عندما تصبح ممارسة العنف مشروعة؛ يظل الجدل حول مفهوم الإرهاب محتدماً، فيكون للصراع المسلح ضد الدولة مؤيدون، يدافعون عن الإرهاب ويدعمون أنشطته. ورغم منطقية ممارسة العديد من السلوكيات الإجرامية والعنف "كالدفاع عن النفس والعرض والأرض"، إلا أنه من الخطورة بمكان التسليم بأن ممارسة الإجرام والتخريب هى أمر مشروع، ولعل شيوع هذه الفكرة وتأصلها بقوة فى مصر فى هذه الآونة؛ جعلني أفتش فى سجلات المافيا العالمية لأقدم للقارئ مفهومًا واضحًا عن الإرهاب. فالحقيقة أن مفهوم المافيا ليس واحداً فى كل المجتمعات، وليس بالضرورة أن تطلق كل جماعة مسلحة على نفسها "مافيا"، لتبرر للدولة شرعية قتالها أو مقاوماتها، وليس بالضرورة أيضًا أن تمارس المافيا الإجرام من أجل المال أو الأرض، فقد تمارسه بدعوى الدين أو الوصول إلى السلطة.. وليس بالضرورة كذلك أن تستخدم المافيا الإجرام لتحقيق أهداف خبيثة، فقد تستخدمه بدعوى تحقيق أهداف نبيلة، وليس بالضرورة أن تكون المافيا فى عداء مع الدولة، فقد تكون جزءًا من النظام الحاكم، أو هى من تمتلك السلطة وتصنع القرار السياسى من خلف ستار. فرغم خطورة المافيا على برامج التنمية بشكل عام، إلا أن هناك دولاً لا تستطيع فرض هيمنتها السياسية محليًا أو دولياً دون الاعتماد بشكل أساسي على المافيا؛ لذا فإنها تعمل بشكل مستمر على دعمها وتقويتها وتعدد فروعها فى مختلف الدول. ولعل الولاياتالمتحدةالأمريكية تعد النموذج المثالي فى صناعة المافيا العالمية بعد ضعف النموذج الإيطالي الذى تأسس فى صقلية عام 1282م، وانتقل بكامل خبراته إلى أمريكا فى بداية القرن 17م. ولم تكن مقاصد نشأة المافيا فى كل دول العالم دموية أو تخريبية، وإلا لكان أعضاؤها جميعًا مرضى نفسيين، وكنا استبدلنا المطاردات الأمنية والحلول الجنائية بعلاجات نفسية، وإن كنا فى حالات كثيرة نجد الحلول الجنائية غير فعالة فى مكافحة الإرهاب، ونشعر أننا بحاجة لعلاجات نفسية، إلا أن رجال القانون فى مجتمعاتنا العربية تحديدًا لا يعيرون اهتمامًا يذكر بالصحة النفسية للمجرمين.. وفى حين كانت بواكير المافيا فى صقلية تتويجًا لحركات التمرد والعصيان الذى ظهر بصقلية عقب قيام أحد الغزاة الفرنسيين بخطف فتاة ليلة زفافها. فقد نشأت المافيا فى إيطاليا كخلية سياسية لمجابهة العدوان الإسباني. ومن ثم فإذا كانت المافيا قد تشكلت فى صقلية دفاعًا عن الشرف وهو غرض نبيل. فقد تأسست فى إيطاليا لمحاربة الاستعمار، وهو غرض نبيل أيضًا، أما فى الدول العربية، فغالبًا ما لبست المافيا ثيابًا دينيًا وتشكلت كتنظيمات سرية بهدف تطبيق الشريعة أو تقويم الحاكم. وفى كل الحالات، فإن النشأة الأولى للمافيا فى العالم كانت فى صورة تنظيمات عسكرية مسلحة، تشكلت من البسطاء بقيادة متشددين سياسيًا أو دينيًا، وانحصرت مهمتها فى البداية فى توفير الحماية اجتماعية والأمنية للأهالي أثناء الحروب، أو ضد قُطَّاع الطرق والإقطاعيين فى وقت السلم، أو مكافحة الإفساد وتطبيق الشريعة كما فى النموذج العربي، وبنهاية هذه الأمور ومع توافر الأسلحة والذخيرة لدى هؤلاء المسلحين، سرعان ما تحولت هذه الجماعات إلى عصابات تفرض نفوذها على الحكومات، وتسيطر على صناعة القرار، وتحصل على مواردها، إما بطرق سلمية كالتبرعات والهبات واشتراكات الأعضاء أو بطرق غير سلمية كالسطو المسلح ونهب ممتلكات الآخرين بالقوة، ويُقبل البسطاء على عضوية هذه العصابات وتمويلها مقابل توفير الحماية لهم، أو الإنابة عنهم فى تحقيق أهدافهم السياسية أو الدينية. ومن ثم فإن قوة عصابات المافيا وزيادة نفوذها كان بفضل تعاون والتفاف كثير من الفئات السكانية البسيطة والمغيبين ثقافيًا وبعض السياسيين وصناع القرار؛ إما تخوفًا من جحيم معارضة هذه العصابات أو طمعًا فى مالهم وسخائهم، أو قناعة بأهدافهم المعلنة! والشاهد فى صناعة المافيا حسب الملفات الشرطية الأمريكية، أنها جهاز معقد التركيب يبدأ تكوينه بما يسمى "الأسرة أو العائلة" تلك التى تمثل نواة المافيا، وهى عبارة عن تنظيم عصابى تجمع أعضاءه رابطة الدم أو الزواج وأحيانًا الصداقة، ويكون القائد هو أقوى أفرادها وأجدرهم بالقيادة، ويتم اختياره بموافقة الأفراد، ويطلق عليه "بوس دون" أو "الأمير" أو "المرشد"!! وتقوم العلاقة بين الزعيم والأعضاء على السمع والطاعة، ويحكم أعضاءها أو الممولين لها تشريعات عدالة خاصة. وربما تزداد المافيا قوة لتصبح دولة داخل الدولة كما هو فى أمريكا مثلاً.. وتشير الدراسات إلى أن قوة الدولة ونفوذها يعنيان تدهور قدرة المافيا على العمل؛ ولهذا فإن هذه العصابات تعمل على هدم الدولة وتحكيم الكيانات الأمنية الرسمية كالجيش والشرطة؛ لتتحول من جماعات سرية تعمل فى الخفاء إلى كيان شرعي بديل للدولة الرسمية. وتزداد الأمور تعقيدًا فى حالة وصول هذه العصابات إلى قمة السلطة والتحكم فى مقاليد الحكم؛ إذ يصبح الإطاحة بها مبرراً شرعيًا لإعلان الحرب على المجتمع وممارسة كل الأنشطة الإجرامية ضده، وحينها ينقسم إلى شطرين، وتدور رحى الصراع السياسى العنيف.. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.