آخر نكتة يتناقلها أهل غزة حاليًا تدور حول بلدياتنا الذي سافر إلى غزة لتقديم المساعدات الإنسانية، وعندما شاهد مظاهر الحضارة والنظام في كل مكان- بالرغم من انعدام الإمكانيات- دعا دعوته الشهيرة "اللهم ارزقنا حصارًا مثل حصار غزة". لعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند النطق باسم غزة، هو مشاهد الحصار والحروب والدمار، أو قد يتبادر إلى ذهن البعض نموذج الإمارة الإسلامية التي تحكمها حماس، ولكن أن تحصل على صورة مقربة جدًا من واقع الحياة اليومي في القطاع، وأن تشاهد الوجه الآخر الذي لا تعكسه عدسات التصوير، فهذا أمر يستحق التوقف عنده، والتأمل في طياته. "ماجد علي".. اسم لصديق عزيز، اضطرته ظروف الاحتلال والبحث عن الحياة الكريمة -كغيره من الآلاف- أن يترك مجبرًا أرضه وموطنه الأصلي في وسط مدينة غزة، وأن يسافر بحثًا عن لقمة عيش تكفل له الحياة الكريمة، ولكن لأن قلبه وعقله كان مع عائلته وأهله في القطاع، فقد كان حريصًا على زيارتهم بشكل مستمر، حتى جاء العام 2007 وتم إغلاق المعابر بشكل نهائي بعد سيطرة حماس على مقاليد الأمور في غزة، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن "ماجد" من العودة إلى دياره، حتى جاءت أحداث قافلة الحرية، وتم فتح المعابر، ليتخذ قراره بزيارة أهله في القطاع، مهما مثل ذلك من خطورة عليه. هو مواطن فلسطيني عادي لا ينتمي لأي تيار سياسي، ولذلك فقد كنت حريصًا أن أعقد معه اتفاقًا على نقل تفاصيل الحياة اليومية في غزة، وتسجيلها بالصوت والصورة أيًا كان واقعها، وهاأنذا أعود اليوم إليكم بمجموعة من الصور والمشاهدات التي قد تحمل بعض المفاجآت. المشهد الأول يمثل أهم القواسم المشتركة لكل أهل غزة وهو معبر رفح، فلا توجد عائلة غزاوية ليس لها علاقة بالمعبر، فإذا سمع أحدهم بموعد فتحه للمسافرين أو العائدين فإن الخبر ينتشر فورًا، وتنتقل البشرى السعيدة من بيت إلى آخر، والمؤكد أن كل من سافر عبر المعبر قد لمس الاختلاف الجذري على ضفتي القطاع ما بين مصر وفلسطين، فبينما تستشعر المهانة وعدم احترام آدميتك على الجانب المصري، نجد أن العكس تمامًا هو الحال على الجانب الفلسطيني من المعبر الذي تسيطر عليه حماس، فلا يمكنك أن تتصور المعاملة الراقية والمعاونة التي تجدها من كل ضباط المعابر هناك، وبالرغم من قلة عدد العاملين؛ إلا أن التفاني والإخلاص في العمل يبدو سمة مميزة لكل أفراد شرطة معابر حماس، ولعل أغرب المواقف التي يمكن أن تتعرض لها هو محاولتك تقديم أي "إكرامية" لمن عاونك في حمل أمتعتك بالمعبر، فحينها لن تجد منه سوى ابتسامة عريضة، ورفض مهذب لما تقدمه إليه، على اعتبار أن ذلك هو عمله الذي يتقاضى عليه أجرًا، بل والأغرب أنك ستجد رئيسه المباشر يهرع إليك فورًا ويتأكد أنك لم تقدم أية مبالغ مالية، فهم جميعًا يعملون على خدمتك وراحتك بقدر الإمكان. بمجرد عبورك للمعبر وفي المساحات الموازية لبوابة "صلاح الدين"، ستصاب بدهشة كبيرة نتيجة حجم وكمية الأنفاق المقامة في تلك المنطقة، وسوف ترى بوضوح الكمية الهائلة من الأتربة الناجمة عن الحفر، لا يمكنك إلا أن ترفع القبعة احترامًا لإرادة هؤلاء البشر في الحياة، وتغلبهم على الحصار المفروض عليهم بهذه الوسيلة البدائية، التي تم تطويرها لتمكن سكان القطاع من الحصول على أغلب متطلباتهم الحياتية، صحيح أنه قد أزهقت أرواح أكثر من 156 فلسطينيًا تحت الأنفاق حتى الآن، ولكن ذلك لن يمنع حفر نفق جديد كل يوم فهو يمثل شريان الحياة للقطاع، بالإضافة إلى أن الأنفاق تمثل مصدر دخل للكثيرين وتستوعب عدد كبير من العمالة، ففي كل واحد من الأنفاق التي تتجاوز 1200 يعمل ما لا يقل عن 50 عاملاً يوميًا، في الحفر أو تحميل البضائع على الجانبين، والمدهش أنه قد تم تقنين وضع الأنفاق، فهناك لجنة عليا للأنفاق تديرها بلدية رفح، وتتحصل على رسوم تصل إلى 10 آلاف شيكل سنويًا ( حوالي 16 ألف جنيه) عن كل نفق، علمًا بأن البلديات تتمتع باستقلالية مالية تامة بعيدًا عن حركة حماس وحكومتها. سوف تسمع الكثير من الشائعات والأخبار التي تتحدث عن وقف بناء الجدار الفولاذي على الحدود، لعدم جدواه في وقف التهريب، بعد أن أصبح كالخرق البالية من كثرة اختراقاته، ولكن المؤكد أن الأنفاق قد أصبحت جزءًا من واقع الحياة اليومي يصعب تجاهله، كما أن العمل في حفر الأنفاق، وتجارة البضائع المهربة منها، أصبح هو حديث الساعة، عدد كبير من الشباب ترك وظيفته واتجه للعمل في تلك التجارة، بل إن الكثيرين من أهل غزة يتهافتون حاليًا على توظيف أموالهم في الأنفاق، حتى ظهرت مؤخرًا العديد من حالات النصب تحت ذلك المسمى. "لدينا بنزين مصري" لافتة ستجدها في غالبية محطات الوقود في غزة، وهي تعبر بحق عن الحالة التي يعيشها القطاع بالرغم من الحصار، صحيح أن إسرائيل تمنع دخول آلاف المنتجات إلى القطاع، ولكن البضائع المختلفة لا تزال تتدفق عبر الأنفاق، وبفضلها تحتفظ اللحوم بسعر يقارب الخمسين جنيهًا ، أما البنزين والسولار فسعره يماثل نظيره في السوق المصرية،وعندما تتجول في شوارع غزة فستجد في كل منها محل خدمات تصليح المحمول وبيع بطاقات الرصيد، وعند نهاية الشارع محل بيع وصيانة أجهزة الكمبيوتر ومتطلباتها،.وعند المفترق ستجد مستودع أجهزة كهربائية، وجرات (أنابيب) غاز مستوردة عبر الأنفاق، وستلحظ آثار الطين على جدارها الخارجي، أما محل الفول والفلافل والحمص فيكاد يختفي خلف أطنان الفلفل بشتى أنواعه. أربعة أعوام من الحصار والحرب والمعاناة مرت على أهالي غزة، ولم تزدهم إلا إصرارًا وتحد ورغبة في الحياة، لقد ضرب الشعب الفلسطيني النموذج الأبرز في الثبات على المبادئ مهما تخاذل حوله المتخاذلون، ولكن ماذا عن الموقف الحالي لمجتمع غزة من حكومة حماس؟ وهل لا زالت تحظى بشعبية وسط الجماهير، بالرغم من كل ما ذاقه أهل القطاع من عقاب بسبب مساندتهم لها؟. هذا ما سوف نجيب عليه في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]