سادت العلاقات التركية العربية حالة من التأزم في أعقاب الحكومات الأتاتوركية العلمانية المتعاقبة الكارهة للعرب ولفترة قيادة تركيا للعالم العربي والإسلامي كدولة خلافة إلا أن الحضور التركي المتنامي في الفضاء العربي والمساعي لترميم التصدعات التي نتجت عن الجفاء بين العالم العربي وتركيا في حقبة سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 والذي بدأت معالمه تظهر في حرب غزه الأخيرة مرورا بالاحتقان في العلاقات التركية الإسرائلية نهاية بخطاب رجب طيب أردوغان بعد أحداث الاعتداء علي أسطول الحرية المتجه إلي قطاع غزه الذي وصف الاعتداء الإسرائلي بأنه عمل دنئ ومعلنا أن العلاقات مع إسرائيل لن تعود إلي سابق عهدها أبدا. يطرح كثير من المستجدات في واقع العلاقات التركية العربية ويشير إلي مخاض جديد في العلاقات الاستراتيجية مع العالم العربي الإسلامي يغاير علاقة الاحتضان في كنف دولة الخلافة وعلاقة الانفصام في أعقاب الحكوات العلمانية الأتاتوركية يمكن النظر إلي العودة تركيا إلي العالم العربي والإسلامي علي أنها محاولة لاستعادة الوعي الحضاري لمكانتها التاريخية يعيد لها الثقة بالنفس ويحفظ لها هويتها من أن تكون خيال ظل للنموذج الغربي في أعقاب اللحاق بركب الحداثة الغربية وعودة الوعي الحضاري والحفاظ علي الهوية كان هو مسار النهضة لمجتمعات مثل المجتمع الياباني في القرن التاسع عشرالذي أرسل البعثات التعلمية إلي أوربا إلا أنه أعلن أن من أهم مبادئ النهضة هو الحفاظ علي الهوية اليابناية والمجتمع الألماني الذي استفاد من الموروث البروتستناني في عصر الإصلاح الديني حتي أصبح هناك حديث عن علمانية ألمانية أطلق عليها العلمانية المؤمنة . وقد شهد تاريخ التأزم محاولات للقطيعة من الجانبين التركي والعربي فعلي الجانب التركي أعلن الكماليون الأتراك الإنسلاخ من الموروث الإسلامي والعربي بغية اللحاق بالحداثة الغربية الغربية باعتبار أن هذا الموروث الديني يمثل إعاقة معرفية للتحديث والنهضة وكان حزب الاتحاد والترقي في تركيا أن ذاك قد قاد محالة تتريك المجتمع التركي من أجل قومية تركية خالصة . واكب هذا محاولات عربية سارت في نفس مسار الانفصال فنشأ تيار عربي تأثر بفكرة القومية الغربية سعي إلي التحرر من السيادة التركية علي المجتمعات العربية في ظل نظام الخلافة معتبرا أن الخلافة العثمانية ما هي إلي لون من ألوان الاستعمار يصتبغ بصبغة دينية وهو ما يوجب مناهضته وتجسد هذا التيار في صور متعددة منها الثورية كالثورة العربية للشريف حسين بجانب اسهامات فكرية حاولت اثبات عدم مشروعية قيام الخلافة الإسلامية من الأساس مما يسوغ استقلال مصر عنها مثل مساهمة علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم ) وأحزاب سياسية علمانية مثل حزب الأمة الذي تبني أفكار المصري الليبرالي أحمد لطفي السيد والذي تحول فيما بعد إلي حزب الأحرار الدستوريين. وفي مسار مغاير نمي توجه أخر سعي لإصلاح الخلافة بدلا من الإنسلاخ عنها قاده بعض السياسين والمفكريين أمثال مصطفي كامل وجمال الدين الأفغاني الذي تقدم للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني بمشروع لإحياء الخلافة يتيح الخروج من أتون المركزية الذي أصاب جنبات الخلافة بالهون والتراجع العلمي إلي لامركزية تجمع الأقطار العربية والإسلامية وتتيح قدر من الاستقلال لها إلا أن الوقت والظروف التاريخية حالت دون نجاح هذه المحاولات . ومنطلق هذا أنه علي الرغم من مظاهر الضعف التي ضربت جنبات الخلافة العثمانية إلا أنها تظل الأمل في إحياء المجتمعات العربية وتحررها من الاستعمار وبالطبع كان للمكون الديني المتأثر بفكر أهل السنة والجماعة الأثر البالغ في تدعيم هذه الرؤية من حيث النظر إلي الخلافة علي أنها ضرورة واجبة في حق الأمة بأسرها . إلا التساؤل الذي يطرح ذاته حول طبيعة الحضور التركي الجديد وأبعاده الاستراتيجية هل هو رغبة في انتاج جديد لنفس الدور التي قامت به تركيا من قبل كدولة للخلافة أم أنه نزعة امبرالية تصاحب كل القوي االسياسية الصاعدة من أجل التمدد والهيمنة وفرض نفوذها حفاظا علي مصالها . المتتبع للدور التركي يرصد سعي تركيا إلي مشاركة الدول العربية من أجل التعاون البناء لا مغالبتها من أجل الهيمة عليها وهذه ينبع من سياسية العمق الاستراتيجي التي نظر لها وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو والتي تسعي إلي تصفير النزعات الإقليمية (أي عودتها إلي نقطة الصفر) انطلاقا من تشبيه تركيا علاقة أمن تركيا الداخلي بأمن دول الجوار بالعلاقة بين (البيوت الخشبية) المتلاصة والتي إذا نشب في احدها حريق انتقل بالطبع إلي البيوت الأخري يعمق هذا الدور التركي الأوصار التاريخية والثقافية التي تمجمع بين تركيا والدول العربية والإسلامية فلم تقنع السياسية التركية تجاه العالم العربي بالعلاقات الدبلوماسية التي تصاعدت في الأونه الأخيرة بل بدأت بخطوات واثقة من أجل تعميق الروابط الثقافية منها إطلاق القناة التركية الناطقة باللغة العربية بتوجيه من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردزغان وهي قناة بحسب ما جاء علي لسان المسئولين عنها لها مضمون ثقافي تهدف إلي التقارب والتعايش الفعال بين تركيا والعالم العربي وتعتبر كنافذة لكل من الجانبين للتعرف علي الأخر من الداخل ولا تحمل طابعا سياسيا يجعلها حبيسة توجهات أيدلوجية معينة هذا بجانب سلسة من المدارس التركية والجمعية والمؤسسات الخيرية يمولها رجال أعمال أتراك بتوجهات من الداعية الإسلامي (فتح الله كولن ) وهو ما يضعنا أمام سياسية زاوجت بين البراجماتية السياسية والعمق والانتماء الحضاري وهي معادلة تسعي تركيا إلي تدشينها من خلال شبكة من المصالح السياسية والاقتصادية بينها وبين الدول العربية يدعمها تواصل ثقافي وحضاري مرتكز علي الانتماء الحضاري المشترك وهي تشبه سياسية الاتحاد الأوروبي في تعميق الشراكة الأوروبية بالاستفادة من الموروث الثقافي والديني المشترك بين دول أوروبا حيث جاء في مشروع الدستور الأوروبي الدستور الأوروبي كلمات مثل الرب التراث المسيحي النادي المسيحي وهو ما جعل البعض يفسر التمنع الأوربي من انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي باعتباره نادي مسيحي وتركيا دولة مسلمة . وهي سياسية غير مألوفة في عاملنا العربي الذي ظل وعيه السياسي يدرو في فلك أيدلوجية صلبة ذات محدودية في الاختيارات وغالبا ما تمتلك إلا الخيار العسكري أو تبعيه لا تعبأ بمورثها الديني والحضاري وتقبل التوظيف لصالح مشروعات سياسية أخري أخيرا تظل المساعي التركية مرهونه بتقدم عربي في نفس المسار يسعي إلي استغلال هذه المساعي من أجل الخروج من حالة الاستقطاب الغربي الذي هيمن علي الواقع السياسي العربي وهو ما يعني انبعاث جديد له. باحث في الفكر السياسي