لهذا الشيخ الأجل والعلامة الجهبذ عليّ ابن أبي دقيق العيد، ذكريات عذبة معي، تمثلت في كثير من المواقف، سأذكر منها أربعة على السريع، لضيق المساحة: أولاها: أني تربيت في مسجده صغيرًا على يدي والدي، رحمه الله، في ذهابه وإيابه للصلاة، فتعلق قلبي بالمسجد وأهله ومشايخه، ومؤذنيه، ولم أفارق الصلاة فيه في طفولتي وصدر شبابي كله، حتى انتقلت للقاهرة، وكم كان موئلاً للصلاة والذكر وقراءة القرآن وحتى مذاكرة الدروس المدرسية من زملاء الدراسة، فكان المسجد جزءًا لا يتجزأ من النشأة والتربية، وصقل الشخصية، انعكس ذلك بمعرفتي بشخصيات أزهرية ودينية تشرف على مساجد الأوقاف كلها أيامها، وتؤمها وتخطب فيها، ولها ثقلها في علوم الدين واللغة والثقافة الإسلامية، هيأت لي بعد ذلك أن أكون محل ثقة منهم لمشاركتهم أنفسهم في الدروس الدينية والخطب والمحاضرات في مناسبات شتى، لا يزال الصعيد كله يحييها في المساجد بالدروس والحفلات التي تتخللها توزيع الحلوى، كنوع من الفرح الحقيقي بالمناسبة العطرة، مثل المولد النبوي الشريف، والهجرة النبوية الشريفة، والإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليالي رمضان الكريمة، استقبالاً ووداعًا، وما شابه ذلك، تتناوب المناسبة مساجد البلدة كلها قرابة خمسة عشر يومًا، والناس تؤم كل ليلة مسجدًا من تلك المساجد فرحًا بتلقي العلم والموعظة مختلطة بفرحة المناسبة العطرة نفسها. ثانيها أن الشيخ ابن دقيق العيد أول شخصية رمضانية كتبت عنها في أوائل حياتي الصحفية، وكان ذلك أيضًا في رمضان، وذلك في الصحيفة التي عملت بها، منذ عدة عقود، في مقتبل العمر وريعان الشباب، وكان ما نشرته عن الشيخ وصورة مسجده ومقامه، كرد جميل للشيخ ونوع من الوفاء له ولذكرياته العذبة، وكان هذا يحدث لأول مرة في صحيفة يومية سيارة من الصحف الثلاثة (الأهرام والأخبار والجمهورية)، لها قبولها وشعبيتها بين الناس، وذلك قبل أن تنتشر الصحف بهذا الإسهال الكبير في الإصدار، دون قراءة لما تحويه من غثاء القول، ونفاقه أحيانًا، وقبل أن يدخل الإنترنت والكمبيوتر في مصر وعالمنا العربي، فيجعل الدنيا كلها بين يديك. والثالث أني سهرت ليلة كاملة مع الخطاط والرسام المبدع الذي كان يرسم ويزخرف قبلة مسجد الشيخ دقيق العيد، المسمى باسمه في مدينة قوص، وهو يخط الآيات ويزخرفها على القبلة والجدار العلوي المحيط بالمسجد من الداخل، في صورة جميلة رائعة، أبدع فيها هذا الخطاط النبيل. والرابع تلك اللوحة التعريفية بالشيخ ونبذة عن سيرته الكريمة، التي جمعتُ مادتها كأول مادة تجمع عن هذا الشيخ ليكتبها أيضًا خطاط آخر في لوحة مزخرفة، على باب مقامه الكريم بالمسجد، ولا تزال إلى الآن معلقة، تتعرف الأجيال المتلاحقة من خلالها على هذا العالم الجهبذ، فيما يتجاوز عمرها تقريبًا فوق السبعة والثلاثين سنة مضت. تذكرت هذا الشيخ الآن الذي رحل في مثل هذه الأيام من شهر رمضان المبارك، وطفت مع عبق الذكريات الجميلة له، وأنا أعلم أن أغلب الناس لا يعرفون من هو؟ ولا سبب تسميته بابن "دقيق العيد"؟ وهو اللقب الذي تلقب به جده، الذي خرج يوم عيد وعليه طيلسان أبيض ناصع البياض، فقالوا كأنه دقيق العيد فلقب به، وغلب اللقب على الحفيد الشيخ محب الدين علي بن تقي الدين بن دقيق العيد، الذي فرحت به قوص (وهي كعبة العلم والعلماء يومئذ، وإحدى أهم أربع ولايات للقطر المصري كله بعد الفسطاط والإسكندرية ثم قوص ثم الشرقية)، فرحت به ولادةً في صفر سنة 657ه، وافتخرت به أقطار العالم الإسلامي التي جابها، حتى لقي ربه في مثل هذا اليوم من رمضان سنة 716ه.. بعد أن بلغ من العلم مبلغه، وحصل له من سيطه ووهجه في العلم الشيء الكثير، فتخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، وتشربوا منه أدب السلوك والزهد والورع ثم العلوم الدينية والأدبية المتنوعة. وهو الذي تعلم ونشأ على يد والده الشيخ مجد الدين القشيري الذي كان له شأوه في قوص علمًا وحكمة ومكانة، وطاف الشيخ بالقاهرة والتقى بسلطان العلماء العز بن عبد السلام ونهل منه الكثير من العلوم، حتى إنه جمع بين المذهبين العظيمين "المالكي" الذي كان منتشرًا في الصعيد، ثم "الشافعي" الذي كان منتشرًا في القاهرة، ورحل الشيخ للشام ثم للحجاز ثم للقاهرة مدرسًا في مدارسها الشهيرة، كالصالحية والفاضلية، التي طالع كل الكتب التي بها، وغيرهما، ثم الإسكندرية، ثم استقر به المقام في مسقط رأسه بقوص مدرسًا بالمدرسة النجيبية التي كان لها مكانة مرموقة، وشيخًَا وإمامًا وقاضيًا لقضاة الصعيد كله. ولتوليه القضاء بين يدي السلطان منصور بن لاجين حكاية أثبتها لنا المؤرخون، حيث أشار أحد المقربين من السلطان، قائلاً: "هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم؟ فعليك بابن دقيق العيد..."، فكان أن تقلد ابن دقيق العيد هذا المنصب الذي ظل فيه مدة سبع سنوات متصلات. والمؤرخون الذين يعرفون شأوه وشأنه ومكانته، ومنهم كتّاب التراجم والطبقات أيضًا ترحموا عليه وذكروه بالخير ولم يعب عليه أحد في علمه ولا خلقه ولا أدبه ولا كريم أصله ومحتده، منهم السبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وابن سيد الناس، وغيرهم.. قال عنه ابن سيد الناس، كما نقل عنه السكبي في طبقات الشافعية: «لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقلية والعقلية". وقال عنه الأدفوي في كتابه "الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد": "كان له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب من جملتها عيون الأدلة لابن القمار في نحو ثلاثين مجلدة وعليها علامات له، وكذلك رأيت في المدرسة السابقية السنن الكبير للبيهقي على كل مجلدة علامة له أيضاً". انتهى رحم الله شيخنا الشيخ علي ابن أبي دقيق العيد الذي كان يقول: "ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل". أتغنى الآن ببيت الفرزدق الشاعر العربي الشهير وهو يفاخر صنوه الشاعر جرير بقومه الأكرمين كما أفخر أنا بمثل ابن دقيق العيد، حيث قال: أولئك قومي فجئني بمثلهم // إذا جمعتنا – يا جرير- المجامعُ ******************************************** ◄◄ قالت الحكماء ◄"أمة لا تعرف تاريخها، لا تحسن صياغة مستقبلها".. )السلطان العثماني الشهير بايزيد). دمتم بحب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.