائه ومستمعيه ، ولو لم يجمعه بهم مجلس أو مقام . ولم ننزل بوظيفة الأديب لأننا جعلناه (( محدثًا )) في العصور الأولى أو في هذه العصور . فإنما العبرة بما يقال وبمن يقال لهم في جميع الأحاديث . * * * فمن الناس من يحدّث ليعلم ويهذب ، ومنهم من يحدّث ليضرب للناس أمثال البطولة والشرف ، ومنهم من يحدث ليروح عن النفس ، ومن يحدّث ليكشف للنفس سريرتها ، ومن يحدث ليسلى ويلهى ، ومن يسلى ويلهى كرام الناس ، ومن يقصد بالتسلية واللهو غير هؤلاء الكرام . وكلهم على هذا المعنى أديب ، ولكن شتان شتان بين أديب وأديب . فلا ينزل الأدب لأنه حديث . وإنما ينزل الحديث إذا نزل موضوعه ومن يستمع إليه . وقد نزل الأدب في عصرنا هذا وصعد على جميع هذه الدرجات . فكان من أدباء العربية في أوائل القرن العشرين من يوصف بالأدب لأنه سمير مجلس ، ثم شهدنا من أدباء العربية في أيامنا هذه من يحدث قراءه جميعًا كما يشاء فيجد من يصغى إليه . وكل ما تغير من أمس واليوم أن الحديث كان بالأمس موقوفًا على سامع واحد أو سامعين قلائل فأصبح اليوم موجهًا إلى مئات وألوف ، لعلهم لا يجتمعون بالمتحدث في مكان . وربما صح أن شيئًا آخر قد تغير بهذا الصدد ، وهو أن الأدب – حيثما كان بضاعة تنتظر الجزاء – لم يكن ينتظر جزاءه فيما مضى من غير الآحاد القلائل ، وأن الأديب كان يدون أحاديثه في الورق ليقرأه كل من حصل عليه ، ولكنه لا ينتظر الجزاء الذي يغنيه في عيشه من هؤلاء القراء ، وإنما ينتظره من فرد يتصل به ويعول عليه . * * * أما اليوم فالأديب على نقيض ما كان بالأمس ينتظر هذا الجزاء ممن يوجه إليهم حديثه على يد المطبعة أو المذياع ، وهم مئات وألوف في وطنه وفي غير وطنه ، وفي زمنه وغير زمنه ، لا يلقاهم ولا يلقونه في أغلب الأحوال . وذلك هو باب الخير الكثير ... وذلك أيضًا هو باب الشر المستطير ... لأن استغناء الأديب عن هذا السيد أو ذاك قد فتح له باب الاستقلال في المعيشة والاستقلال بالرأي والاستقلال بالشعور . إلا أنه قد يغني عن هذا السيد أو ذاك ثم يتقيد بهذه الجماعة أو تلك ، واستعباد الجماعة شر من استعباد الآحاد . وليس من الحتم أن تستعبد الجماعة محدثها ، لأن الجماعة طوائف شتى من الناس ، ولن يحدث هذه الطوائف أن ينص الحديث لمن شاء منها ويضن به على غيره ، وأن يقنع بالمهذب الكريم من سامعيه ويطوى كشحه عن سواه ، فله ولا شك أن يختار وإن صعبت عليه الموازنة بين أسباب الاختيار . وهناك باب من أبواب الحرية يطرقه من يستطيع حين يشاء ، فيتحدث (( المحدث )) العصري وحده ، كأنما يتحدث لنفسه ... ويسمعه من يريدون أن يسمعوه ، وهو لا يأخذ نفسه بكلفة الجليس في محضر الأمير أو أشباه الأمير . وهو على كل حال (( محدث )) على نمط العصر وأسلوبه ، وخليفة للمحدث القديم على ما كان لعصره من نمط وأسلوب . وليس لوظيفة الأدب في اعتقادنا تعريف أصدق من هذا التعريف ، فإنه هو التعريف الوحيد الذي يزيل اللبس بينه وبين الشاعر والراوية والناقد والمؤرخ ، ولا يمنعه مع ذلك أن يأخذ بسهم أو سهوم من جميع هذه الفنون ، على اعتبار أنه مادة من مواد الحديث . فمن هو الأديب في كل عصر من العصور ؟ هو المحدث في كل مجتمع ، على اختلاف العصور . وتسأل مرة أخرى : هل الأدب إذن وظيفة اجتماعية ؟ فإن أردت أن الحديث يجرى بين متحدث ومستمع أو مستمعين فالأدب ولا شك وظيفة اجتماعية . ولكنك خليق أن لا تنسى بعد هذا أن الملكة الشخصية شرط لا معدي عنه في كل حديث كائنا ما كان قائله ومستمعوه ، فإن الناس جميعًا أعضاء في بنية جماعة ، ولا يحسن التحدث منهم إلا الآحاد المعدودون . كذلك لا تنس أن الأديب في مجتمع هذا العصر يستطيع أن يكلم نفسه ولا يحسب من المجانين بل من صفوة العقلاء ... أو يضمن المستمعين إليه كلما كان حديثه لنفسه جديرًا بالإصغاء . عباس محمود العقاد