تعجبت كثيرًا من البيانات التى تصدر بصيغة الجمع و" الاحتكار" وتنشرها الصحف والمواقع الإلكترونية الإعلامية كما هى، لتقول كتاب مصر ومثقفوها يفوضون السيسى فالثقافة تحديدًا لا تعرف الإجماع أو احتكار الرأى، والسير كالسرب وبالأدق كالقطيع، ولكن تعرف بالتباين فى الآراء حسب الاجتهاد الذى يميز المثقف عن غيره - وغنى عن البيان أن هذا لا يعنى إقرار المثل الشائع: خالف تعرف، فصيغة الإجماع لمن أطلقوا على أنفسهم "المثقفون" لم نعهدها سوى فى عهد "الحظيرة"، حيث كان يطلق هذا الوصف على المنتفعين من الوزير ووزارته فى عهد فاروق حسنى، وهذا التوصيف كان لضمان احتكار توزيع جوائز الدولة بقيمتها المليونية عليهم دون غيرهم، بينما كان يبتعد الشرفاء عن هذا التكالب طوعًا مثل رفض الأديب الكبير صنع إبراهيم تسلم الجائزة، أو كرها مثل عشرات ممن يستحقونها عن جدارة وتم استبعادهم، ولكن إذا كان هؤلاء يرون أنهم كل مثقفى مصر، فعلى الأقل يجب على الصحفيين الذين يكتبون عنهم الالتزام بالمعايير المهنية بل والعقلية والمنطقية بعدم الجمع، خاصة أن أعداد كبيرة من المثقفين من الاتجاهات الفكرية والسياسية والحزبية كافة - ومن بينهم صحفيون- أعلنوا بوضوح وصفهم لما حدث بالانقلاب وأن ما حدث هو إهدار لثورة يناير وأهدافها وأهمها الديمقراطية، وأنهم لا يفوضون العسكر، ولا يعنى هذا بحال تأييدهم لحكم الإخوان، أما عن المغالطة الثانية فتأتى برفع صور السيسى بجانب صور عبد الناصر، مع ترويج تصريحات بوجود تشابه بينهما، وهو أمر به - على الأقل - كل الظلم للزعيم عبد الناصر فبداية عبد الناصر لم يكن قائدًا عسكريًا عاش حياته بمعزل عن المدنيين أو كما يقولون فى الرمال الصفراء، بل كانت طبيعة الأحداث فى عصره جعلت منه أقرب للزعيم المدنى، فقبل التحاقه بالكلية الحربية تتلمذ سياسيًا فى جماعة مصر الفتاة وتأثر بها ، وقبل وأثناء خدمته العسكرية تعرف عن قرب على الأطياف السياسية المختلفة وفكرها ورجالها، ومن يقرأ مذكرات المحامى الوفدى إبراهيم طلعت يعرف مدى معرفة وعلاقة عبد الناصر بالوفديين خاصة جريدة المصرى وأصحابها أسرة أبو الفتح، كما أنه تعرف على الإخوان وفكرهم والتقى بأقطابهم، ومعروف أنه عايش اليساريين بدرجاتهم كافة من الاشتراكيين حتى الشيوعيين، وكان محبًا للثقافة والاطلاع والصحافة والفن، ولعل هذا كله سهل له "بلورة" أفكار عديدة سواء اتفق البعض معها أو اختلف عليها، بينما السيسى لم يتح له خوض مثل هذه التجارب، ولم تتوافر له مثل هذه العلاقات والاتجاهات السياسية المتباينة، وكل من اجتمع معهم فى الفترة الأخيرة كان على عجل، وبمناسبة الأحداث الجارية، وربما لا يعرف وجوه بعضهم بدقة. والرئيس عبد الناصر كان قائدًا لثورة ضد مستعمر أجنبى وضد فساد الملك وهو أمر غير موجود الآن، وفى زمن عبد الناصر لم تكن إسرائيل هى العدو الأول فحسب، بل كانت فلسطين هى أهم المعارك التى من أجلها يحارب العدو الصهيونى، وعلى أرضها خاض أهم المعارك، ونعتقد أنه لو كان يعيش بيننا لانفجر تعجبًا من أن يصير الاتصال بفصيل فلسطينى يستحق تهمة التخابر أى ما يقترب من التجسس حتى لو كان المتصل من الإخوان الذى عاداهم، وأن السادات الذى انفرد بالاتصال ببيجن وكل قيادات العدو بل وقرر منفردًا الذهاب إلى الكنيست لم يفكر أحد فى توجيه مثل هذا الاتهام له كما لم يوجه لمن يلتقون أو يتصلون بالصهاينة حتى اليوم! وفى زمن عبد الناصر عندما قرر تشكيل أول وزارة استعان بعدد من الإخوان ومنهم الباقورى وعبد العزيز كامل ونور الدين طراف، بينما ما جرى مؤخرًا ليس لفظ وتشويه كل إخوانى، وغلق الباب تمامًا أمام كل ما هو إسلام سياسى، بل الأغرب المجيء بوزارة إنقاذ دون المستوى "هلاهيل" وتم اختيار بعضهم من باب "العناد" والمكيدة فى الإخوان أننا قد نختلف على الإخوان ونقول إنهم فشلوا فى إدارة الدولة وتسببوا فى مشكلات جسيمة - مع ملاحظة بذل مساعٍ تعمل على المزيد من إفشالهم وتشويههم -، ونقول إن آخر قراراتهم الحكومية المتمثلة فى تغيير المحافظين كانت كارثة بل وأضحوكة. وقد نختلف كثيرًا على سياسة وإدارة مرسى ورجاله، وأنهم بلا خبرة لإدارة دولة، وثبت أن خبرتهم لا تتعدى إدارة التنظيم، وهو تنظيم فى أدبياته لا يعترف بالشورى وبالتالى لا يستمع للآخر أو يستفيد من خبراته، ولديه كثير من الاستعلاء والجمود، ولكن ما يجرى الآن أكبر من عودة مرسى أو حكم الإخوان، مع ملاحظة أن هناك معتصمين لا ينتمون للإخوان بل ويؤيدون تنظيمهم وجماعتهم، ويرون أن ما حدث انقلاب على الديمقراطية إهدار لأهم مكاسب ثورة يناير، وأن من "حضر العفريت" كان يمكن أن يصرفه منذ البداية بطرق متحضرة مثل أنه إذا كان يملك كل هذه الملايين فليجرى انتخابات البرلمان وعن طريقه يتحكم فى التشريعات ويشكل الوزارة وينتقل بالفعل إلى دولة المؤسسات، بل ويمكنه من خلال الأغلبية تعديل الدستور وإبعاد الرئيس من منصبه أن الأمر فى حقيقته وصل إلى مرحلة دماء مصرية تراق لم يسبق لها مثيل بهذا العدد سواء فى وقت عبد الناصر فى أشد أزماته مع الإخوان، ولا وقت مبارك فى خلافته مع كل الأطياف السياسية، وإذا كان هناك مثقفون بحق فليسهموا بطرح أفكار تعلو بشأن الوطن وإنقاذه، وحلول والعمل على تنفيذها دون استخفاف أو تحقير ممن يختلفوا معهم، وإيقاف إراقة هذه الدماء الزكية. وهذه الحلول بطبيعتها يجب أن يكون مصدرها المثقفون والساسة الوطنيون والمخلصون لهذا الوطن دون أحقاد أو مآرب، ولا يكون مصدرها السيسى أو العسكر، وأنه إذا كان من الخطر خلط الدين بالسياسة، فإنه من الخطر أيضًا ربط السياسة بالعسكر.