رحل عن عالمنا فجر يوم الثلاثاء 9 شعبان 1434 ه الموافق 18 يونيو 2013م، رجلا من أغلى الرجال، هو الكاتب والمفكر الكبير الأستاذ رشاد كامل كيلاني رحمه الله.. والراحل هو نجل المرحوم الأديب كامل كيلاني رائد أدب الطفل.. مولده ونشأته وتأثره بوالده: وُلِد الأستاذ رشاد كامل كيلاني في 17من شهر نوفمبر عام 1930م، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة عام 1951م. وقد عمل فور تخرجه محررًا ومصححًا ومراجعًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة خلال الفترة من عام 1951م إلى سنة 1959م... ورافق والده الأديب كامل كيلاني (رحمهما الله) ردحًا طويلا من الزمن، منذ أن كان في الحادية عشرة من عمره إلى أن لحق كامل كيلاني بربه الرحيم سنة 1959م؛ فتأثر بفكر والده، وكان دائمًا إلى جواره، مشاركًا إياه في قراءة ما يكتبه، ومراجعته مراجعة لغوية وطباعية دقيقة؛ حتى تكونت لديه الحاسة الأدبية والذوق اللغوي الرفيع.. ومن حسن حظه أنه تلقى من والده بالعين، وتلقي منه بالأذن، الأمر الذي ساعده وأهَّله لأن يكون حكَّاءً من الطراز الفريد.. ولم يكن رشاد كيلاني يحترم العبارة فقط، أو الكلمة فقط؛ بل كان يحترم الحرف منها، وكان يقول إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (... لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (أخرجه الإمام الترمذي) ولذلك كان حريصًا كل الحرص على أن يكون كل حرف مستقل، وواضح، خوفًا من أن يسأله الحرفُ يوم القيامة لماذا لم تعطني حقي؟!. لقد عكف رحمه الله على نشر تراث والده؛ فأصدر ما لم يصدره كامل كيلاني في حياته، فنشر تراث والده، إلى جانب اهتمامه بنشر الفكر الإسلامي ومساعدة المراكز الإسلامية في أنحاء كثيرة من العالم، فأنشأ مطبعة ومكتبة خاصة باسم مكتبة الأديب كامل كيلاني، في حي باب اللوق بالقاهرة، والتي تعد بمثابة مركزًا ثقافيًّا حرًّا لنشر أدب كامل كيلاني، وتوزيعه في مصر والعالم العربي، إلى جانب نشر كل فكر رائد رائق في العالم العربي والإسلامي، كما عُني بترجمة كتب ومؤلفات -تعد خلاصة للفكر الإسلامي والإنساني- إلى اللغات الحية، ليشارك في تبليغ الدعوة الإسلامية الوسطية في الداخل والخارج.. إنتاجه الفكري والأدبي: أنتجت قريحة رشاد كيلاني عديدًا من قصص الأطفال، بلغت 32 قصة، منها: مصيدة الفئران (إسرائيل)، ومؤتمر الحيوان، ومجموعة قصص (بابا حكي لي).. وكان من منهجه ما يُسمى بزكاة المُكنة ومعناه: أن كل إنسان مكَّنه الله من شيء، وأعطاه القدرة عليه، لابد أن يُخرج زكاة هذا الشيء، ولذلك نشر 48 كتابًا إسلاميًّا باللغة الإنجليزية و43 كتابًا باللغة الفرنسية و 62 بالألمانية إلى جانب بعض المترجمات بالإسبانية والتركية والهولندية.. وغيرها. وكان الأستاذ رشاد كيلاني يدعو إلى الاهتمام بكتب الأطفال، وخاصة في مكتبات المدارس التي تعد النبع الأساسي للأطفال في المراحل التعليمية المختلفة؛ فالمكتبة هي حجر الزاوية تفيد الطالب والمعلم، وعلى وزارات الثقافة في العالم العربي أن تدعم تلك المكتبات وأن تمدها بإصدارات الرواد وبأحدث التقنيات التي تساعد القارئ أن يصل للكتاب الذي يريده بسهولة ويسر ودون معاناة. كما كان يطمح لتكوين مكتبات للسجون، ومكتبات للقطارات، وأن يكون كل كتاب ورثه أي شخص عن والده أو جده أن يضعه في المساجد لينتفع به المسلمون.. جهوده في نشر الدعوة الإسلامية: وكان –رحمه الله- يبجل ويحترم كل من يعمل في حقل الدعوة إلى الله تعالى، وكان من عاداته أن يُقَبِّل يد كل من كتب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وظلَّ الرجل حائط صد لكل من يحاول أن يتعرض لمقام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ففي إبان الهجمة الشرشة على رسولنا الكريم، نشر مائة وسيلة لنصرة النبي، وترجمها -على نفقته الخاصة- إلى لغات عديدة، وكان يطمح إلى أن يترجمها إلى خمس عشرة لغة، لكن لم يسعفه القدر، فترجمها إلى ثمان لغات فقط. كما أخرج كتاب رياض الصالحين للإمام النووي واستخرج منه عشرين كتابًا ترجمها إلى عدة لغات، وكان شمعة مضيئة لكل الباحثين من طلاب العلم خصوصًا الطلاب الفقراء. من أقواله: يقول رشاد كيلاني رحمه الله: "زرع والدي رحمه الله فيَّ عدة كلمات، أعتبرها علامات مهمة في حياتي، لا أحيد عنها، فكان يقول لي: "الإخلاص ليس له ثواب إلا الجنة، وأكد على وجود موردين أساسيين يجب أن أضعهما أمامي، وأن يكونا المرجع لي في كل شؤوني هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة". وكان يقول: "عليك أن تتبع سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا تحيد عنها قيد أنملة"، وأحاول أن التزم تعليماته في تقديم الثقافة الإسلامية من خلال مكتبته، إضافة لقصصه التي تحتوى على القيم والأخلاق الإسلامية". وكان يقول: "تعلمتُ من والدي العمل دون كلام، فقد كان رحمه الله لا يرد على النقاد الذين هاجموه في حياته؛ بل كان يأخذ من نقدهم ما يفيده في تأدية رسالته، ولا يضيع وقته في الرد عليهم أو السجال معهم". مشروعه التنموي: دار ومجمع سبيل الله: من خلال مطبعته الخاصة أنشأ (رحمه الله) "دار سبيل الله العلي الأعلى"، التي تُعنى بنشر المؤلفات التي تحتوي على ثمار الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل، وذلك في صورة "وجبات دسمة وسريعة" تُقدم بالمجان لكل راغب في العلم، محب للثقافة، ولكل داع إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يبغي من هذا مالا.. كما أنشأ "المركز الإسلامي مجمع سبيل الله" بمدينة العمرانية الذي يضم: مسجدًا كبيرًا يعد شعاعًا للفكر الإسلامي، ودارًا لتحفيظ القرآن الكريم، ودارًا لمحو الأمية، وفصولا لتقوية الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة... بالإضافة إلى عيادة ومشروع للتطريز والتشغيل.. وكان (رحمه الله) يجتهد في ربط الصبية والشباب بكتاب الله عز وجل، حيث كان يشتري هدايا وجوائز لتحبيبهم في حفظ القرآن الكريم والارتباط به.. كل ذلك وغيره حسبة لوجه الله تعالى، وحُبًّا لرسوله (صلى الله عليه وسلم).. وحوَّل هذا المشروع إلى مؤسسة خيرية تعمل بصورة مؤسسية لتستمر في تأدية رسالتها بشكل دائم، إيمانًا منه بأن خير الناس أنفعهم للناس، وكانت هذه المؤسسة بالنسبة له هي كل حياته. من مواقفه التي لا تنسى: كان (رحمه الله) من أصحاب الأفكار النهضوية، ومن مواقفه التي لا تنسى، أنه حينما كان يسهر في المطبعة إلى قبيل الفجر، وكان يرى الحفر والتكسير في الطرق، قرر أن يعالج العيوب اليسيرة من حفر وتكسير ومطبات مؤذية في الطرق، التي تكسر عربات الناس الغلابة، فأمر بعض العاملين معه بتجهيز سيارة نقل كبيرة، وجاء بعمال متخصصين، وبالمواد المخصصة لإصلاح الطرق (من أسمنت وزلط ورمل وأحجار... وغيرها) وجهَّزها من خلال مهندس خبير، بحيث تمر السيارة المجهزة بالعمال في مناطق الحفر التي تحتاج للإصلاح، وذلك بعد منتصف الليل –حتى لا يعطلوا السير- وينزل العمال بسرعة لإصلاح العيوب، ثم ينتقلون إلى منطقة أخرى.. وهكذا، منطلقا من قول الله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88) وكان يقول: "الدولة هاتعمل أيه ولا أيه، والدولة لما ترانا نعمل الحاجات الصغيرة هاتعمل هي الحاجات الكبيرة". أخلاقه ومنهجه في الحياه: وكان منهجه ينطلق من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (نضَّرَ الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتي فحمَلها، فرُبَّ حامل فِقْه غير فقيه، ورُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه، ثلاث لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مؤمن: إخلاص العمل لله -تعالى- ومُناصحة وُلاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين).. وكان شعاره الذي أخذه عن والده، هو شعار النحلة العاملة.. أنفع الناس وحسبي أنني أحيا لأنفع أنفع الناس ومالي غير نفع الناس مطمع وشاءت إرادة الله أن يعيش الأديب رشاد كامل كيلاني في الدنيا اثنتين وثمانين عامًا وسبعة أشهر ويومًا واحدا أي (30164) يوما، لم يتلفظ فيها بلفظ قبيح أو يتفوه بكلمة نابية . يقول أحد الباحثين العاملين معه وهو الأستاذ محمد القرشي: "عملت معه سبعة عشر عاما فما سمعت منه كلمة سوء أو كلمة نابية، أو كلمة خارجة. ولما كان يُقال له "شِد على فلان شوية يا حاج" فكان يقول: (اللين هو سبيلنا لتحقيق ما نصبو إليه، فالماء مع ليونته، يبلغ ما لم تبلغه النار في شدتها)".. وكان يقابل الإساءة بمزيد من الإحسان، وأقصى ما كان يقوله عن الذي يؤذيه إنه "بوشت" وهي كلمة فارسية تعني الظهر والسند والظهير والخلف، وكأنه يدعوه إلى أن يتقدم عن المكانة التي ينزلها إلى مكانة أرقى منها أخلاقيًّا... ومن حسن حظي أن الله (عز وجل) كتب لي أن أتعرف على الرجل عن قرب؛ فقد اتصل بي فضيلة الدكتور إبراهيم أبو محمد المفكر الإسلامي الكبير، والمفتي العام الحالي لقارة أستراليا، منذ نحو ثلاثة عشر عامًا، وقال لي: "تعرَّف على الأستاذ رشاد كامل كيلاني، واقترب منه؛ لأنه طاقة من الخير تتحرك في كل اتجاه"، ومنذ ذلك الحين ولم تنقطع صلتي بالرجل حتى لقى ربه الرحيم منذ أيام... وعندما كنت أنظر في وجه الراحل، كنت أشعر بالراحة، وحينما كنت أسمع صوته أستريح نفسيًّا، وكنت أجد فيه البساطة والطيبة والرحمة، ولما كنت أجالسه كنت أتذكر على الفور قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة) ولمَ لا وقد انحدر الرجل من بيئة العلم، والأدب، والقرب من الله عز وجل.. من مواقفه الإنسانية: وبلغ مر رقته ورحمته ورفقه أنه كان (رحمه الله) يُطعم الحمام الطائر الذي ليس له مثوى، فقد خصص له أماكن في كل مكان يملكه، وعلى الأخص في سطح مجمع سبيل الله، وفي سطح مطبعته، وفي سطح منزله في شارع فيصل...إلخ، وكان يقوم بملء المسقة، وتجهيز الطعام للحمام الطائر في الهواء.. وفي مرضه كان يتصل بمن كلَّفه برعاية الحمام ليطمئن على طعامه، هل وضع له الماء والطعام أم لا؟. وكان يتفقد أحوال العاملين معه ويتعرف على ظروفهم ويقف بجانبهم (في أفراحهم وأتراحهم.. في الوفاة.. في المواليد والأفراح والأتراح وكان معطاء في شتى المناسبات والمواسم والأعياد). وكان دائما ما يردد قول الله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 20) وفي ذات الوقت يردد قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 93)، وكان ينفق ببزخ، ويقول: المال مال الله ونحن مستخلفين فيه.. ولابد أن ننفقه في الدعوة إلى الله. وما قصده أحد قط في أي مطلب أو معونة إلا وجد يده ممدوة له وكان من يأتي له في كرب لا يتركه إلا وقد فرَّج عنه... ولما قيل له إن العدد في المجمع الإسلامي كبير فقال: (أنا لا أقطع رزق الله عمن يرزقني الله من أجلهم) وكان يقول: إذا كنت متضايقًا فأكثر من الصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان لا يميز نفسه عن العمال العاملين معه، بل كان يعتبرهم أبناءه؛ فإذا شرب أو أكل، لابد أن يشربوا مما يشرب ويَطعَموا من نفس ما يطعم منه.. وكان يترك سيارته بسائقها، ويستقل التاكسي؛ ليتعرف من السائق على أحواله وأحوال فئة السائقين، ويقيم علاقة طيبة مع سائقي التاكسي، ويعطه أكثر مما يستحق بكثير ليستقطبه إلى مجمع سبيل الله، بعد أن يشرح له رسالة المجمع، فيجعله جُندا في سبيل الله، ويعطه من الكتب والمصاحف واللوحات القرآنية ليقوم السائق بتوزيعها على المساجد ويعطه أجرا كبيرا على ذلك، ومن ثم استطاع أن يوجه طاقات كثير من أصحاب هذه المهن إلى العمل الدعوي والإنساني، وليتحولوا بفضل الله إلى جند مسخرين في كون الله... *** ولقد حرص الراحل على نشر الفكر الإسلامي الوسطي، ودأب على التواصل مع كبار علماء الأمة، ومع قادة العمل الإسلامي في أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا، كما حرص على التوسع في أعمال الخير والبر والرحمة بالضعفاء.. وعزاؤنا أنه ترك تراثًا خالدًا ستظل الأجيال القادمة تنهل منه بإذن الله تعالى.. كما ترك من أبنائه البررة: المحاسب محمد والمهندس مجدي، والمحاسبة رجاء والمحاسبة رقية.. وأنا على يقين أن أخوته المهندس أمين كيلاني وأولاده وأحفاده، وأيضًا تلاميذه ومريديه ومحبيه والعاملين معه، سيسرون على دربه المبارك وعلى منواله الميمون. ووفاة الأستاذ رشاد كيلاني في هذه الأيام المباركة لهي بشارة إلهيه له -رحمه الله-، فما اختاره الله في هذه الأيام المباركة إلا مكافأة ربانية لإخلاصه ووفائه لربه ولدينه، ولوطنه، وأهله.. وفي النهاية لا نملك إلا أن ندعو الله عز وجل أن يتغمده بمغفرته وينعم عليه بشآبيب رحمته وأن يدخله الفردوس الأعلى بجوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم). المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.