منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى يومنا هذا جرت أحداث وإضطرابات عنف ودماء وتغييرات كثيرة فى الشارع المصرى اسفرت فى النهاية عن وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم لأول مرة فى مصر، وبإستثناء الإخوان وجماعات التيار المتأسلم فإن الغالبية العظمى من المصريين فى حالة ضجر وذهول إلى حد الصدمة ، ولا يكادوا يصدقون أن مصر الآن تحت حكم الإخوان، تعتريهم مشاعر غضب مكبوت بأن المسئول الأول عن ذلك هو المجلس الأعلى السابق للقوات المسلحة برئاسة المشير محمد حسين طنطاوى ونائبه رئيس الأركان السابق سامى عنان، بل إن البعض قد وصل بهم الغضب إلى حد إتهام المجلس العسكرى بالخيانة وتسليم مصر للإخوان على طبق من فضة!! .. الملفت للنظر هنا أن وقع الصدمة على عدد كبير من المصريين المؤيدين للمجلس العسكرى كان أشد وطأة عليهم من المعارضين للسياسة التى كان ينتهجها المجلس العسكرى،.. كانت ثمة قناعة عند المؤيدين أن الجنرالات لن يسمحوا لجماعة الإخوان بالوصول للحكم ،.. أسئلة كثيرة تعتمل فى أذهان المصريين بلا أجوبة!، كيف ولماذا حدث ما حدث ؟! ،.. وفى عملية البحث عن الحقيقة ،.. عن إجابات تزداد حالة البلبلة مع كل الروايات والقصص والتحليلات والمعلومات الناقصة أو المتضاربة ، ومع الإشاعات وحملات التضليل ونشر الأكاذيب عن عمد من قبل أجهزة إعلام معظمها لا يتوخى الدقة و يفتقد للمهنية والشفافية فى الأداء الصحفى أو الإعلامى، والمحصلة النهائية تتلخص فى السؤال الذى يردده كثير من المصريين : " حد فاهم حاجة ؟!!". وكمتابع للشأن المصرى أقول أن مبعث حالة التخبط والعبثية التى شهدتها المرحلة الإنتقالية تعود فى المقام الأول إلى العلاقة الشاذة بين أطراف ثلاثة : المجلس العسكرى، وجماعة الإخوان المسلمين والولاياتالمتحدةالأمريكية، تلك العلاقات التى طرأت عليها الكثير من التغييرات والتطورات، فالولاياتالمتحدةالأمريكية تطورت علاقاتها مع جماعة الإخوان بعد الإتصالات الأمريكية المتقطعة على مدى سنوات مع الإخوان والتى زادت فى عهد إدارة الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما بعد شهور من وصوله إلى البيت الأبيض وقد كتبت عنها فى مقال نشر فى العام الماضى تحت عنوان " الأمريكان والإتصالات السرية مع الإخوان " ، ثم هناك أيضا العلاقة الدافئة الحميمة التى ظهرت فجأة بعد خلع الرئيس السابق حسنى مبارك بين المجلس العسكرى وجماعة الإخوان المسلمين، وبطبيعة الحال فإن هذه العلاقات بين الأطراف الثلاثة تحكمها المصلحة والمصالح المشتركة، مع التسليم بأن كل طرف من أطراف اللعبة، وهى فعلا لعبة سياسية كبيرة ومعقدة، له أجندته الخاصة ، ولكن حتى الآن فإن السيادة واليد الطولى الفاعلة هى للأجندة الأمريكية بإعتبارها القوة العظمى الوحيدة فى العالم ، بل هى إمبراطورية فعلية شرسة وغير متوجة والتى تملك حتى الآن كل أوراق الضغط فى يدها فى تعاملها معنا!. إزاء هذه الحالة العبثية المزرية ، فإن أفضل طريقة فى رأيى للوصول إلى الحقيقة أو جزء منها هو أن نعود إلى تأكيد خمس ثوابت وحقائق إستراتيجية غالبا لا انفكر فيها أو نتناساها: أولا : إن المؤسسة العسكرية فى مصر هى التى كانت تحكم مصر منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكل الرؤساء الأربعة السابقين محمد نجيب وعبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك كانوا من المؤسسة العسكرية ، بالإضافة إلى المشير حسين طنطاوى الذى كان يدير المرحلة الإنتقالية ويتمتع بكل سلطات رئيس الجمهورية ، وهذه المؤسسة العسكرية هى الأقوى والأكثر تنظيما، ولابد لأى رئيس جديد أن يحظى بقبول وموافقة هذه المؤسسة. ثانيا: أن هذه المؤسسة العسكرية ، خلال الثلاثين عاما الماضية أصبحت تعتمد إعتمادا كليا على الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب المساعدات العسكرية الأمريكية للجيش المصرى والتى تبلغ مليار وثلاثمائة مليون دولار سنويا ، وهذا الإعتماد يتمثل فى قطاعات التسليح وقطع الغيار والتدريب والمناورات المشتركة مرة كل عامين والمسماه بالنجم الساطع. ثالثا : إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هى المسئولة عن مساعدة المؤسسة العسكرية فى مصر فى بناء إمبراطورية " البيزنس " الإقتصادية الخاصة بالجيش والتى يسيطر عليها الجنرالات الكبار فى المجلس العسكرى، من خلال بناء ما يقرب من 150 مصنعا من المصانع الكبيرة فى مختلف المجالات، طبقا لتقديرات أمريكية ، إمبراطورية " البيزنس " هذه لا تعرف عنها الحكومة المصرية شيئا ولا تخضع لأى رقابة حكومية أو برلمانية ، ولا تدفع للدولة المصرية أى ضرائب ، بل وتستفيد من الدعم الذى تقدمه الحكومة مما جعلها أشبه ما تكون بدولة داخل الدولة!! رابعا : إن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعتمد بالدرجة الأولى على المؤسسة العسكرية فى حماية مصالحها الإستراتيجية فى مصر وفى ضمان المحافظة على إستمرار معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وضمان المرور الآمن للسفن والأساطيل الحربية وحاملات الطائرات الأمريكية فى قناة السويس . خامسا: أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هى الضامن الرئيسى فى العلاقة التى تحكم مصر بإسرائيل بموجب معاهدة السلام بينهما والتى تعتبر أمريكا طرفا ثالثا فيها ، لا تستطيع مصر أو إسرائيل أن تغير بندا من بنود المعاهدة إلا بموافقتها. إذن هى طرف أصيل فى المعاهدة بموافقة الطرفين الآخرين. هذه الحقائق السابقة منحت الولاياتالمتحدةالأمريكية نفوذا كبيرا على المؤسسة العسكرية المصرية يصعب مقاومته فى ظل معطيات الواقع المحلى والإقليمى والدولى!!. المشير هو المسئول الأول في كتاب السياسة الشهير لأرسطو يعرف الفيلسوف الإغريقى الكبير القانون بأنه : " العقل الذي لم يتأثر بالرغبة "، ويضيف أرسطو قائلا: " إن الذي يأمر بحكم القانون قد يسوقه ذلك إلى أن يأمر بحكم الإله ، أو العقل وحده ، ولكن الذي يأمر بحكم الإنسان يضيف عنصراً من عناصر الحيوان . لأن الرغبة حيوان وحشي ، والهوى يفسد عقول الحكام حتى ولو كانوا أفضل الناس ". ومن ثم يرى أرسطو أن حكم القانون يؤدي إلى العدالة النزيهة بينما حكم الإنسان غالباً ما يكون متعسفاً وصادراً عن الهوى، وهناك في الثقافة الغربية الصحيحة من يقول يوجد قانون عام لا يتغير هو مصدر كل القوانين الوضعية ، وهذا القانون ليس إلا العقل الذي لم يتأثر بالرغبة. وإذا نظرنا إلى ماحدث فى مصر بعد خلع الرئيس مبارك، فقد تولى شئون الحكم فى البلاد خلال الفترة الإنتقالية - وهى غالبا ما تكون من أهم وأصعب الفترات- المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير محمد حسين طنطاوى، .. مشير وتسعة عشر جنرالا أصبحوا مسئولين مسئولية جماعية عن إدارة كل شئون الدولة المصرية بما فيها السياسية، والسياسة ليست وظيفتهم ولا يفقهون فيها شيئا، ومهما قيل من كلام وجدل عن مناقشات وحوارات بين المشير وأعضاء المجلس فيجب ألا ننسى أن المجلس فى الأصل مجلس أعلى عسكرى تحكمه التقاليد العسكرية من رتب وأقدمية وضبط وربط ، وفى النهاية هناك مشير هو رئيس المجلس حين يصدر قرارا فلن يراجعه فيه أحد أو يعترض عليه، وهناك العديد من الأخطاء الجسيمة السياسية التى أرتكبها المشير والمجلس العسكرى والتى كان من الممكن تفاديها، لولا شخصية المشير طنطاوى المحافظة جدا والمتسمة بالعناد والإصرار على رؤيته التى وإن كانت لها وجاهتها ومبرراتها إلا أنها كانت رؤية ضيقة وقاصرة تفتقد لبعد النظر السياسى والإستراتيجى خاصة فى أمور سياسية تتعلق بإعادة بناء الدولة المصرية الحديثة مثل رفضه لقبول مبدأ الدستور أولا وقبل إجراء الإنتخابات البرلمانية!. لاشك عندى أن حكم التاريخ سوف يكون قاسيا على المشير حسين طنطاوى، فهو المسئول الأول عما نحن فيه، وكانت لديه فرصة سانحة لأن يدخل التاريخ المصرى الحديث من أوسع أبوابه كمهندس إعادة بناء الدولة المصرية على أسس متينة وحديثة لو كانت لديه رؤية إستراتيجية ثاقبة ومعرفة جيدة بتاريخ مصر ووضعها ومكانتها، ولكنه كان جنرالا عسكريا شاءت الأقدار والمصادفات أن يتبوأ مكانة المسئول الأول فى البلاد فى فترة من أحلك الفترات، ولكن وكما يقول المثل " فاقد الشىء لا يعطيه"! ، لذلك فإننى لم أفاجأ بقرار عزل المشير طنطاوى من منصبه بالطريقة المهينة التى عزل بها هو ورئيس الأركان السابق الفريق سامى عنان فى الثانى عشر من أغسطس الماضى، لكننى طبعا لست مقتنعا على الإطلاق بالسيناريوهات والقصص التى روجها الإخوان وأبواقهم الإعلامية، فلم يكن هناك إنقلاب من الرئيس مرسى على المشير وعنان، هذه روايات خيالية ساذجة روجها الإخوان لإضفاء قوة وهيبة على الرئيس محمد مرسى الذى ظل لفترة رئيسا منزوع الصلاحيات، وكدأب الإخوان وتاريخهم الطويل المعروف بالإنتهازية السياسية ، حاولوا زيادة شعبية الرئيس وشعبيتهم فى الشارع المصرى ولو على حساب المشير الذى كان أكبر عون لهم ،.. التغيير فى المؤسسة العسكرية تم بطريقة طبيعية برغبة وإرادة أمريكية وبإرادة من المشير نفسه الذى قام بتسليم السلطة كما وعد إلى قيادة منتخبة فى 30 يونية الماضى ، والمسألة كانت مسألة وقت ، متى يتقاعد المشير وليس ما إذا كان سيتقاعد!!. وأنا أزعم هنا أن لدى من الأسباب ما يجعلنى أزعم أن الإدارة الأمريكية هى التى عجلت بالتغييرات الأخيرة التى حدثت مع المشير والفريق وتعيين وزير دفاع جديد تعرفه الولاياتالمتحدة جيدا وكان اختياره بترشيح من المشير طنطاوى نفسه ألا وهو اللواء عبد الفتاح السيسى رئيس المخابرات الحربية السابق، وقد قامت الإدارة الأمريكية بالتعجيل بهذه التغييرات خشية حدوث مضاعفات وتعقيدات بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، خاصة بعد أن تأكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون فى أعقاب زيارتها الأخيرة لمصر من مدى الخلاف القائم بين الرئيس مرسى والمشير طنطاوى، وأنها صرحت للصحفيين المرافقين لها على الطائرة فى طريق عودتها لواشنطن – طبقا لتقارير صحفية أمريكية - أن الرئيس مرسى قد اشتكى لها من صعوبة موقفه وأنه ليس من السهل رأب صدع الخلاف بينه وبين المشير، وكانت الوزيرة الأمريكية قد طالبت فى مؤتمر صحفى مذاع على الهواء وبحضور وزير الخارجية المصرى أثناء زيارتها لمصر بضرورة عودة العسكريين إلى ثكناتهم ، وهى كانت فى الواقع تبلغ رسالة علنية - خلافا للعرف الدبلوماسى - للمشير والمجلس العسكرى قبيل إجتماعها مع المشير فى اليوم التالى. إذن التغييرات فى المجلس العسكرى هى مطلب أمريكى فى الأساس والعلاقة الخاصة جدا الطويلة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والمؤسسة العسكرية فى مصر تسمح بأن تتم هذه التغييرات فى هدوء وتوافق بين الطرفين فى ضوء المصالح المشتركة والحقائق الإستراتيجية الخمس التى ذكرتها آنفا،.. كما أننى لا أذيع سرا حين أقول أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن مرتاحة لعلاقاتها مع المشير حسين طنطاوى حتى منذ أيام حكم الرئيس مبارك لأسباب عديدة، من بينها إصراره على عدم زيارة إسرائيل ، وعلى عدم إشتراكها فى مناورات النجم الساطع مع الولاياتالمتحدة ودول أخرى، وقد فكرت واشنطن جديا فى تغيير المشير طنطاوى وإزاحته عن السلطة بعد نحو أربعة أشهر فقط من خلع الرئيس مبارك، ثم تراجعت لأسباب تتعلق بمكانة ومصالح الولاياتالمتحدة الإستراتيجية فى مصر والمنطقة، وليسمح لى القارىء العزيز أن أسهب فى توضيح هذه النقطة الجوهرية التى أرى أنها قد تفسر لنا الكثير من النقاط والقضايا السياسية التى اكتنفها الكثير من الغموض!. فى شهر يونية من العام الماضى وقع بصرى على تقرير خطير نشره موقع " ديبكافايل " الإسرائيلى الذى أنشأه مجموعة من ضباط المخابرات العسكرية الإسرائيليين المتقاعدين فى عام 2001، كخدمة إخبارية متخصصة نظير إشتراكات سنوية كبيرة (حوالى 1200 دولار ) مع تقديم خدمة مجانية لبعض الأخبار العادية، وكان هذا التقرير الخطير متاح خصيصا للمشتركين الذين يدفعون إشتراكات، وقد بذلت جهدا ووقتا حتى حصلت عليه من موقع أحد المشتركين الكنديين.،.. كان عنوان التقرير الخطير هو : " واشنطن تريد التخلص من حاكم مصرى آخر هو المشير طنطاوى "! وقد جاء فى التقرير الذى نشر فى الثالث من يونية 2011 ما يلى: " بعد ما يقرب من نحو أربعة أشهر من التخلص من الرئيس المصرى حسنى مبارك، فإن إدارة الرئيس أوباما تبحث الآن بوسائل عديدة عن جنرال آخر ليحل محل المشير محمد ( حسين ) طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، طبقا لمصادر " ديبكا نت ويكلى " ( العدد الأسبوعى الخاص ) فى العاصمة الأمريكيةواشنطن!.، وأضاف التقرير : إن عملية السيطرة على ثورة وتوابعها من بعيد " بريموت كونترول " ليست نزهة". كما ذكر تقرير" ديبكا فايل " أنه طبقا للمصادر الأمريكية فإن هناك أربعة أسباب رئيسية لإزاحة المشير طنطاوى هى : أولا هى علاقة الود الدافئة التى من الصعوبة بمكان إيجاد تعليل لها بين المشير والإخوان المسلمين، والتى من شأنها أن تضمن الفوز لهم فى أول إنتخابات برلمانية ( بعد الثورة ) والمقرر موعدها فى شهر سبتمبر القادم (2011 ) ، وبناءا عليه فإن الأمريكيين هذا الأسبوع قد حدث تحول فى موقفهم الذى يصر على إجراء الإنتخابات فى موعدها إلى الرهان على تأجيلها، بينما (المشير ) طنطاوى يرفض سماع أى شىء عن تأجيل الإنتخابات البرلمانية ،.. إنه يريد تسليم السلطة إلى السياسيين، أيا كانوا، ويخلص نفسه والجيش من مهمة إدارة البلاد بأسرع ما يمكن، ولكى يدعم موقفه فهو يصر على أن حالة الهلع من الإخوان المسلمين هى أمر مبالغ فيه! ويقول أنه قد حصل على تأكيدات شخصية من رجل الأعمال فى مجال الإتصالات الملياردير القبطى نجيب ساويرس المؤسس المشارك فى تأسيس حزب المصريين الأحرار على أنه سوف يضع كل ثروته ( نحو ثلاثة ونصف مليار دولار طبقا لتقديرات مجلة فوربس الأمريكية ) فى إطار حملة لوقف ( تقدم ) الإخوان ". وأضاف تقرير ديبكا : " طبقا لمصادر فى القاهرة ذكرت للعدد الأسبوعى " ديبكا نت ويكلى " إن ( المشير ) طنطاوى رجل ساذج، فالإخوان المسلمين والشارع المصرى لديهم من القوة وعدم التنبؤ ( بردود أفعالهم ) مايكفى للتفوق على ثروة ساويرس وهزيمته". أما بخصوص السبب الثانى فقد ورد فى التقرير : " لقد توصل المسئولون الأمريكيون إلى نتيجة مؤداها أن إجراء إستفتاء 20 مارس الخاص بالتعديلات الدستورية بعد ستة أسابيع فقط من خلع الرئيس مبارك كانت خطوة سابقة لأوانها ومتسرعة وسطحية وغير كافية للتعامل مع المشكلات الجوهرية ،.. لكى نضمن للبلاد حكومة مستقرة لها من القوة ما يكفى لوقف تقدم الإخوان ، ولإعطاء الأحزاب الليبرالية المؤيدة للديمقراطية والتى كانت رأس الحربة فى الثورة ( المصرية ) فرصة للحصول على قوة فى صناديق الإقتراع ، فإنه يتعين أولا إجراء إستفتاء على دستور جديد توافقى على نطاق واسع، أما الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية فيجب تأجيلها حتى إجراء الإستفتاء على الدستور". أما السبب الثالث لرغبة واشنطن فى التخلص من المشير، فقد جاء فى التقرير الآتى : " إن واشنطن تشعر بخيبة أمل من رفض ( المشير ) طنطاوى توريط مصر فى مشروعات سياسية أو عسكرية خارج حدودها ( وهذه نقطة تحسب للمشير والتعليق من عندى )، لقد كانت الإدارة ( الأمريكية ) تعلق الأمل على القاهرة أن تقوم بدور حاجز السد القياسى للثورات العربية فى ليبيا واليمن والسودان . ( وهذا يؤكد ما كتبناه مرارا من أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت تريد التخلص من الحكام العرب مع بقاء الأنظمة كما هى، لكنها لا تريد إندلاع ثورات شعبية حقيقية فى العالم العربى، وأن تعبير " ثورات الربيع العربى" لم يكن سوى محاولة يائسة من جانب الإدارة الأمريكية لركوب موجة الثورات الشعبية التى كانت مفاجئة لها)، غير أن المشير طنطاوى اختار أن يستمر على نفس الموقف الإنعزالى الذى كان يتبناه الرئيس المخلوع ( مبارك )". أما عن السبب الرابع والأخير فقد جاء فى تقرير ديبكا فايل : " إن المسئولين الأمريكيين يرون أن شخصية المشير طنطاوى غريبة ومتعبة، وبسبب تحفظه الشديد فإنهم ليس بمقدورهم معرفة نواياه الحقيقية، ويجدون صعوبة فى الإتفاق معه على أى شىء، بما فى ذلك ما الذى يمكن عمله بشأن الوضع الإقتصادى المتجمد، لذلك فإنهم يبحثون عن جنرال آخر يمكن التعامل معه بسهولة ." ويذكر التقرير أيضا أن مصادر عليمة فى واشنطن قد صرحت للعدد الأسبوعى " ديبكا نت ويكلى " أن الخبراء الإستراتيجيين فى الإدارة الأمريكية على وعى كامل بأن تغيير الحكم فى مصر مرتين فى خلال أربعة أشهر هى عملية محرجة جدا ، ومن شأنها أن تلحق ضررا كبيرا بمكانة الولاياتالمتحدةالأمريكية ، لكن إذا ما حصلوا على مساعدة سعودية فربما كان هناك أمل فى أن ينجحوا فى مسعاهم بأقل الخسائر، وإذا ما نجح الإتفاق بينهما بشأن الوضع فى مصر فى حل بعض خلافات أمريكا مع الرياض فإن المحاولة قد تكون مثمرة". هذا هو أهم ما جاء فى تقرير ديبكا فايل ويمكن الإطلاع عليه كاملا على الرابط التالى : http://soundthetrumpet.ca/media/?id=13805 ومن كل ما سبق يتضح لنا جليا كيف أن تشكيل لجنة العشرة لمناقشة التعديلات الدستورية فى غرفة مغلقة برئاسة المستشار طارق البشرى المحسوب على الإخوان بالإضافة إلى عدد من الإخوان، كانت هى الخطأ الأول الذى أرتكبه المجلس العسكرى ، ثم كان إستفتاء 19 مارس من العام الماضى هو الخطأ الأكبر الذى ترتب عليه سلسلة طويلة من الأخطاء السياسية التى إستثمرها الإخوان المسلمون لصالحهم ، بدلا من إلبدء بعملية وضع دستور جديد للبلاد أولا ، إن هذا من شأنه أن يضع الكثير من علامات الإستفهام حول الطريقة والأسلوب الذى أدار بهما المشير طنطاوى الفترة الإنتقالية ، وحول موقفه من جماعة الإخوان، .. هل كان المشير طنطاوى إخوانيا فى السر؟ هل كان متعاطفا معهم؟ هل حقا كان يعرفهم ويعرف تاريخهم؟ هل كان ثمة أعضاء فى المجلس من الإخوان دون أن يكونوا أعضاء عاملين فى الجماعة؟ هل كان البعض يتعاطفون معهم؟ هل كان المشير طنطاوى وأعضاء المجلس مثاليين أكثر من اللازم ولقلة خبرتهم ومعرفتهم بألاعيب السياسة ودهاليزها خدعهم الإخوان الأكثر خبرة وإنتهازية فى السياسة؟! أسئلة كثيرة لا يستطيع أن يجيب عليها سوى المشير طنطاوى نفسه ، وهو رجل لم يتحدث إلى الشعب مباشرة سوى مرات نادرة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، ..إننى لا أشكك فى وطنيته ولا فى حسن نواياه ولا فى حرصه على سلامة وحماية الجيش المصرى من الأخطار ، ولكن ماذا عن حرصه على مستقبل مصر وشعب مصر المالك الحقيقى الأصيل للجيش المصرى؟ إنه يذكرنى بمقولة الأديب الروسى الكبير ليو تولستوى : " إن الطريق إلى جهنم مفروش دائما بالنوايا الحسنة "!!!! لقد فعلت الولاياتالمتحدةالأمريكية فى مصر ما فعلت ومنها مساعدة الإخوان على الوصول إلى الحكم فى مصر ليس لأنها القوة العظمى الوحيدة فى العالم، وليس لأنها تملك فى تعاملها معنا منذ عقود كل أوراق الضغط السياسى والعسكرى ، ولكن لأن نجاحها يعزو بالدرجة الأولى إلى الفشل المصرى فى أن يكون عندنا رئيسا مصريا مستنيرا مخلصا وقيادة مؤمنة بهذا البلد وبدوره ومكانته التاريخية يستطيع أن يقول لأمريكا لا وقت اللزوم، وبمعرفتى بالسياسة الأمريكية والعقلية الأمريكية فإنها يمكن التعامل معها بلغة المصالح والدبلوماسية الحكيمة والحصول منها على تنازلات لمصلحتنا، بدلا من التعامل معها بطريقة التابع للمتبوع، وبسبب غياب الرؤية الإستراتيجية الثاقبة وإفتقاد بوصلة الإتجاه، وسياسات التخبط والتعامل مع القضايا الكبرى بسطحية وعشوائية مفرطة أوصلتنا جميعا إلى الحالة الراهنة التى تمكن فيها الإخوان من تحقيق حلمهم بالوصول إلى حكم مصر! ، وهذا واقع يجب أن نسلم به فى الوقت الحالى. إن التحدى الأكبر الذى يواجهه الرئيس محمد مرسى هو أن يثبت بالأفعال لا الأقوال هل هو رئيس للإخوان أو رئيس لكل المصريين، وهو فى الواقع فى محنة وبين نارين، فإذا تصرف على أنه رئيس لكل المصريين فقد يعتبره الإخوان مارقا وخائنا لهم، لأن الإخوان بالفعل هم الذين رشحوه ودعموه بالأموال والأصوات فضلا عن أنه إخوانى أصيل وأعلن أثناء الإنتخابات أنه فخور بكونه إخوانى، وأما إذا تصرف على أنه رئيس إخوانى وجعل المرشد العام للإخوان والشاطر يحكمان من خلف الستار فسيصب عليه باقى المصريين جام غضبهم ولعناتهم!. !!. كما أن الإختبار الحقيقى للرئيس مرسى ليس فى بكين أو طهران، وإنما فى واشنطن والطريقة التى سيتعامل بها مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، نظرا للعلاقة الخاصة جدا بين مصر من ناحية والولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل من ناحية أخرى، فالحقائق العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية على الأرض هى التى تفرض نفسها فى النهاية وليست الخطب العصماء والشعارات الجوفاء، أو صور الرئيس الإخوانى المؤمن وهو يصلى الفجر فى جوامع مصر ، محاطا " ببودى جاردات " أشداء، فصلاته أمر خاص لنفسه وبينه وبين الله، ولا أظن أن مصر بها أبو لؤلؤة مجوسى، ولا الرئيس مرسى هو سيدنا عمر بن الخطاب!! " مصر أهم بلد فى الدنيا "، هكذا وصفها نابليون بونابرت منذ نحو قرنين من الزمان، والآن أصبح ولأول مرة يحكمها الإخوان، ولكن مصر كما كانت كبيرة على مبارك وطنطاوى فهى أيضا كبيرة على مرسى والمرشد والإخوان، .. قدر مصر هو أن يحكمها من لا يعرف قدرها ومكانتها، غير أن دوام الحال من المحال، ولسوف ينقلب السحر على الساحر!! يقول الرئيس الأمريكى الرحل إبراهام لنكولن : " قد تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، وقد تستطيع أن تخدع بعض الناس طوال الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس طوال الوقت". ----------- كاتب ومحلل سياسى مصرى – كندى