عندما نشرت الأهرام المصرية ما كتبه د. محمد أحمد خلف الله روايته في الستينيات عن ثلاثة من أنبياء الله إبراهيم ويعقوب واسحاق ووصفه كلا منهم ب"كاهن الأسرة" و"مستودع أسرار السماء" اعتمادا على لغة ومفردات أهل الكتاب، اشتبك كما بينت في مقال سابق العلامة الكبير محمود شاكر رحمه الله مع الصحيفة والكاتب خاصة وأن مفردات أهل الكتاب سيما النصارنية مثل "الصلب" والفداء" وما شابه باتت جزءا من أداب الحداثة العربي والذي لم يتورع الشعراء والأدباء العرب اليوم عن حشره في متون أعمالهم اتشاحا مزيفا ل"الحداثة" واستعلاء على التراث الأدبي الاسلامي ومفارقته بزعم "جموده" و"تخلفه".. حيث يدلف محمود شاكر رحمه الله إلى تفكيك مصطلح "الكاهن" تاريخيا و لغويا ، ليخلص من ذلك إلى أن الكاتب لجهله بسيرة يعقوب عليه السلام من جهة ، وبالمضمون اللغوي و المعرفي للمصطلح من جهة أخرى حشر كلمة "كاهن" حشرا في غير موضعها ، ففيما يتعلق بالتحليل التاريخي يقول شاكر: "ولفظ "الكاهن" عند القوم ، هو الذي ينحر الذبائح المفروضة في اليوم أو الأسبوع أو الشهر، ويتولى فوق ذلك ضروباً من الخدمة في محافل العبادة، كالعناية بالآنية القدسة والنار المقدسة، وحمل تابوت العهد، وسائر ما هم مكلفون به من فرائض. ولكن هذا النظام لم يكن له أصل قديم على عهد إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام، بل هو مما افترضه عليهم، فيما يقولون، موسى عليه السلام، كما جاء في الإصحاح التاسع والعشرين من سفر الخروج مفصلاً مشروحاً. فهذا شيء كان بعد أنبياء الله الثلاثة، بقرون متطاولة. وليس لهذه الوظيفة التي افترضت على سلالة هارون عليه السلام، مدخل في شأن النبوة والأنبياء". أما التفكيك اللغوي فيظهر جهل الكاتب بحقيقة المصطلح عند أهل الكتاب ، و بحقيقة اللفظ عند العرب فيقول: "والذي له شبهة تمس هذا المعنى ، هو اللفظ العربي: "الكاهن" وهو عند العرب ، الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، كشق وسطيح وغيرهما، وهو شبيه بالعراف والمنجم ، ولكن ليس للكاهن عند العرب صفة دينية ينسب إليها فهذا خلط سقيم جدا بين معنيين متباينين، لا يقوله إلا جاهل بحقيقة ما عليه ألفاظ القوم من الكتابيين ، وغافل عن حقيقة ألفاظ العرب التي تدور في كلامهم " ثم يلفت شاكر الكاتب المسلم إلى أن يكون بالغ الحساسية و الحذر عند التعاطي مع مفاهيم الكتابيين عن النبوة و الانبياء و الوحي ، و أن ينزل الانبياء منزلتهم التي ارتضاها الله لهم و اخبرنا بها في كتابه الكريم ، فيقول: "وأدع هذا الآن إلى ما جاء فيما نقلته آنفاً في شأن يعقوب عليه السلام وسيرته. وذلك ما ذكره الكاتب باختصار غريب عن سفر التكوين في الإصحاح الخامس والعشرين والسابع والعشرين، من ارتكابه شر الحيل في شراء "البكورية" من أخيه العيص "عيسو" ، وما تواطأ عليه هو وأمه من غش أبيه إسحق عليه السلام وخديعته، حتى سرق منه "البركة" التي كان حقها لأخيه العيص. ومثل هذه الأخبار شائعة عن الأنبياء في كتاب القوم ، بلا حرج منهم في ذكرها وإثباتها، ويلتمسون المخرج منها بضروب من الاحتجاج معروفة لمن يطلبها . ونحن المسلمين ننزه أنبياء الله عن ارتكاب الكبائر الموبقة، قبل النبوة وبعد النبوة، لأن الله هو الذي يصطفي من رسله من يشاء ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وما كان الله ليصطفيهم من شرار الخلق، بل من خيارهم وأكرمهم عليه وعلى الناس. ولا نرى أن نبياً يختاره الله للنبوة، كان يكون في ماضيه محتالاً ، ينال مطمحه بالغش والخديعة والتخابث على أبيه حتى ينال بركته. فإن فعل، فإن الله ليس له مكره حتى ينزل بركته على هذا الخبيث المحتال، دون أخيه الذي خدع عن حقه. فهذا كله قدح في النبي في ديننا ، وإكراه لله سبحانه وتعالى على ما ليس لأحد من خلقه أن يكرهه عليه بدعاء أو غيره" ثم يفصل شاكر المرجعية الاسلامية التي يحيلنا إليها لضبط مثل هذا التعاطي ، لا سيما احاديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن ، و استدعاء الشواهد المشابه و التي حدثت في صدر الدعوة ، ليختتم في النهاية خطورة هذا المنحى الذي اختطه خلف الله ، خاصة و أن الأجيال اللاحقة من الكتاب و الادباء العلمانيين لا زالت تحذو حذو الاخير و كما سيأتي بيانه فيما بعد .. يقول شاكر: "هذا فضلاً عن البيان الصادق ممن لا يسعنا خلافه، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده ، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فغضب وقال: أمُتَهَوِّكونَ فيه يا ابن الخطاب! (التهوك، التحيز حتى يسقط في هوة) والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شيء، فيخبرونكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه. والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني" ، وفي حديث عبد الله بن ثابت أنه قال : "والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين". وقد بين ذلك عبد الله بن عباس ، فيما رواه أبو عبد الله البخاري في صحيحه، في باب الشهادات إذ قال: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يُشَبْ، (أي لم يخلط بشيء مستحدث)، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً؟ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل إليكم". وصدق ابن عباس فيما قال في زمانه، ولا يزال صادقاً في زماننا!! ونعم، قد جاء الإذن ممن لا تسعنا مخالفته بالتحديث عن أهل الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم ، من حديث عبد الله بن عمرو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعهد منن النار"، رواه أبو عبد الله البخاري في صحيحه، في كتاب الأنبياء ، فرفع الله عنا بذلك الحرج في معرفة ما يقوله أهل الكتاب في قصص الأنبياء وغير قصص الأنبياء. ولكن هذا أمر له ميزان وضوابط، من ذلك ما قال الشافعي رضي الله عنه: "من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى : حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه. وأما ما تجوزونه ، فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم" . وضابط ذلك أن نعرض ما جاء في كتبهم على كتابنا، فما وافق كتابنا ، فهو حق ، وما خالفه نص أو خالفت معانيه ومراميه ما نعلمه من ديننا، فنحن نكل إليه أمره، وليس لنا أن نصدقه، وإن جاز من بعض الوجوه أن نذكره في كتبنا أو نرويه. ولكن لا بد من بيان ذلك للناس، حتى لا نتهوك في الحيرة والتناقض والبلبلة، فإن الأمر كله عندنا دين نحن مسئولون عنه يوم القيامة بين يدي رب العالمين. وكيف لا نسأل عن مثل هذه ، والله وصف هذه الأمة بصفة ملزمة، توجب عليها اليقظة في النظر، والتحري في العلم ومتابعة كل شيء من أمر الدين والدنيا بحذر وبصر وأمانة ، فقال سبحانه في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)، وكفى بشهادة الحق أمانة يحملها العدل المتحري للصدق. وللحديث بقية السبت المقبل إن شاء الله تعالى [email protected]