خمسة أعوام فقط هي عمر تجربة "وهم التغيير" في دولة قرغيزستان الإسلامية ، خمسة أعوام فقط تفصل بين انطلاقة الحشد الجماهيري الثائر حاملاً كرمان بيك باكاييف "رمز التغيير الديموقراطي" إلى القصر الرئاسي وبين انتفاضة الجماهير ذاتها قاذفة به خارج القصر بل خارج البلاد كلها ... لكن الجماهير ماكانت في الحالتين صاحبة قرار وإنما كانت فقط اليد المنفذة لما يريده ويخطط له آخرون ، وهذا في حد ذاته ليس كارثة بل الكارثة الحقيقية هي في اعتقاد الشعب أنه صاحب القرار وأنه هو الذي قام بالتغيير ، فإن هذا الوهم كفيل – مع تكرار التجربة وتكرار الفشل – بإفقاده الثقة في قدرته على تحديد مصيره وبذلك يستسلم تماماً قانعاً بأن يُقاد كقطعان أغنام فاقدة القدرة على الاختيار. تقع دولة قرغيزستان – إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق – في موقع استراتيجي من آسيا الوسطى مكّن الغرب من إقامة قاعدة جوية ضخمة "ماناس" عُدت خلال السنوات الأخيرة المنطلق الرئيسي للطائرات العملاقة وللإمداد اللوجيستي في الحرب الأمريكية على أفغانستان ، لذا ظل بقاء الأوضاع داخل البلاد تحت السيطرة الغربية الكاملة مسألة حيوية بالنسبة للحرب العالمية على مايسمى بالإرهاب، وقد سارت الأمور كما شاءت أمريكا منذ إعلان استقلال قرغيزستان عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991 على يد الرئيس الأسبق عسكر آكاييف ، ولقد ساندت القوى الغربية نظام حكم آكاييف الاستبدادي الفاسد في مواجهة قوى المعارضة وذلك لما قام به من جهد كبير في سحق الحركة الإسلامية القرغيزية المتهمة بالتعاون مع حركة طالبان الأفغانية ومجاهدي الشيشان ، لذا بقى آكاييف مدعوماً من الأمريكيين رغم فساده وبطانته وديكتاتوريته الدموية التي أفقرت البلد وأحالته إلى جحيم للقوى الشعبية المعارضة ... غير أنه في عام 2001 شارك آكاييف في مؤتمر بشنغهاي ضم روسيا والصين وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة وتم فيه الاتفاق على إقامة تكتل ضد الهيمنة الأمريكية ومحاولتها الاستحواذ على الثروات البترولية للمنطقة بالإضافة إلى ضرورة التصدي لأخطار الدرع الصاروخي الأميركي وإعادة النظر في أوضاع قاعدة ماناس الجوية ، وهكذا بدأت الحرب الأميركية على آكاييف فتم إخراج ملفات الفساد المطوية طوال سنوات حكمه ونشرها على الشعب وبدأت خطوات "الدورة الأمريكية للتغيير" معتمدة على العملاء المنتشرين في كل مكان خاصة أجهزة الإعلام ومراكز البحوث ومنظمات حقوق الإنسان ، وهكذا ارتفعت بشكل مكثف وخلال سنوات معدودات نبرة الحديث عن انتهاكات نظام آكاييف لحقوق الإنسان القرغيزي ونشرت الصحف المستقلة المدعومة أمريكياً تفاصيل قضايا الفساد الكبرى المتورط فيها رموز النظام ، كما قامت منظمة فريدوم هاوس بتمويل من الملياردير الأمريكي اليهودي جورج سورس بتبني القيادات الشبابية المعارضة وتدريبهم وتمويلهم بسخاء باعتبارهم الوقود الرئيسي لحركة التغيير الديموقراطية القادمة ، ومن وسط الغمام – ومن خارج صفوف الحركة الوطنية – برز رجل محترم رزين هادئ النبرات قليل الكلمات والظهور اسمه كرمان باكاييف ... في عام 2005 كانت البلاد تموج بتيارات الإصلاح والتغيير واعتبر كرمان باكاييف هو الرمز المتجسد لأشواق التغيير حيث التفت حوله مجموعة من المؤيدين كونوا جمعية للتغيير وبدأو التحرك بمباركة أمريكية وبتمويل سورسي وبمؤتمرات تعقد في الولاياتالمتحدة وبتوقيعات تُجمع وبآمال تتسع دوائرها حتى تشمل الشارع القرغيزي بكل طوائفه ، وبين حين وآخر يطل كرمان بيك باكاييف بطلعته الخجول على جمهور متشوق برسائل قصيرة مطالباً بتعديلات دستورية وبدولة حرة تحترم حقوق الإنسان ويُقضى فيها على الفساد ونهب المال العام وتطبق فيها مبادئ العدالة الاجتماعية متزامنة مع تحرير وسائل الإعلام لكي يتمكن المواطن الحر من التعبير عن رأيه دون خوف من سجن أو اعتقال.... بات الوضع مهيأ تماماً لحركة تطيح بنظام آكاييف الديكتاتوري الفاسد ، حركة تبدو وكأنها نابعة من وسط الجماهير المتطلعة بكل شوق لتغيير ديموقراطي ، وكان قطب المغناطيس قد تمكن من جذب جميع العناصر الوطنية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار حتى سارت في ركابه أيضاً الحركة الإسلامية متشوقة لهدنة آمنة تلتقط فيها الأنفاس متغافلة – كعادتها – عن حقائق التاريخ ، أما أصوات أصحاب الوعي والضمير فقد ضاعت في ضوضاء المطالبة الصاخبة بالتغيير التي يضاعف ضجيجها البوق الإعلامي المدعوم أمريكياً ، وانطلقت الجماهير التي جعلت عقلها في آذانها تحارب وتتهم بالخيانة كل صوت معارض لحركة التغيير القادمة ... بعد فترة قصيرة من وصول كرمان بيك باكاييف إلى الحكم انكشف للشعب المخدوع أنه لايختلف في شئ عن سلفه وأنه لم يقدم لهم سوى مزيد من الوعود الكاذبة فقد واصل الفقر التهامه للطبقات الكادحة واستشرى الفساد وامتلأت المعتقلات عن آخرها بالمعارضين لنظام استهل عهده بتصفية جمعية التغيير التي مهدت الطريق وتمكين الأقارب والمحاسيب من السلطة والثروة والجاه ثم قام بتعديل الدستور لتمكين قبضته الرئاسية ، وبدأت أصوات المعارضة تعلو من جديد ويقمعها النظام في ظل صمت أمريكي عميق حتى كان الخطأ الكبير الذي ارتكبه باكاييف حين طلب من الأمريكان زيادة المقابل المالي لاستخدام قاعدة ماناس لكنهم رفضوا فما كان منه إلا أن أعلن عام 2009 إلغاء اتفاقية الاستخدام مقابل مبلغ مالي كبير وعدت به روسيا كان سيذهب بالطبع إليه وبطانته ، لقد كان هذا هو الخطأ الذي أدار "عجلة التغيير" من جديد .. وهكذا بدأ فتح ملفات الفساد السياسي والاقتصادي لباكاييف الذي كان قبل سنوات قليلة مضت رمزاً لأشواق الإصلاح والتغيير ، وهكذا دارت العجلة الأمريكية الجهنمية ناعقة بأبواق الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ... الخ ، وهكذا خرجت الجماهير الغاضبة – أو أُخرجت- مرة أخرى عام 2010 لتمارس لعبة التغيير الذي يرتدي ثوباً شعبياً بينما يعمل – فقط – لخدمة مصالح استعمارية تمتص دماء هذا الشعب في كل الأحوال وتمنح عملاءها السابقين طريقاً للخروج الآمن محملين بثروات الشعوب الفاقدة لوعيها الناعقة خلف كل داعية ، ومن وسط الغمام ومن خارج صفوف الحركة الوطنية أيضاً يبرز اليوم رجل محترم رزين اسمه عمر بيك تيكيبايف صرح أخيراً بضرورة تمديد اتفاقية استخدام قاعدة ماناس الجوية ! آكاييف .. باكاييف .. تيكيبايف ، ألف باء تاء ... ليتنا نتعلم القراءة فنفهم دروس الواقع والتاريخ وندرك الحكمة القائلة بأنه كما أن الحدأة لاتلقي بالكتاكيت فإن الأمريكان لايدعمون إلا تغييراً يأتي لمصلحتهم التي هي مناقضة بالضرورة لمصالح الشعوب التي تحلم بالحرية .