نتمنى أحياناً أن لو لدينا من السيرة مواقف قد تتشابه مع بعض مواقفنا الحياتية اليومية لنقف منها على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتعلم و نقتدي و ننجوا من الخلاف و الفرقة و التشكك. و رغم أنني شخصياً لا أعتقد أن دنيانا معقدة بالقدر الذي يظنه الكثيرون كما وأنه و رغم أن لكل عصر مشكلاته الخاصة به إلا أنها لابد و بينها تشابه نسبي كوننا في النهاية بشر كمن سبقونا و من سيأتوا بعدنا. و حتى إن و افقت أن الإختلاف شديد أجد الكثير من المواقف في السيرة تكون أحياناً أعقد مما نشاهده في حياتنا. موقف اليوم موقف خلاف بين صحابة من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم - ولا مزايدة على إيمانهم هنا أو أن يدعي مُدّعى في عصورنا هذه أنه أكثر منهم ورعاً و تقوى بل و فهما! الأروع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان موجوداً ليحكم بينهم فيما إختلفوا فيه بالتالي لابد أن يُدْرَسْ الموقف بعناية إذ أنه يُعتبر من النماذج النادرة التي يمكن الإستعانة بها في حياتنا. و لما كان هذا الموقف مما ستذكره كتب السيرة و يحوي على لقطة نادرة و هي وجود خلاف بين الصحابة ثم وجود رسول الله بينهم ليحكم في إختلافهم كان على الموقف أن يكون شديد الأهمية و كثير المعاني لأنه سَيُتّخَذُ بعد ذلك سَنداً من أهل االفقه للإجتهاد و لإستنباط الأحكام. " من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " كان هذا نص النداء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم سويعات بعد الخندق مأموراً من رب العالمين (و في رواية: من كان يؤمن بالله و اليوم الأخر فلا يصليّن الظهر إلا في بني قريظة. ) نداءٌ قوي لا لَبْسَ فيه و لا فرصة لفهمه بطريقة مختلفة. هو هكذا كما نادى به المنادي مأموراً من سيد الخلق. لا مجال لتفسير خاطئ و لا يمكن أن يعتذر عنه إلا المُعذّرين ممن وصفوا في القرآن الكريم أو المنافقين و فقط و هو نداء ذا معنى واضح جلي لا مجال للمناقشة فيه. من الصحابة جماعة لم تلحق بركب رسول الله الذي إنطلق لتأديب من خانوا العهود و المواثيق و كادوا أن يكونوا سبباً لأن يُؤتى المسلمون من خلفهم في غزوة الخندق و هم في أحلك الظروف العسكرية. لم أفهم الموقف إلا بعد أن إستطعت أن أعتصر نفسي و أتخيلها بينهم أشهد و أرقب كأني فيهم. وجدت رجالاً عاديين مثلنا في كل شيء و لربما حتى يوجد منا من "يعرف" أكثر منهم إلا أنهم يختلفون عنا في أمرين - الإيمان المطلق و الثقة المطلقة . الأيمان المطلق بأنه رسول الله (و لا أبرع من مثال عكاشة يوم السوق) و الثقة في الرجل الذي بُعث فيهم و هي أحاديث أخرى قد نتعرض لها إن شاء الله. هذه الجماعة أدركتها صلاة العصر في الطريق و كان أن إحتارت ما تفعل في صلاة العصر - ثم أن إنقسموا (في الرأي) فرقتين كما نعلم. بداية واضح أن الحيرة بدأت مع قرب إنتهاء و قت العصر و قرب حلول صلاة المغرب و إلا لإنتظروا حتى يصلوا إلى رسول الله ليصلّوا هناك و تنتهي الحيرة و هو ما يعني أنهم سعوا لتأخير الخلاف إلى أخر وقت ممكن. ما العمل إذن!؟ هل لاحظنا أن الخلاف على الصلاة - رأس الأمر في الإسلام!؟ و على أمر رسول الله؟ الأمر فعلاً أشبه بدراما ترتفع إلى ذروة الحدث غير أنه موقف حقيقي وقع فعلاً. الفرقة الأولى أعملت عقلها و فكرها وقالت نصلي العصر فالصلاة أمر لا يمكن التهاون فيه أو تركه. و أرى أن المبرر الوحيد لهذا الرأي هو الرجوع إلى "منطق" الأمر من رسول الله صلى الله عليه و سلم و "معناه" الذي يحتويه - وهو الخروج معه صلى الله عليه و سلم. المهم أن هذه الفرقة رأت أنه لما كانت في طريقها فعلاً إلى حيث تلحق برسول الله فإنها تكون قد دخلت في إطار تنفيذ الأمر و تحللت من شرط عدم الصلاة إلا في نطاق حصون بني قريظة. هذا الفريق من الصحابة إجتهد في تفسير المعنى العقلي للأمر و إجتهد و الأمر واضح لا لبس فيه و إجتهد و رسول الله بينهم و أنا أحسد هذا الفريق أشد الحسد لا لشيء إلا لأني كنت أتمنى أن أفعل مثلهم غير أنني لم أكن لأفعل! الفرقة الثانية إستمعت للأمر حرفياً و بمعناه الديني و العسكري. هي ترى أن أوامر النبي القائد تطبق بحرفيتها و لا مجال فيها لتفسير خاصة و أن صلاة العصر يمكن أن تُقضىَ حال اللحاق برسول الله صلى الله عليه و سلم في معاقل خونة بني قريظة فإن فاتت صلاة العصر يرى بعد ذلك النبي صلوات الله و سلامه عليه الرأي. كنت بلا أدنى شك سأكون مع هذا الفريق لا لشيء إلا لأنني "أخاف" أن أفكر أو أعمل عقلي في أمر رسول الله خاصة بعد أُحد. مبعث الحسد للفرقة الأولى هو شجاعتها في إتخاذ قرارها بعد فهم الأمر بمعناه لا سيما و أن درس (أُحُدٌ) في عصيان أوامر النبي القائد لا يزال ماثلاً للأذهان و هو درس لا يُنسى بسهوله و من هنا أشعر بقوتهم و شجاعتهم على الإجتهاد و إعمال العقل و أن الخوف أحياناً ما قد يُقيد تصرفات الإنسان و مَلكاته. وجه حظنا في المسألة - كما ذكرت - هو وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا (بينهم) و عندما وصل الفريقان إليه (ما بعد العشاء) أخبراه الخبر و تقول كتب السيرة (فأقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين) و هنا وجه من أوجه الإعجاز في قيادة رسول الله صلى الله عليه و سلم. فهو يدرك تماماً إخلاص النية من كل فريق في تنفيذ الأمر. كما أن كلاً من الفريقين كان أمامه بالفعل ساعة إخباره الخبر - أي أن الأمر تم تنفيذه و عليه فقد تفهم الرسول الأعظم دوافع كل منهم و لم يَلُمْ أياً منهم بل إني لأظنه هش لهم وضحك من مقدرتهم على تنفيذ أمره كل بطريقته. كما أنها عبقرية من عبقرياته صلى الله عليه و سلم في إدارة البشر إذ انه بحكمه هذا ساوى بينهما و بالتالي سد باباً من أبواب الحسد أو الغيرة بين أي منهم. كما أنه بهذا لم يغلق باب الإجتهاد بين أصحابه حتى و هو بين ظهرانيهم بحيث تكون لديهم حرية الحركة و المناورة (عسكرياً أو سياسياً) بحسب الموقف حتى و لو كان الأمر الصادر واضحاً وضوح الشمس (وهو ما فعله خالد بن الوليد في غزوة مؤتة حين إنسحب بجيش المسلمين أمام الروم و هو ما نعرف أنه ليس من تعاليم الإسلام وقت اللقاء و بنص القرآن هذه المرة!) و هو أيضاً صلى الله عليه و سلم لابد يعلم أن هناك من صحابته من يتبع كلامه بحرفه (كحذيفة بن اليمان يوم الخندق و أمير المؤمنين علي يوم الحندق) و من لديه المقدرة على التفكير في الطريقة المثلى لتنفيذ الأمر (لا مناقشة الأمر.) غير أن ما لا أفهمه بعد هو كيف وصلت الفرقتان معاً إن كانت إحداهما قد توقفت لأداء الصلاة؟ و هل وصلت الفرقة التي لم تُصَلِي - قبلهم إلى رسول الله؟ إن كان الأمر هكذا - فإن به درساً جديداً و هو أن من لم يصلي إنتظر من صلى ليعرضا الأمر على القائد معاً و لم يستغل فرصة وصوله قبل الأخر ليكسب التحكيم كون أمامه فرصة من الوقت أكثر ليتكلم و يحكي! أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أقرهما إلا لما سمع من كلا الفرقتين و في كل دروس و معانى. أنظر كيف إنتهي الموقف بكلمة من رسول الله و كيف أنهم حين إختلفوا لم يتفرقوا و لم يصدر منهم تجاه الأخر ما يعكر صفو الأخوة و لم ينكر أحدهما على الأخر موقفه. يمكن فهم الكثير من هذه اللمحة والأهم أنها تُوَضح غنى الأحداث و إمتلائها بالمعاني بين المسلمين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما يدهشني حقاً هو كيف لو حدث هذا الأمر الأن؟ أخر السطر يقول تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة - 134 و 141 Masry in USA