أصبحت الحالة الإسلامية بعمومها والسلفية خصوصا اليوم محط الأنظار لدورها الكبير والهام والذي برز إعلامياً بشكل لافت مع الربيع العربي، ومن هنا أصبحت السلفية موضع اهتمام وبحث وفي نفس الوقت موضع ذم وعداء، وذلك من طرفين متعارضين: القوى العلمانية والقوى الإسلامية، والتي ترى في السلفية منافساً خطيراً لم يكن مدرجاً في حساباتهم وخياراتهم. ويلمس كل متابع للدراسات والأبحاث حول الدعوة الإسلامية بعامة، والسلفية بخاصة، كم تحتوي هذه الدراسات على خلل في المعلومات وتسطيح بالتحليل واعتماد كلي على نماذج تفسيرية علمانية غربية لتفسير الظاهرة الإسلامية! مما ينتج معه مجازفات خطيرة في النتائج والتوقعات!! وسبب هذه الرؤية المشوهة للدعوة الإسلامية وللسلفية هو إخضاع الإسلام للتحليل بأدوات علمانية صرفة سواء كانت ليبرالية أو يسارية، تعتمد على سلوك الطبقات الاجتماعية أو النزعات الفردية، في تغييب كامل لحقيقة الإسلام وطبيعته المفارقة للأديان الأخرى السماوية والوضعية. الإسلام دينٌ كتابُه القرآن الكريم، وهو كتاب محفوظ بخلاف ما عداه من الأديان (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]، وهذا محل إجماع بين المسلمين وغيرهم، وحفظ الله عز وجل للقرآن لا يقتصر على حفظ نسخة مقروءة بل الأهم هو الحفظ الشفوي له من قبل ألاف المسلمين في كل عصر عبر التاريخ، فهو محفوظ كتابة ونطقاً، وليس هذا محصور بفئة محددة أو بلد معين أو عدد مخصوص، بل هو شرف يتنافس فيه كل المسلمين. وهذا الحفظ للقرآن الكريم عبر العصور ارتبط بكونه حيٌّ في حياة المسلمين من خلال التواصل اليومي معه بالصلاة والقراءة والاستماع، ولأنه ميسر للفهم والحفظ فإن البسطاء والأذكياء يفهمون غالب أوامره وأخباره ومواعظه مباشرة دون حاجة لوسطاء، وهو ما يفسر لنا ظاهرة التدين العامة في الأمة دون ارتباط بجماعة أو زعامة، بخلاف الأديان الأخرى التي تحصر فهم الدين على طبقة محددة، وبعضها يمنع قراءة الكتاب المقدس أصلاً. وقد قاد القرآن الكريم المسلمين لزعامة وقيادة العالم أكثر من 1300 سنة، فقدمنا للعالم الرحمة والعدل والعلم والسعادة، وللأسف أن علمائنا ومثقفينا قصروا كثيرا في بيان جوانب تفوقنا وحضارتنا، وعملت الماكنة العلمانية بكل فروعها الداخلية والخارجية على تشويه هذا التاريخ من جهة والتجهيل به من جهة حتى صدق البعض منا أننا أمة لا تاريخ لها ولا حضارة ولم تقدم النموذج الذي تتلهف البشرية للوصول لمشارفه. لقد حكم الإسلام أكثر بلاد الدنيا في تاريخه فهل نهب ثروات تلك البلاد أم نماها وأسعد أهلها بها ؟ متى عرفت أفريقيا الفقر والجهل أليس بفضل المكتشفين الأوروبيين ؟ وهل استعبدت تلك الشعوب إلا على يد هؤلاء المتنويرين ؟ نقصر كثيراً في تذكير ناشئتنا بمظاهر قوة الإسلام وأهله حتى وقت قريب، حتى صدّق البعض أننا أمة ضعيفة ولا قيمة لها، فمن يصدق أن الجنيه المصري كان يعادل 2.5 جنيه إسترليني قبل ثورة جمال عبد الناصر التي دمرت الاقتصاد المصري!! ولليوم أليست كثير من حضارة الغرب ومدنيته تعتمد على سرقة عقول أبنائنا المسلمين، وسرقة مواردنا، وعرقلة أي بادرة للقوة والتمكين. إذن القرآن الكريم هو الأساس الأول بروز الحالة الإسلامية والسلفية في عصرنا وفي كل عصر، وتجاوزه في تحليل الحالة الإسلامية يحكم على هذا التحليل بالسطحية والغثائية، ولذلك حين أدرك بعض المعادين للإسلام دور القرآن الكريم في نهضة الأمة وفشل المحاولات لصرف الأمة عن قرآنها، لجؤا إلى محاولة العبث بفهم القرآن الكريم من خلال محاولة فرض مناهج علمانية / حداثية لفهم القرآن الكريم لإنتاج مفاهيم قرآنية علمانية جديدة، في إعادة لتجربة الفلاسفة والمتكلمين والعرفانيين القديمة عبر التأويل لتحريف معاني القرآن الكريم، وسنخصص مقالات مستقبلاً لبيان العبث العلماني / الحداثي بمعاني القرآن الكريم. أما الأساس الثاني لانبعاث الحالة الإسلامية والسلفية فهو آلية التجديد التي امتن بها الله عز وجل على البشرية جمعاء بما بشرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود وصححه الألباني. الله عز وجل اختار للبشرية كلها الإسلام ديناً (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران: 19]، ولكن البشرية كانت مع الزمن وبسبب الجهل والهوى تنحرف عن الإسلام والتوحيد، فكان يرسل الله عز وجل لهم الرسل والأنبياء ليصحح لهم المسار، وقصة نوح عليه السلام مع قومه توضح ذلك، فأول ظهور لعبادة الأصنام كان في قوم نوح، إذ كان بعض الأبناء من حبه وبره لأبيه يصنع مثالًا له، ينظر كلما اشتاق إليه؛ وأصبح هذا فاشياً بينهم، وبعد مدة قال بعض الأبناء: ما اتخذ هذه آباؤنا إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها [فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/543]، وهذا الانحراف عن دعوة الرسل طبيعة للبشر وبسبب وسوسة الشيطان (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك) [الحشر:16]، لذلك كان الله عز وجل يتابع في الأمم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وحين ختم الأنبياء والرسل بالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام، انقطع مجئ الرسل والأنبياء، فكان البديل هو التجديد الذي يقوم به العلماء ورثة الأنبياء. وهذا العامل الذاتي في تجديد دين الأمة كل مائة عام هو العامل الأساسي الذي يغيب عن كل التحليلات العلمانية في تفسير الظاهرة الإسلامية المعاصرة، وهو النموذج التفسيري الصحيح لدورات الانبعاث الإسلامي عبر التاريخ كله. والتجديد هو إعادة الشيء لما كان عليه دون إضافة، وإلا صار تحديث أو تطوير، فنقل المناوي عن الفقيه الشافعي شمس الدين: "التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما" [فيض القدير 1/14]. ومن نماذج التجديد التي ذكرها العلماء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، والذي أحيا سيرة الخلفاء الراشدين في العدل والحق، والإمام الشافعي الذي أصل لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية في مواجهة الأفكار الوافدة على الإسلام مع الداخلين فيه من الأمم الأخرى، ولذلك عرف التاريخ الإسلامي حالات متكررة من التجديد / النهوض الإسلامي، بشكل دوري، وألفت فيه المؤلفات وسمي فيه المجددون ودرست تجاربهم، وكانت من نتائج تجديدهم تجدد قوة الإسلام وأهله وتجاوز المحن والهزائم كغزو التتار والمغول والصليبيين والمحتلين، وتوسع دائرة نشر الإسلام لليوم، وتمسك المسلمين بدينهم وعدم انقراضه كما حدث مع أديان أخرى. الخلاصة القرآن الكريم وظاهرة التجديد هما الباعثان الأساسيان للحالة الإسلامية والسلفية المعاصرة، وأما التفسيرات الطبقية كدور الطبقة الوسطي والاوضاع الإقتصادية وغيرها من العوامل، فهذه عوامل ثانوية ومساعدة وليست أساسية، ولفهم الحالة والظاهرة الإسلامية يجب تفهم طبيعة الإسلام نفسه وعدم حشره في قوالب تفسيرية جاهزة من خلفيات مادية صرفة، ويجب التعامل معه باعتباره الدين الحق والمهيمن على ما سواه، وأن موازينه هي الحق والتي يخضع لها ما سواه وليس العكس.