إذا كانت بعض الأقلام العربية قد سخرت من أردوغان ووصفته بالسلطان العثمانلي الجديد في محاولة ساذجة للضرب على وتر الخلافة العثمانية مستندة على الاساءات والأكاذيب التي وجهت لها في الماضي والتي لم يخل منها كتاب تاريخ يُعلم في المدارس أو مسلسل أو فيلم سينما، فهؤلاء ضلوا الطريق وتاهوا بأنفسهم في غياهب الجهل، فأردوغان وزملاؤه يفخرون مثلما يفخر كل مسلم ذي فهم وعقل وفطرة سليمة بأنه حفيد العثمانيين، ولوزير خارجيته أحمد داود أوغلو محاضرات عن العثمانية الجديدة التي تقوم على العودة إلى الجذور الإسلامية ولمس الكبرياء العثماني بالثقة في النفس والتصرف بقوة في السياسة الخارجية والاندماج مع العالم المحيط من شرق إسلامي وغرب أوروبي بدون تفريط في الثوابت والأصول. إذاً أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" يعودان إلى التاريخ الذي يعتقد بعض أبناء جلدتنا أنه سبة وهو ليس كذلك، فالخلافة العثمانية التي سقطت بتآمر عربي في الحرب العالمية الأولى حملت الإسلام إلى أصقاع الدنيا ونشرت نوره في أوروبا، لدرجة أن الصرب عندما كانوا يذبحون مسلمي البوسنة والهرسك كانوا يصفونهم بالأتراك، ونطقت مذابحهم بالحقد المرير على العثمانيين الذين بنوا المساجد وحملوا المصاحف وفتحوا البلاد للاسلام. السلطان الجديد – وهذا لقب يشرفه – قفز خلال سنوات حكمه من عام 2002 حتى 2010 إلى مرتبة عالمية متقدمة جدا في قوة إقتصادها وهو الذي كان إقتصادا منهارا عندما تولى حزبه السلطة، وصل حد إفلاس عدد كبير من المصارف، وسقوط الليرة إلى أدنى مستوى بعد تجاوز معدل التضخم 150% مصحوبا بالفساد والبلطجة والفوضى والدولة الفاشلة. لم يأت أردوغان بخبراء من الخارج ولا وصفات من دكاترة واشنطن أو لندن، ولم يخترع لجنة السياسات في حزبه ليعهد بها إلى ابنه أو إلى تاجر حديد، ولم يضيع وقته في زيارات لقرى الفقر ومشروع المئة أو حتى ألف قرى فقيرة، بل اعتمد على مجموعة من الشباب التركي المتعلم المجتهد النزيه أبرزهم الشاب علي باباجان الذي ولاه أردوغان وزارة الاقتصاد ليقود عملية انعاش تركيا، رغم أنه من مواليد 1967 وكان في الثالثة والثلاثين من عمره عندما كُلف بتلك المهمة، ولم يكن اسمه معروفا، ولم يتعلل أردوغان بأنه لا يوجد صف ثان أو كوادر مؤهلة ليدفع بابنه أو قريبه أو واحدا من ديناصورات المال والفساد. بل إنه في واقعة شهيرة لم يرض أن تخلع زوجته حجابها خضوعا لبروتوكول الدولة العلمانية الكمالية، مفضلا أن تغيب عن المشهد الرسمي ولا تغضب ربها. وعندما سئل: كيف يختار شابا مجهولا لعملية انعاش في حكم المستحيل، رد بأنه الرجل الأنسب، فهو يملك طاقة الشباب وحيويتهم ويجيد عدة لغات أجنبية وفوق كل ذلك يتقي الله، ويتحلى بأخلاق ممتازة وفيه جميع المواصفات التي طلبتها. بالطبع لم يطلب السلطان أردوغان شهادة من أمن الدولة بشأن سيرته منذ تخرج من جامعة أنقرة، ولو طلبها لغرقت تركيا في أسوأ أزمة إقتصادية تمر بها، مثلما نغرق نحن هذه الأيام في أزمة مرور القاهرة التي استلزمت تدخل الرئيس مبارك شخصيا دون أن أي أمل في النجاة منها. وحقق باباجان المستحيل بعينه.. جعل في سنوات قليلة بلاده في صف الدول المتقدمة إقتصاديا، استثمارات ضخمة ومصانع جديدة وأسواق تفتح لمنتجاتها، حقق انتعاشا كبيرا. في مواجهة باباجان وأردوغان كان هناك ضلعان آخران ينجحان سياسيا وداخليا، وهما عبدالله جول الذي كان وزيرا للخارجية ثم أصبح رئيسا للجمهورية، وداود أوغلو وزير الخارجية الحالي. هذا هو السلطان الذي يسخر منه العجزة والفاشلون العرب.. أما الخلافة العثمانية فسأعرض مقالا وصلني عنها من أحد المهتمين الباحثين، وكيف أنها حمت أهل مصر من أن يجبروا على اعتناق المسيحية وتصير أندلس أخرى.. ولا تفوتني الفرصة لأدعو الله بالرحمة للشيخ الفاضل صالح أوزجان الذي عرفني على هذا السلطان عندما لم يكن معروفا، وما زالت سجادة الصلاة بجانب مكتبه والمصحف الذي كان يضعه أمامه مطبوعان في الذاكرة. وإلى الغد... [email protected]