بعد أن انقشع غبار الموجة الثورية الجديدة التي شهدتها مصر في 30 يونيه، يكون من المهم والمفيد أن نتأمل الخريطة السياسية الجديدة في مصر، والتي نلخصها، بما يناسب ضيق المساحة، إلى ثلاث كتل أساسية، كتلة الإسلاميين وكانت جزءًا من الحراك الثوري أثناء ثورة يناير وما بعدها، قبل أن تتحوصل حول ذاتها وقضاياها الدينية المجردة، خاصة بعد السيطرة على مجلس الشعب المنحل، حيث كان نقطة تحول نحو عزلة للتيار الإسلامي عن التيار الوطني العام، وقاد الإخوان التيار الإسلامي إلى خصومات سياسية تراكمت وتزايدت بقوة بعد نجاح الدكتور مرسي في الانتخابات الرئاسية واستعجالهم للسيطرة على مفاصل الدولة، والتيار الثاني هو التيار المدني والذي يمثله طيف واسع من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وقد شهدت مصر، للمرة الأولى منذ منتصف القرن العشرين، ميلاد تيار ليبرالي قوي ويملك قدرة على الحشد الشعبي وتشكيل حضور جماهيري معقول، وللمرة الأولى يكون التيار الليبرالي أكثر حضورًا في مصر على مستوى الشارع ومستوى الفعل السياسي من التيار اليساري بكل تجلياته، ويمتلك التيار المدني الجديد قوة أخلاقية بوصفه مفجر أحداث ثورة يناير ومشعل شرارتها، وهي فرضية صحيحة بالفعل، غير أنه لم يحسن التعامل مع الحالة الإسلامية الجديدة وفشل في استيعابها، وخاض معارك بعضها ساذج مثل حربه المبكرة مع التيار السلفي والاصطياد له والتشنيع عليه، قبل أن يكتشف أنه أخطأ التقدير وخاض المعركة الخطأ، ثم وقع الصدام الكبير مع الإخوان بعد تولي الدكتور مرسي رئاسة الجمهورية وممارسة الجماعة لعملية إقصاء ممنهج للتيار المدني وتهميشه وعزله عن الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي أشعره بالخطر على مستقبل الثورة وعلى مستقبل الديمقراطية، خاصة وقد أدرك أن التيار الإسلامي أكثر قدرة على الحسم أمام صندوق الانتخابات، التيار الثالث هو ما يمكن وصفهم بفلول نظام مبارك، وهم بالأساس رجال أعمال نافذون لهم بعض النفوذ في المؤسسة الأمنية ومؤسسة العدالة، ولهم ظهير قوي من قطاعات البلطجة التي عززوا صلتهم بها منذ أيام مبارك، كما يمتلكون وهو الأهم أدوات إعلامية قوية ومؤثرة في عدة قنوات فضائية وصحف ينفق عليها بسخاء استثنائي وتدعمها قوى إقليمية ثرية، وهذه الكتلة تمثل في الحقيقة "ثورة مضادة" غير أنها لا تملك القدرة على الحشد الجماهيري الكبير لذلك يبقى رهانها الأساس والوحيد على المؤسسة العسكرية لاستعادة ميزان القوى الذي كان سائدًا في مراحل ما قبل ثورة يناير، وقد دعمت هذه الكتلة التيار المدني في معركته مع الإخوان كما دعمت بكل تأكيد دخول القوات المسلحة على خط المعركة من أجل إنهاء خطر الإخوان بوصفهم جناح الثورة الذي وصل للحكم بالفعل، فلما انتهت المعركة مع الإخوان أو أوشكت، كان من الطبيعي أن تبدأ بواكير معركة الفلول مع التيار المدني جناح الثورة الآخر من أجل تهميشه من المشهد الجديد وإقصائه حتى ينفرد الفلول بالتحالف مع المؤسسة العسكرية ويتم إعلان انتصار الثورة المضادة، ويعود النظام السياسي للحكم بكل منظومته الأمنية والاقتصادية الفاسدة إلى ما كان عليه قبل يناير، وهذا السيناريو يتوقف نجاحه على ردات فعل جناحي الثورة، التيار الإسلامي والتيار المدني، وحتى الآن يتمسك جزء من التيار الإسلامي ممثلًا في حزب النور بالشراكة السياسية الجديدة لخارطة المستقبل التي أعلنها الفريق السيسي، وبقدر ما يلحق به أجزاء أخرى من التيار الإسلامي بقدر ما يقطعون الطريق على الثورة المضادة بأجهزتها وأدواتها في تحقيق نصرها أو حتى انتزاع موقع قوي في المرحلة الجديدة، ولذلك هناك حرب شعواء يشنها الفلول وإعلامهم القوي هذه الأيام على حزب النور تحديدًا، لأن بقاءه في المشهد يهدد سيناريوهاتهم، ويعوق المشروع الجديد، وهم يبحثون عن إزاحته بأي سبيل، وأتمنى ألا يستجيب النور لأي استفزازات أيًا كانت درجتها تضطره للانسحاب، لأنه يمثل جدارًا هامًا جدًا للثورة كلها وللتيار الإسلامي معها، أيضًا يتوقف نجاح مشروع الثورة المضادة على سلوك التيار المدني ومدى تساميه على مرارات الماضي وقدرته على الانفتاح مع الشريك الإسلامي وسرعة إحياء الجبهة الوطنية العريضة التي انتصرت بها ثورة يناير، خاصة وأن الفلول بدأوا معركتهم مبكرًا جدًا مع التيار المدني، وهناك حملة إعلامية قاسية يتم التحضير لها، كما ستشهد المرحلة المقبلة تضييقًا على رموز التيار المدني في الصحف والفضائيات الممثلة للفلول والثورة المضادة، وإخلاء المجال لكتاب ورموز وخبراء أمنيين يعبرون عن تيار العسكرة والنظام القديم، كما سيكون على كلا الكتلتين، الإسلامية والمدنية، عبء بناء الثقة مع المؤسستين الدينيتين الأهم في مصر، الأزهر والكنيسة، لأن أخطاءً فادحة، خاصة من الإخوان وحلفائهم، أدت إلى نفور كلا المؤسستين من المسار الثوري الجديد، وأي خسارة لهاتين المؤسستين ستصب بالتأكيد لصالح تيار الثورة المضادة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.