إنهم يصنعون حدث الثورة ، إنهم ينتجون الفوضى ، إنهم يتحدثون أكثر مما يعملون ، إنهم يسعون في الأرض ضجيجاً ، عبارات يمكن توصيف تلاميذنا وطلابنا بها ، فهم بحق صنعوا حدث الثورة بغير قائد أو معلم أو موجه أو حتى زعيم روحي كالمهاتما يتغنون به أو يناشدونه وقت اللغط والجدال ، وهم بحق ينتجون الفوضى الممنهجة من حيث الضجيج والهتاف والصراخ وأحياناً العويل وهم يعلنون رفضهم بكل موروث وغضبهم من كل إرث سياسي أو ثقافي مطروح على ساحة المشهد الراهن . وبالضرورة هم يتحدثون كثيراً لأنهم مفتونون جد الافتتان بالظهور الإعلامي وكم كان التحول سريعاً من افتتانهم بالحضور الإليكتروني عبر وسائط التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر إلى الاجتذاب الحصري لشاشات الفضائيات وكاميرات التليفزيون . وقد يظن شباب مصر الثائر أن شيوخ السياسة وأقطابها يرفضونهم بل ويبغون انحسار وانكسار شوكتهم الحادة ، والأمر خلاف ذلك لأن أقطاب السياسيين المصريين خبروا المشهد طويلاً باختلاف حدته وسطوته وأنظمته وفطنوا أن الثورة لكي تحقق أهدافها وتستقر على أرض ثابتة لابد وأن تكتمل لها أشراطها ودلائلها وضوابطها الحاكمة ، وهذا ما تعانيه ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى الآن ليس هذا فحسب بل نتجاوز الحديث إلى ثورات الربيع العربي التي شارفت على شيخوخة مبكرة تعصف بأحلامها ومطامحها لا لفئويتها بل لأن المطالب الثورية معرفة والمعرفة تكوين وإذا أردت أن تبحث عن رصانة التكوين والنشأة فعليك الذهاب سريعاً إلى المدرسة والجامعة . ويقين الحقيقة التعليمية تبين وقت اشتعال ثورة يناير ، حينما خرجت الحشود من البيوت والنوادي ومن الشوارع إلى الشوارع والميادين ومن البيوت والعمارات والأبراج الشاهقة ولم تخرج من قاعات المحاضرات أو فصول المدرسة وهي الصفعة الأولى التي وجهها هؤلاء الملتحفين بغضب الثورة إلى الأنظمة التعليمية المتراكمة هماً وغماً وحزناً على صدور الطلاب . ولازلت أحدث طلابي بالجامعة وبعض أساتذتي الذين أعتقد أنهم لا يزالوا يفكرون أن الجامعة سقطت وقت أن خرج الثوار إلى الميادين من جلسات الغضب الإليكتروني وليس جلسات الطرح المعرفي والنقاش السياسي في قاعات المحاضرات ، وإذا استوقفت طالباً في المرحلة الثانوية آنذاك وسألته عن دور المدرسة في تكوينه السياسي والثوري لأخبرك أن المدرسة تشبه تمام الشبه مع كلمات أغنية عمرو دياب المسماة ب " تجربة وعدت " ، وفعلاً المدرسة والجامعة في نظر هؤلاء مجرد تجربة قد خلت من درس مستفاد أو خبرة مفيدة . ومصيبة المصائب أن القائمين على الأنظمة التعليمية الرسمية لا يزالوا يعانون خللاً في رؤية الأحداث وفساداً في تكوين رأي عن ما يقدمونه لأبنائنا الطلاب والتلاميذ في الجامعات والمدارس لأنهم يكرسون وقتهم وجهدهم الذي لا ينكره إلا جاحد أو حاقد أو ناقم في تكريس ثقافة يمكن توصيفها بأنها منتهية الصلاحية وأن المناهج الدراسية التي يتم حشوها طواعيى تارة وكراهية تارة أخرى في أذهان الطلاب وعقولهم بائدة وتتصل بالتاريخ أكثر من اتصالها بالمعاصرة. وكم من مفكر تربوي وإن ضنوا بأفكارهم وكم من أستاذ ماتع وهم بغير كثرة صاح في وجه الأنظمة التعليمية من أجل ثورة حقيقية ذهنية قبل ثورة الجسد في ميدان التحرير . لكن صيحاتهم كان مصيرها الصمت والتجاهل وربما قدراً من السخرية. واليوم ومصر تستفيق على ثورات متجددة لا يمكن قصرها على الخامس والعشرين من يناير أو الثلاثين من يونيو فحسب ، بل هناك ثورة مستدامة ومستمرة مادام المصريون يأملون في مستقبل أفضل وهذه الثورة البناءة التي لا تسعى إلى إسقاط النظام هذه المرة إنما بناء الوطن وتطويره ونهضته بصورة جادة بغير مشاريع وهمية أو مخططات تنظيرية غير قابلة للتطبيق في حاجة ضرورية إلى تحديد دقيق لملامحها. وأولى الملامح التعليم ، وما أدراك ما التعليم به ترتقي الأمم كما كان يحفظوننا أساتذتنا حينما كانوا يعلمون كالأنبياء ، والتعليم مهنة وليس حرفة كما صار اليوم بل كلما عاينت شوارع المحروسة اكتشفت الصناديق التجارية المسماة بالمراكز التعليمية التي تشبه المتاجر التي تبيع المأكولات والمشروبات وكأن المدرسة المصرية تصر على أنها تفقد خاصيتها التعليم بعدما خسرت تماماً معركة التربية منذ عقود الرئيس المخلوع حسني مبارك. وما أتعس حال المتحدثين عن التعليم فهم أشبه بمن يحرث في البحر وأمثل لمن يلاحق فراشة من أجل بقاء يسير طويل على الأرض . واليوم لننتقل سريعاً إلى تعليم نظنه مواكباً للحدث السياسي الراهن وللتدفق الثقافي والحراك المجتمعي الذي يسود مصر الآن ، وقد يستحيل السؤال أحياناً أكثر أهمية من الإجابة ، فهل يواكب التعليم أحداث مصر اليوم؟ الجميع يتفق بالإجابة بالنفي التام ، ولا تظنوا أن ندعي كذباً وزوراً وبهتاناً وربما إثماً عظيماً أننا في طريق الإصلاح التعليمي في ظل غياب احترام هيبة المؤسسات التعليمية من جانب الطلاب والمعلمين أنفسهم ، ولا أن نتفاخر بمنظومة تعليمية تنافسية وهناك مشكلات أخلاقية وتربوية تعصف بحياة أبنائنا الطلاب. وكم من حالة رصدتها الصحف والمجلات عن تهجم طالب على معلم أو بالعكس أو تطاول باللسان واليد والحذاء أحياناً كثيرة وصراعات غير إنسانية داخل مؤسسات منوط بها الارتقاء بالتربية والتعليم ناهيكم عن ما تتفجر به بعض المدارس الثانوية وجامعات مصرية بمأساة تعادل الجريمة وهي انتشار الملاحدة الجدد والتي يشير إليهم كل سبت الأستاذ الدكتور عمرو شريف في مقاله الأسبوعي بجريدة أخبار اليوم ، وهؤلاء الملاحدة الجدد فشل التعليم والتربية في إصلاحهم وتهذيب عقولهم وتنقية صدورهم من هلاوس المعرفة ووساوسها القذرة ، حيث إن اللادينيين قد اجتاحوا بشدة جامعاتنا وظهر جلياً الخلل الديني الذي يعاني منه بعض شبابنا بالجامعات والتي وقفت بدورها وكعادتها ساكنة لا تتحرك إزاء مشهد يعصف باستقرار وأمن المجتمع وسلامة معتقداته . وعودة إلى متعلم يذهب كل صباح إلى مؤسسة خرسانية صماء يمارس فيها النشاط بطريقة أشبه إلى ترديد المحفوظات والأناشيد وهو خالي الذهن من تجسيد المعنى غير ممتلك لكفايات القراءة التعبيرية التي قد تجعله خطيباً بارعاً أو أديباً نافعاً ، والمدرسة بدورها تساهم بشكل ملحوظ في تعميق الهوة بينه وبين الأنشطة وومارستها ولا تصدقن ما تشاهده من لافتات تكسو جدران المدارس الداخلية من نشاط للصحافة المدرسة وآخر للإذاعة وثالث للخطابة ورابع للثقافة العلمية لأنه وإن صح هذا وصدق لما رأينا حالات التخريب والتدمير التي تحدث في الشوارع على أيدي الصبية غير أولئك المنتسبين لنقابة أطفال الشوارع المصرية . وتظل عملية التعلم تشوبها عشرات المشكلات منها الموروثة ومنها المكتسبة المعاصرة بفضل ما أنتجته ثورة يناير من مظاهر سلبية مثل الاستئناس بالفوضى وانعدام قيم احترام الكبير ، لكن الأبرز من هذه المشكلات مشكلة المقرر الدراسي وما يترتب عليه من طرائق تدريسية مستخدمة. ولقد كدت وكاد آخرون غيري يمقتون كلمة تطوير المناهج وتعديلها وتقويمها وغير ذلك من المواضعات التربوية العقيمة التي يتغنى بها التربويون وإن كنت أنتمي إليهم إلا قليلاً ، لكن هناك ثمة هوس بعقول هؤلاء المطورين أو الذين يدعون تطوراً فيؤكدون أن مقرراتنا الدراسية وهم كالعادة يخلطون بين المنهج والمقرر من قبيل الجهل وليس التعميم لأننا لا نقول على السورة القرآنية مصحفاً على سبيل التعميم ، نالها التطوير والتحديث ورغم ذلك إذا أردت أن تتعرف على حجم هذا التطوير المعرفي فينبغي عليك أن تلمسه في المنتج النهائي للطلاب ، فتجدهم فارغين من المعرفة اللهم سوى تحصيل بضعة معلومات تسكب كرهاً في أوراق الإجابات النهائية فيما يسمى بالامتحان وهو اسم خطأ لما يتعارف عليه التربويون المحترمون باسم الاختبار. وليس مجال المقال الحديث عن أن مقررات اللغة العربية هي مقررات معلوماتية ومجموعة من الحقائق والآراء وليست معرفة لغوية ومهارات وأداءات يجب إكسابها للطلاب وهي أشبه في ذلك بمقررات التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية ورغم ذلك فأساتذتنا الأبرار على إصرارهم القديم وليس ضلالهم في قصر اللغة العربية على المعرفة المعلوماتية وليست اللغوية. ثم تأتي فاصلة القول في مشكلة التعليم المصري ألا وهي طرائق التدريس التي تشبه عادة في مدارسنا بغير استثناء أدوات وآليات وتكتيكات التعذيب بالسجون أو هي أقرب إلى وسائل العلاج النفسي للمرضى الذين يعانون خللاً بالعقل أو بالنفس . فتلقين مصاحب بالتخويف والترهيب ، وتقليدية في العرض وغلبة في السرد المطلق بغير مناقشة تجنباً لوجع وأرق الدماغ الذي بالضرورة قد توقف عن التفكير سوى الكلام واللغو ، وتنديد بخطورة تجاوز نص الموضوعات المقررة بالإضافة أو إبداء الرأي ، ونمطية في السؤال تخوفاً من الوقوع في الذلل أو اللغط أو جدال الزملاء من ذوي المهنة. وتتعدد تدريبات المعلمين وتكثر ورش العمل المهنية الخاصة بتوجيه القائمين على العملية التعلمية لاستخدام البروتوكولات المعاصرة والإنسانية في التدريس وتعقد المؤتمرات ويحضرها شيوخنا الأجلاء من علماء وأساطين التعليم ويظل أيضاً الأهم من وراء كل هذه الجهود هو المنتج النهائي التلميذ أعني ، وهذا الأخير تستوقفه لتستقرئ ما بعقله حتى ينتابك الذهول والذبول العقلي أيضاً فهل من مستجيب ينقذ التعليم في مصر وهل آن الوقت أن يصل قطار الثورة إلى محطة التعليم والتفكير ؟ .