لطالما سمعت بعض المحامين من أصدقائي؛ وهم يكيلون الثناء على النهضة الإدارية التي تُحقق في أروقة ديوان المظالم، ورأيت انبساط أسارير وجوه بعضهم إذا ما كانت قضيته تتبع الديوان. وكنت أستفسر عن سبب هذا الاحتفاء منهم، فيجيبون باستشهادات متعددة؛ لعل سرعة إنجاز معاملاتهم وعدم تأخرها القاسم المشترك في كل تلك الإجابات. الاتهامات التي تطال المؤسسات التي يشرف عليها الشرعيون، لا تتوقف، وربما كانت التهمة الأشهر أن تلك المؤسسات لا تملك العقلية الإدارية التي توظف المستجدات العصرية في تطوير مرافقها بما يخدم منسوبيها ومراجعيها، وتحلحل مداميك البيروقراطية الصدئة التي تذكرنا بخمسين عاماً مضت، بيد أنني كنت أمام نموذج مشرق يقلب هذه النظرة تماما مع رئيس ديوان المظالم؛ لأنني عندما استقصيت وبحثت عن أسرار هذه السُّمعة الجيدة للديوان وأدائه؛ ألفيت أن معالي الشيخ إبراهيم الحقيل -لم أتشرف بمعرفته أبداً ولا لقائه- بزّ قيادات رفيعة في مؤسسات ووزارات مدنية عدة بتفكيره الإداري، ودونكم تصريحه في صحيفة الرياض (1أبريل 2010م) وهو يدرس إنشاء أندية رياضية وعلمية واجتماعية للقضاة ومنسوبي الديوان، الأمر الذي لم تفعله وزارات عريقة ذات ميزانيات ضخمة لمنسوبيها كالتربية والصحة؛ مؤملا من معاليه ألا تكون كفرقعات وزرائنا ووعودهم الإعلامية الخلابة. ما أعجبني في حوار معاليه ذاك، عدم استنكافه من الاعتراف بالأخطاء؛ وهو يقول بأن القضاة يتحملون جزءاً من المسؤولية في تأخر المعاملات، وأنه يعالج أخطاء تاريخية متراكمة في القضاء السعودي، ولعمرو الله هذه نقطة البداية للإصلاح؛ لأن الاستكبار وترديد المقولة بأن أمورنا على خير، ورفع العقائر بأن الإعلام يتصيَّد الثغرات هو خطأ فادح بحد ذاته لا يعالج المشكلة، ووقتما بادرت أحد منسوبي الديوان من القضاة،؛ بأن اعتراف شيخكم بتقصير بعضكم أيها القضاة هو أمر جيد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي اتخذه يا ترى حيال حلّ المشكلة؟! أجابني بأن معاليه ألزمنا كقضاة بدورات في تطوير الذات، وأعقبها بدورات في التطوير الإداري لنا، وختمها بدورات مركزة في التطوير القضائي المتخصص. برأيي أنّ أفضل ما فعله الشيخ الحقيل مسألتان، أولاهما تلك الثورة الإلكترونية التي تموج داخل الديوان، فمن يزور ديوان المظالم -بحسب أصدقائي المحامين- ويطلع على النهج الإداري، وأسلوب تسيير المعاملات، يشعر أن هناك تطوراً يترجم موضوع التقاضي الإلكتروني الذي أعلن عنه الشيخ الحقيل وكلف به شركة وطنية، بحيث سيصل في القريب العاجل إلى أن تكون كل المعاملات إلكترونياً منذ تقديم الدعوى وحتى صدور الحكم في القضية. توظيف التقنية هذه؛ ليس في المكاتب الإدارية فحسب، بل حتى في مكاتب القضاة، وذلك عبر كتابة الضبوط رقميا، ورؤية ضبط القضية في الشاشة الموضوعة أمام مكتب القاضي، فالخصوم يشاهدون ما يمليه القاضي للكاتب حرفاً بحرف، مما يمكّن الخصم من متابعة ما يمليه القاضي، وقدرته على مناقشته لحظة كتابة الضبط، وبالتأكيد أن هذه نقلة تقنية ونوعية أرجو أن تعمّم على كل المكاتب القضائية في كل المحاكم الشرعية، وهي دعوة شخصية مني لمعالي الشيخ الوضيء صالح بن حميد، وهو الذي حمل تركة ضخمة لا تقارن بحال من الأحوال بديوان المظالم، غير أن ذلك لا يعفي الشيخ صالح بضرورة الإفادة من كل تلك الخطوات التي سبق بها إخوتهم في ديوان المظالم لتطبيقها في أروقة المحاكم العامة. المسألة الأخرى -وهي الأهمّ برأيي؛ لأنها تحل مشكلة الخبرة بالنسبة للقضاة الجدد- هو استحداث الديوان ل(بنك المعرفة) وهو مركز داخل ديوان المظالم، يعنى باستقراء الأنظمة والقرارات والتعاميم الصادرة من الديوان أو غيره من المؤسسات الحكومية والوزارات، وجمعها وأرشفتها مكتبياً وحاسوبيا؛ تمهيداً لنشرها في بوابة الديوان الإلكترونية، من أجل تمكين القضاة والخصوم والمهتمين من الرجوع إليها والاستفادة منها. الأجمل أن الديوان كما فهمت يسعى لنشر أحكامه جميعا في الموقع وبشكل سنوي كضمانة للعدالة.. وليس اختيار عدد قليل منها لا يجاوز العشرات كما في مدونة وزارة العدل. معالي الشيخ إبراهيم الحقيل نموذج إداري مشرق لأحبتي الشرعيين، يبدّد كل التهم التي تطال انعدام القيادات الإدارية الفذة في المؤسسات الشرعية، وينبغي علينا رصد ما عمله معاليه وأنجزه وما يتطلع إليه، واستنساخ الخطوات التطويرية المبدعة التي قام بها في كلٍّ من وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، واستلهام رؤيته العامة في التغيير ببقية المؤسسات والهيئات الشرعية في وطني، فالرجل أبان عن مدرسته وأعلنها صريحة بأن "مقاومي التغيير أعاقوا من مسيرة التطوير"، و"الفساد الإداري سيستشري إذا لم يوجد قضاء إداري فعّال". * إعلامي سعودي [email protected]