في مقال سابق لنا أكدنا على حقيقة موضوعية، وهي أنه بالرغم من المظاهرات العارمة التي شهدتها مصر يوم 30 يونيه مطالبة بعزل مرسي، فإنه لم يكن ينبغي للمجلس العسكري أن يعزله بهذا الشكل المهين له وللملايين من المؤيدين له، وقلنا إنه كان بالإمكان ممارسة المزيد من الضغوط عليه لإقناعه بالدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة لتأكيد شرعيته، وهو إجراء يلجأ إليه الكثير من رؤساء الحكومات في الدول المتحضرة طواعية، عندما يستشعرون تدني شعبيتهم وتزايد المعارضة لهم، والأهم من هذا أن التفويض الجديد كان سيمنح مرسي صلاحيات أكبر لاتخاذ قرارات حاسمة للنهوض بالاقتصاد وإصلاح الأحوال المعيشية للمصريين، وهو المطلب الأساسي للملايين في ثورتي 25 يناير و30 يونيه. ولكن كالعادة ارتكب العسكري خطأَ جسيمًا باستخدام الجيش كأداة لخلع رئيس منتخب، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه في المستقبل لتدخل الجيش في الشئون المدنية للدولة وخلع أي رئيس لا يروق لهم استجابة لضغوط أي معارضين له. وبما أن للإخوان الملايين من المؤيدين فسيكون بمقدورهم السير على هذا الدرب مستقبلاً وخلع أي رئيس لا يروق لهم بالتعاون مع الجيش، كما فعلت جبهة الإنقاذ والفلول في خطة عزل مرسي. وعلى ما يبدو، فإن العسكري استعجل الأمر حتى يستمتع بمسلسلات رمضان دون عكننة من الإخوان، وتصور أنه بعزل الرئيس واعتقال بعض قيادات الإخوان وغلق محطاتهم التليفزيونية سوف يقضي عليهم ويستأصل شأفتهم من السياسة المصرية نهائياً، ولكنه في هذا ارتكب خطأً جسيماً لأن ما قام به من إجراءات بوليسية - واضح أنها من تصميم رجال أمن مبارك وتلاميذ عمر سليمان - لم تؤدِ إلا إلى المزيد من التأييد والتعاطف مع الإخوان، ليس على المستوى المحلي فقط، ولكن على المستوى الدولي أيضاً. ولو أن العسكري محترف في السياسة لترك مرسي للشارع كي يقرر مصيره، والوقت بالفعل لم يكن في صالح مرسي والنتيجة أن العسكري تعجل بطعن رجل كان يحتضر سياسياً بالفعل. ولكن دعونا نفترض جدلاًَ أن الفريق السيسي، وهو الحاكم الفعلي الآن لمصر بقوة السلاح، قد وافق على عودة مرسي إلى سدة الحكم استجابة لضغوط الإخوان في الشارع، عندها سوف نكون أمام ملهاة لم تشهدها مصر في تاريخها منذ أيام الفراعنة. وإليكم السيناريو المتوقع، سيستقبل الإخوان القرار بالتهليل والتكبير والدعاء للسيسي ومجلسه على حكمته وحنكته هذا بالرغم من أنهم يلعنونه الآن ليل نهار ولكن في المقابل ستخرج الملايين من المعارضين لمرسي إلى الشارع من جديد مطالبة بعزله، وبالطبع سوف تنضم كل مؤسسات الدولة وأجهزتها التي ساهمت في فشل مرسي ومن ضمنها الجيش والشرطة والمخابرات والإعلام والقضاء، وكل مؤيدي نظام المخلوع مبارك ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية في تحالف جهنمي لعزل وإسقاط مرسي مرة أخرى، وبهذا سوف نصبح أضحوكة العالم، والأكثر من هذا فإن اقتصادنا المريض لن يحتمل هذا العبث، خاصة أن مصر بالفعل أصبحت دولة مفلسة من الناحية الفنية وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، إلا من خلال المنح والقروض الأجنبية، وهذا وضع مشين لم تشهده مصر منبع الحضارات عبر تاريخها الطويل. والخلاصة أن مرسي لن يعود إلا على أشلاء مصر، فهل هذا ما يريده الإخوان المسلمون؟ أعتقد أن قيادات الإخوان يدركون التبعات الكارثية لعودة مرسي إلى الحكم ضد إرادة العسكري، مع إقرارنا مرة أخرى أننا ضد عزله بهذه الطريقة المهينة وتحميله وحده أخطاء ثلاثين عاماً من الفساد والاستبداد والنهب والسلب التي مارسها مبارك دون أدنى اعتراض من الجنرالات المبجلين بالمجلس العسكري، ولو أن مبارك مكث في الحكم ثلاثين عاماً أخرى لما فتح أحدهم فاه. وفي هذا فإننا نستغرب هذا التناقض العجيب في قدرة العسكري على التعايش برضى وسلام مع مصر مبارك لمدة ثلاثين عامًا وعدم صبرهم على مرسي لأكثر من عام واحد، ولكن هذا الكلام لن يجدي نفعًا الآن. والخلاصة أن قيادات الإخوان يعون تمامًا استحالة عودة مرسى إلى الحكم، وأعتقد أن تظاهراتهم وحشودهم الحالية غرضها الأساسي هو إثبات وجودهم وشعبيتهم ورفض عزلهم وإقصائهم من الشارع السياسي المصري - وهم محقون في هذا - بالإضافة إلى جذب تعاطف قطاع واسع من المصريين المترددين والحصول على تأييد قوي من الخارج يمكنهم من خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة بقوة والعودة إلى مسرح السياسة من جديد، ولكن بوجوه جديدة، بعد أن تعلموا الكثير خلال سنة واحدة في الحكم، ولعل أهم ما تعلموه هو نسيان تحويل مصر إلى دولة دينية ولو إلى حين. أعتقد أن هناك سجالات ومفاوضات سرية جارية الآن تحت رعاية أمريكية خليجية لتأمين دور للإخوان وإعطائهم فرصة أخرى للعودة إلى المسرح السياسي، ولكن بشروط، أهمها فض المظاهرات الجارية الآن ولعب السياسة دون خلطها بالدين.. وليس هناك على ما أرى من حل سياسي آخر لما نحن فيه غير هذا وهو حل جيد وواقعي. هذه توقعات وتمنيات ربما يستغرق إخراجها بعض الوقت، نرجو ألا يطول حتى نجنب سفينة مصر الغرق أو الإبحار نحو عالم مجهول ومخيف ننقاد إليه بكل ما تبقى من قوة في جسدنا الناحل دون تدبر للعواقب. إذاً مرسي لن يعود، أما الإخوان فعائدون، ولكن بوجوه أخرى وأجندات جديدة. هذا عن الحل السياسي، ولكن هل هناك حل لمشاكلنا الاقتصادية والمالية المستعصية؟ أم أننا تأخرنا كثيراً؟ وللحديث بقية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.