جيش مصر قادر    بالأسماء.. ننشر نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظة الوادي الجديد    حلم «عبدالناصر» الذى حققه «السيسى»    كوادر فنية مُدربة لسوق العمل    «الجيزة» تطلق مراجعات مجانية لطلاب الثانوية العامة.. تبدأ اليوم    «التعليم» تحقق في مزاعم تداول امتحانات الدبلومات الفنية 2024    «حياة كريمة» تطلق قوافل طبية مجانية اليوم في محافظتين.. اعرف الأماكن    تحقيقات النيابة: سفاح التجمع الخامس قتل أول سيدة العام الماضى    الحكومة توضح موعد وقف خطة تخفيف الأحمال نهائيًا    صادرات الملابس الجاهزة ترتفع 23% أول 4 شهر من 2024    تداول 60 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    رئيس جهاز 6 أكتوبر يتابع سير العمل بمحطة مياه الشرب وتوسعاتها    مصر للطيران تسير اليوم أولى رحلات الجسر الجوى لنقل حجاج بيت الله الحرام    أستاذ اقتصاد: هناك طفرة اقتصادية في العلاقات بين مصر والصين في عهد السيسي    متحدث الرئاسة: قمة مصرية صينية ببكين اليوم    الجيش الإسرائيلي: مقتل 3 جنود وإصابة 10 في معارك رفح    الخارجية: مصر تلعب دورًا فاعلًا في عمليات حفظ السلام    كريم فؤاد: موسيماني جعلني أمر بفترة سيئة.. ومستوى إمام عاشور بعيد عن أي لاعب آخر    رودريجو يرد على تكهنات رحيله عن ريال مدريد في الصيف    برشلونة يحسم موقفه من بيع رباعي الفريق    شوبير يكشف حقيقة تفاوض الأهلي مع بغداد بونجاح لتدعيم هجومه في الصيف    ماجواير يستعد لمحادثات حاسمة مع مانشستر يونايتد    رئيس جامعة حلوان يتفقد كلية التربية الرياضية بالهرم    لجنة القيد تحت التمرين.. بداية مشوار النجومية في عالم الصحافة    إدعى إصدار شهادات مُعتمدة.. «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا في الإسكندرية    الأرصاد تحذر المواطنين.. تغيرات في الحرارة تؤثر على الطقس حتى نهاية الأسبوع    اليوم.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية    فرقة aespa ترد على رسائل شركة HYPE للتخلص منها    مصطفى كامل يهنئ الدكتور رضا بدير لحصوله على جائزة الدولة التقديرية    وزيرة الهجرة تستقبل أحد أبناء الجالية المصرية في كندا    «السبكي» يستقبل رئيس «صحة النواب» في زيارة تفقدية لمستشفى شرم الشيخ الدولي    جامعة القاهرة: قرار بتعيين وكيل جديد لطب القاهرة والتأكيد على ضرورة زيادة القوافل الطبية    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى العمرانية دون إصابات    توريد 223 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    توضيح حكومي بشأن تحويل الدعم السلعي إلى نقدي    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 29 مايو 2024: تحذير ل«الأسد» ومكاسب ل«الجدي»    بعد ترميمه.. "الأعلى للآثار" يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بالدرب الأحمر    وفد جمهورية مصر العربية يُشارك في الاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإفريقي لعام 2024 بكينيا    بعد مجزرة المخيم.. بايدن: عملية إسرائيل في رفح الفلسطينية لم تتخط الخطوط الحمراء    بدء التصويت فى الانتخابات التشريعية بجنوب أفريقيا    وزارة الصحة تكشف المضاعفات الخطرة للولادات القيصرية غير المبررة.. انفوجراف    لهذا السبب.. مي نور الشريف تتصدر تريند "جوجل" في السعودية    3 دول أوروبية تعترف رسميا بدولة فلسطين.. ماذا قال الاحتلال الإسرائيلي؟    أفضل دعاء الرزق وقضاء الديون.. اللهم ارزقني حلالًا طيبًا    الخارجية الروسية تعلق على تصريح رئيس الدبلوماسية الأوروبية حول شرعية ضرب أراضيها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «شمتانين فيه عشان مش بيلعب في الأهلي أو الزمالك»..أحمد عيد تعليقا على أزمة رمضان صبحي    بلاتر: كل دول العالم كانت سعيدة بتواجدي في رئاسة فيفا    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    حسين حمودة: سعيد بالفوز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب لاتسامها بالنزاهة    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايتي مع صلاح عبد الصبور ( 12 )
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 11 - 2010


1
في منتصف سبعينيات القرن العشرين حصلتُ علي شهادة إتمام دراسة القسم الأدبي للثانوية العامة بمجموع درجات مرتفع جعلني ضمن العشرة الأوائل الذين تنهال عليهم عروض الجامعات العالمية. وكان من نصيبي أربع منح كاملة تسمح لي باستكمال دراستي في التخصص الذي يروق لي بإحدي الجامعات الأمريكية أو السوفيتية أو العراقية أو السعودية، علي أن تتكفل حكومة الدولة التي سوف أختارها بكافة نفقات الدراسة والإقامة، وبتوفير بدائل وظيفية مرموقة لديها بمجرد إكمالي لدراستي الجامعية. إلا أنني كنت قد اتخذتُ أول قراراتي المصيرية بدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة تمهيداً لتأدية دوري الوطني بين صفوف الشعب المصري، فقمت بشراء الاستمارات اللازمة للالتحاق بالجامعة بعد استدانتي لقيمتها المالية من أصدقائي الذين جمعوها فيما بينهم، ثم جلستُ القرفصاء علي الرصيف المجاور لمكتب التنسيق حتي انتهيت من تحريرها وتوقيعها، وبعد عدة محاولات فاشلة لاختراق الحشود الطلابية نجحتُ في الوصول أمام شباك المكتب حيث سلمتُ استماراتي لأحد الموظفين، والذي ما أن وقعت عيناه علي مجموع درجاتي المرتفع حتي نصحني بإعادة مراجعة قراري لكيلا أندم لاحقاً بسبب إهداري لمستقبلي المهني في الجامعات المصرية التي وصفها بالتخلف والرداءة!!.
كانت "القاهرة" آنذاك تتميز عن بقية المدن المصرية بوسائل مواصلاتها العامة، كالأوتوبيس النهري الذي أوصلني من ميدان التحرير إلي كوبري الجامعة طفواً علي سطح مياه النيل وكالتروللي الذي كان بطيء الحركة لدرجة ساعدتني علي القفز داخله أثناء اجتيازه لمياه النيل عبر الكوبري متجهاً إلي أبواب جامعة القاهرة. ورغم أنه كان بمقدوري استخدام أوتوبيس النقل العام الأرضي العادي بتذكرة ركوب واحدة قيمتها خمسة مليمات للوصول إلي هدفي، إلا أنني آثرتُ دفع قيمة تذكرتين اثنتين لوسيلتي مواصلات حتي أحصل فيما بينهما علي جرعة مكثفة من أحضان صديقي الدائم نهر النيل، الذي اعترفتُ في حضرته بكل مخاوفي وأحلامي الشخصية والمهنية والوطنية قبيل بداية يومي الدراسي الجامعي الأول. فوجئتُ بالغضب يعتري وجه صديقي حيث كانت أعماقه تفور لتدفع إلي السطح بأمواج هائجة تتلاطم بعنف مدوي مع المياه العفية الواردة بغزارة من الجنوب. عللتُ غضب النهر بحلول موسم الفيضان وشجعتُ نفسي بترديدي لعبارة "الله المستعان" عدة مرات خلال سيري نحو مبني كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهناك كان كل شيء قد تم إعداده سلفاً لاستقبال المستجدين المائة الذين يتميزون بارتفاع درجاتهم الدراسية وطموحاتهم المهنية، إذ وقف بعض كبار رجال الدولة البارزين من أساتذتنا الجدد للترحيب بنا علي درجات السلم الأمامي للكلية، أما علي درجات السلم الجانبي البعيد فقد وقف رئيس اتحاد الطلاب يصرخ لتحذيرنا من المصير المؤسف الذي سنلقاه بسبب حصول الكسالي من أبناء المحاسيب علي الوظائف المخصصة لنا مع أنهم يحملون مؤهلات أدني مما نحمله، الأمر الذي سوف يدفعنا حتماً للقبول بما يتبقي من وظائف أدني تقل كثيراً عن طموحاتنا. وسرعان ما اتجه المستجدون المائة نحو السلم البعيد للالتفاف حول الزعيم الطلابي تاركين خلفهم الأساتذة رغم كل ما بذلوه من جهد لجذب الانتباه!!.
2
لم يستسلم عميد الكلية الذي كان في الوقت ذاته أحد قيادات الحزب الحاكم ثم أصبح لاحقاً المسئول البرلماني الأول، واستمر في موقعه حتي تم اغتياله رمياً بالرصاص في عملية شديدة الغموض خلال عبوره شوارع وسط "القاهرة" تحت حماية موكب حراسته المدجج بأرقي أنواع التسليح، حيث حاول استعادة المبادرة بامتصاص صدمتنا المفاجئة ودعوتنا إلي لقاء فوري داخل المدرج الرئيسي للكلية، وبمجرد اعتلائه المنصة اعترف لنا بصحة المخاوف المتعلقة بمستقبلنا المهني كما جاء في تحذيرات رئيس اتحاد الطلاب، والذي أصبح لاحقاً دبلوماسياً مرموقاً بوزارة الخارجية واستمر في موقعه حتي تم إيفاده إلي إحدي بؤر التوتر العالمي مما أودي بحياته هناك. دافع العميد عن الميزات النسبية لأبناء المحاسيب بدعوي أن لديهم خبرات عملية مميزة بالوظائف التي يتقدمون لشغلها نظراً لسابق احتكاكهم اليومي بها بسبب مواقع أبائهم علي رأس مؤسسات الدولة، وهو الدفاع الذي رفضه الزعيم الطلابي بدعوي أن استمرار واقع التوريث المهني يشكك في جدوي التعليم ويغلق الأبواب أمام الحراك الاجتماعي مما يخلق احتقاناً يهدد بالانفجار، ودارت مناقشات مستفيضة بين المنصة التي يشغلها أساتذة ينتمون لفئة المحاسيب وبين القاعة المكتظة بطلاب قلقين علي مستقبلهم المهني، ولما أدرك العميد أن المناقشات تميل لصالح القاعة تفتق ذهنه عن مناورة مضادة بدعوته للطلاب الجدد إلي تقديم مقترحات محددة، كان يراهن علي أن صغر السن وقلة التجارب مع المفاجأة سوف تعقد ألسنتنا مما يسهل عليه إغلاق الملف أو تعليقه تمهيداً للانتقال إلي جدول المحاضرات، فإذا بي أقف لأقترح منح الطلاب الاحتكاك اللازم لحصولهم علي ما يفتقدونه من خبرات عملية عبر تدريبهم ميدانياً خلال أعوام الدراسة تحت إشراف الكلية داخل مؤسسات الدولة المختلفة ليتساووا بذلك مع أبناء المحاسيب، دون أن تفوتني الإشارة إلي نجاح كليات الطب في الأخذ بأسلوب التدريب العملي لطلابها داخل المستشفيات. صفق رئيس اتحاد الطلاب ومن خلفه القاعة ثم صفق العميد ومن خلفه المنصة ترحيباً بما اتفق الطرفان علي اعتباره ميلاداً مبكراً لزعيم طلابي جديد!!.
بدأ التنفيذ الفوري لاقتراحي برفع جدول المحاضرات النظرية لتعديله بحيث يتم تخصيص يوم كامل من كل أسبوع يحصل فيه الطلاب علي فرصة التدريب العملي داخل أروقة إحدي مؤسسات الدولة وفقاً لما يختاره كل طالب لنفسه. وكان اليوم الأول مفتوحاً لزيارة جميع المؤسسات التي شملت فيما شملته رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ومجلس الشعب ومجلس الدفاع الوطني ووزارة الخارجية ووزارة الإعلام وغيرها. لم يعجبني معظم موظفي تلك المؤسسات لكونهم يتسمون إما بالغموض والانغلاق والتجهم أو بالمراوغة والفهلوة والانتهازية باستثناء الهيئة العامة للاستعلامات بوزارة الإعلام والتي وقع عليها اختياري لتدريبي العملي الميداني، لاسيما وأن رئيسها الذي كان ينتمي إلي إحدي العائلات ذات الإسهامات الثقافية المميزة قد فتح مكتبه طوال اليوم للطلاب المتدربين لنتابع عن قرب تفاصيل الأنشطة التقليدية وغير التقليدية التي تتولاها الهيئة، وعلي رأسها إدارة العلاقات العامة الرسمية والمجتمعية مع التنسيق الرأسي والأفقي داخلياً وخارجياً، والاتصال المستديم والمباشر بكل المعنيين بكافة الشئون العامة والذين تمدهم الهيئة في زمن قياسي باحتياجاتهم من المعلومات والأفكار والبدائل المختلفة لحل المشكلات المستعصية عليهم، إلي جانب أنشطة الدبلوماسية الشعبية عبر مكاتب الهيئة التي كانت تنتشر في أربعة أركان الأرض لتغزل بمهارات استثنائية حبال الوصل الودي بين الشعب المصري وشعوب العالم الأخري، بمن فيهم الهنود حيث كان يرأس المكتب الإعلامي المصري هناك آنذاك الشاعر "صلاح عبد الصبور"، وقد تصادف أنني التقيته عدة مرات خلال تدريبي بديوان الهيئة بينما كان يقضي إجازاته السنوية في "القاهرة". وفي إحدي المرات وجهتُ له السؤال الذي يؤرقني حول موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه وشعبه فاستوضح مني بذكاء عما إذا كانت إجابة السؤال إجبارية أم اختيارية، ولما أوضحتُ له أن السؤال إجباري بالنسبة لي بينما الإجابة اختيارية بالنسبة له وجد لنفسه مخرجاً دبلوماسياً ليتهرب من إجابة سؤالي!!.
3
لأنني كنت أحفظ عن ظهر قلب أشعار "صلاح عبد الصبور" المنشورة في دواوينه ومسرحياته، فإن تهربه من إجابة سؤالي حول علاقة المثقف بالسلطة أثار في ذهني عدة أسئلة جديدة أخذت تتصاعد لتفور كالماء الهائج ثم تتلاطم فيما بينها ليل نهار كأمواج موسم الفيضان... هل موقعك داخل السلطة يا شاعر هو الذي وصفه ديوانك "تأملات في زمن جريح" بأنه يأتي عند آخر الممر بدون اسم ولا سيف واقفاً خلف مهرج البلاط والمؤرخ الرسمي والعراف بعد أن استأجرك السلطان بالقطعة مقابل إعارته إياك بعض أثوابه المذهبة... أم إنك ما زلت تحاول وأنت في موقعك داخل السلطة يا شاعر أن تحكي للسلطان حقيقة الذي كان مع إضافة بعض الألوان كما جاء في مسرحيتك "بعد أن يموت الملك"... ولعلك قد أصبحت يا شاعر مهزوماً مزهواً بهزيمتك حسب اعترافاتك في ديوانك "أحلام الفارس القديم"... وكيف التحقت بالسلطة يا شاعر في الزمن الذي وصفه ديوانك "أقول لكم" بأنه زمن الحق الضائع الذي لا يعرف فيه المقتول من قاتله ومتي قتله... وقالت عنه مسرحيتك "ليلي والمجنون" إنه زمن مفقود بين زمنين ينتظر القادم لا يصلح أن نكتب أو نتأمل أو نتغني أو حتي نوجد فيه... هل استعبدوك ليرغموك بالقوة القهرية علي العمل في صفوفهم كأسري الحرب يا شاعر استناداً إلي مخاوفك المعلنة في مسرحيتك "مسافر ليل" بقولك "ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ في يده خنجر وأنا أعزل"... أم استدرجوك بإغراءات الحياة المباشرة يا شاعر استناداً إلي تلميحاتك المكشوفة بديوانك "الناس في بلادي" حول مدي فرحتك بالحياة لو قالت لك "الملك لك، الملك لك، الملك لك"!!.
اندفعتُ في كافة الاتجاهات بحثاً عن إجابات لأسئلتي المحيرة حتي أنني كشفتُ حيرتي لرئيس قسم العلوم السياسية المكلف بمتابعة تدريبي الميداني، والذي تم العثور لاحقاً علي جثته مقتولاً بسم غامض داخل شقته الواقعة في ميدان الجيزة عقب انتهاء الأجهزة المعنية من الاستعانة به لتأدية بعض المهام بالغة السرية. أفادني رئيس القسم بأن الإجابات علي الأسئلة ذات الطابع الشمولي كأسئلتي توجد فقط في دواخل منظومتي الفلسفة العقائدية الدينية والماركسية، مكلفاً إياي بعرض ما أتوصل إليه من نتائج علي زملائي الطلاب في الجلسة التالية لقاعة الأبحاث الحرة. وسرعان ما وجدتُ ضالتي ضمن قاعدة "الوحدة والصراع" المشتقة من فرع التنظيم بالفلسفة الماركسية، والتي تشرح كيفية استمرار علاقة الانسجام الإيجابي بين حرية الفرد والتزامه بالمؤسسة التي ينتمي إليها حتي لو كانت تسودها أفكار مخالفة لأفكاره الخاصة، فهو يستطيع التعبير عن نفسه بحرية مطلقة عندما يتحدث بصفته الشخصية، أما إذا كان حديثه باسم المؤسسة أو بصفته أحد المنتمين إليها فإنه يلتزم بالقاسم المشترك لمجمل أعضاء المؤسسة أو بالقواسم المشتركة للمجتمع كله لو كانت مؤسسته ذات طابع وطني عام، دون أن يفقد حريته في التعبير عن نفسه عندما يعاود الحديث بصفته الشخصية. ورغم التشدد الفكري المصاحب لمرحلتي العمرية آنذاك فإنني لم أكره التحاق الشاعر "صلاح عبد الصبور" بإحدي مؤسسات السلطة، بل علي العكس أحببت الهيئة العامة للاستعلامات مجدداً لقدرتها علي احتوائه بين ضلوعها التي اكتشفتُ فيما بعد أنها ضمت غيره من المثقفين ذوي الأفكار المستقلة التي تتسم بالعمق والانفتاح والجرأة لتميزهم عن قطعان الموظفين الآخرين بأفكارهم النمطية، حتي أن حبي للهيئة ظل يلازمني إلي يومنا هذا مع أنها لم تبادلني حباً بحب إلا قليلاً!!.
4
شهد عام 1977 زيارة رئيس الجمهورية إلي "إسرائيل" ثم قيامه باستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي علي أرض "مصر"، وشهد عام 1978 توقيع اتفاقيتي "كامب ديفيد" للسلام بين الدولتين، وتم تتويج المسيرة عام 1979 بإبرام معاهدة الصلح المصرية _ الإسرائيلية والتي نصت علي تبادل السفارات مع تطبيع العلاقات في كافة المجالات الرسمية والشعبية. وبينما أوفت السلطات المصرية بالتزاماتها الرسمية تجاه "إسرائيل" علي مضض فإنه لم تكن هناك أية قوة تستطيع دفع المصريين نحو التطبيع مع أعدائهم التاريخيين في أي مجال شعبي، مما حذا بالسلطات الإسرائيلية لإرسال عدة تشكيلات متتالية من الكوادر البشرية عالية التدريب الاستخباراتي لاختراق مختلف قواعد الشعب المصري بهدف تحريكها في كل الاتجاهات التي تؤدي إلي القبول بتطبيع العلاقات علي المستويات الشعبية، الأمر الذي أغضب الأحزاب والقوي السياسية المصرية بدون استثناء فتداعوا مع بداية عام 1980 لتشكيل لجنة مشتركة هي الأولي من نوعها في العصر الحديث تحت اسم "اللجنة القومية لمقاومة التطبيع"، والتي تطورت لاحقاً إلي فرعين أحدهما للدفاع عن الاقتصاد القومي والآخر للدفاع عن الثقافة القومية. كلف الاجتماع التأسيسي سياسياً مخضرماً برئاسة اللجنة مع بعض المخضرمين الآخرين الذين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي كنواب له، أما أنا والذي كنت ممثلاً للطلاب فقد اختارني المجتمعون بإجماع أصواتهم في موقع أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع. وسرعان ما شرعنا في وضع وتنفيذ الخطط المضادة لأنشطة التشكيلات البشرية الإسرائيلية حيث حققنا نجاحاً مشهوداًً في إحباط الغالبية العظمي من عملياتهم الرامية لاختراق قواعد الشعب المصري، حتي وصلتني إفادة في بداية عام 1981 بأن معرض القاهرة الدولي للكتاب والمقرر افتتاح دورته التالية بعد أيام قلائل ليحج إليه المثقفون والمتذوقون والجمهور المصري من كل صوب، سوف يضم بين جنباته جناحاً إسرائيلياً، فأجريت اتصالات عاجلة برئيس اللجنة ونوابه ليكلفونني جميعهم بتدبير أمر "المقاومة" وفقاً لما أراه مناسباً بسبب ضيق الوقت المتبقي قبل موعد الافتتاح!!.
كان الشاعر "صلاح عبد الصبور" قد تولي رئاسة الهيئة العامة للكتاب في أعقاب عودته إلي ديوان الهيئة العامة للاستعلامات بعد انتهاء مهمته الدبلوماسية الشعبية في "الهند" بنجاح، رغم كراهية ذلك من قبل خصومه وبعض أبناء كاره ذوي النفوذ المؤثر داخل الأوساط الثقافية علي خلفية أنه من الأجدر له رئاسة هيئة الاستعلامات لتخلو لهم هم رئاسة هيئة الكتاب، لاسيما وأن رئيس الاستعلامات كان قد استقال لتوه تحاشياً لضغوط رامية إلي توريط هيئته في أنشطة تخالف أهدافها الوطنية. وبمجرد تولي "عبد الصبور" لموقعه الجديد علي رأس هيئة الكتاب أصبح بالتبعية رئيساً لمعرض القاهرة الدولي للكتاب والذي تقرر أن يضم بين جنباته للمرة الأولي جناحاً للإسرائيليين، أولئك الذين سبق أن وصفهم هو نفسه علي صفحات ديوانه "الناس في بلادي" بأنهم التتار الذين أسقونا مرارة الانكسار متوعداً إياهم بالقتل انتقاماً للإخوان الذين استشهدوا بلا أكفان... فإذا بالشاعر يفاجئ الجميع ويضع توقيعاته اللازمة للترحيب بالجناح الإسرائيلي مستخدماً نفس قلمه الذي كتب به شعره الكاره لهم، دون أن يتعظ بالتجارب السابقة لبعض المسئولين الآخرين الذين تحاشوا السقوط في إحراج تاريخي أقل من ذلك بتركهم لمناصبهم الرسمية التي لا تقل أهمية عن منصبه، ربما رضوخاً منه لضغوط الجهات المعنية والتي كانت بدورها قد رضخت للضغط الخارجي رغم ما تقتضيه مسئولياتها من مقاومته، مدفوعاً في ذلك بنوازع النفس البشرية الأمارة بالسوء والتي شبهتها مسرحيته "الأميرة تنتظر" بالدودة الزاحفة بعيداً عن أغصان الشجر الميتة لتلتصق بالأغصان المولودة النابتة... أو لعله اعتبر نفسه قد خدع التاريخ بتسريبه الخبر لي بصفتي أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع قبل أيام قلائل من حدوثه، مدفوعاً في ذلك بمكر الإنسان تجاه التاريخ كما جاء في ديوانه "مسافر ليل" بأن الإنسان يكتب التاريخ في أوراق ليأكلها ثم يعيد كتابته مرة أخري في أوراق جديدة لكي يأكلها فيما بعد!!.
(5)
أتم كل فريق استعداداته الخاصة للخروج من الحدث المنتظر بأقل الخسائر إن لم يكن بأكثر المكاسب المتاحة، حيث أرسل الإسرائيليون أفضل ما لديهم من كتب ومطبوعات وملصقات دعائية وشرائط تسجيل كاسيت وأدوات مكتبية لتوزيعها مجاناً علي زوار المعرض بواسطة تشكيلاتهم البشرية التي ضمت وحدتين اثنتين، الأولي لمهندسين وفنيين خبراء بفنون الإبهار التقني والمؤثرات السمعية والبصرية والأخري لدبلوماسيين وموظفين محترفين في مجالات العلاقات العامة والخاصة وتوجيه الرأي العام. بينما أكملت الجهات المعنية من جانبها تركيب أجهزة المراقبة الصوتية والمرئية الخفية داخل الجناح الإسرائيلي وعلي امتداد كل الممرات المؤدية منه وإليه، كما وزعت كوادر الحراسات الخاصة والخدمات السرية في المواقع المنتقاة حول الجناح إلي جانب قوات التدخل السريع المختصة بفض التجمعات والتي وقف أفرادها علي أهبة الاستعداد في دائرة أوسع محيطة بالجناح. أما خصوم "صلاح عبد الصبور" الأقوياء من أبناء كاره فقد اتصلوا بكل الصحف ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية، داعين إياهم للحضور وتسجيل حادثة سقوط الشاعر الوطني في هاوية الخيانة الوطنية بسبب حرصه علي منصبه الرسمي. الأمر الذي حاول "عبد الصبور" تفويته علي خصومه بوضع خطة للغياب من ميدان المعركة عبر ادعاء المرض الذي سيحول دون مشاركته في مراسم افتتاح المعرض بما تقتضيه من مصافحته للإسرائيليين. وأخيراً بالنسبة لي أنا فقد قمت بإبلاغ أعضاء اللجنة القومية لمقاومة التطبيع للحضور بصحبة أكبر عدد ممكن من الأصدقاء والجمهور لنعلن علي الملأ موقفنا الشعبي الحاسم برفض الخطط الإسرائيلية لاختراق مؤسساتنا الثقافية، حتي لو كان موقف المعنيين بذلك يتسم بالرضوخ الذليل أو الهروب المهين!!.
التقطت الجهات المعنية كل الذين طالتهم أياديها الأخطبوطية من المعارضين فجر يوم افتتاح المعرض لتزج بهم في منازعات جانبية متعددة أسفرت عن تعطيلهم إلي ما بعد انتهاء مراسم الافتتاح، أما الذين أفلتوا من حملة الفجر فقد التقطهم كوادر الحراسات الخاصة والخدمات السرية قبل وصولهم إلي الأبواب الخارجية لأرض المعارض، حيث نقلوهم بواسطة سيارات الترحيلات إلي شتات الصحاري النائية بعيداً عن الحيز العمراني بعشرات الأميال مما حال دون عودتهم قبل انتهاء مراسم الافتتاح. بينما أوصلتني خطتي بصحبة أصدقائي الخمسة إلي قلب المعركة في الوقت المناسب، عبر اتخاذنا لوضع الثنائيات الغرامية الملتهبة كتمويه مع تحركنا وسط رحلة جامعية كساتر لاسيما وأننا كنا ثلاثة شباب وثلاث صبايا نرتدي أزياء "الخنافس". وبمجرد وصولنا كان علينا الاختيار الفوري بين إلغاء المهمة بسبب الغياب القسري لمعظم رموز المعارضة وأعضاء اللجنة أو قيامنا نحن الستة فقط بتنفيذها علي أمل أن يدعمنا زوار المعرض بحسهم الوطني الغريزي، فكانت النتيجة لصالح التنفيذ. اتخذتُ موقعي علي رأس المثلث المتحرك صوب الجناح الإسرائيلي حتي استوقفني فتي فاجر وفتاة رقيعة لإهدائي طاقم أقلام داخل علبة ذهبية فخمة، عليها شعار أشهر الشركات العالمية في إنتاج الأدوات المكتبية وبجواره نجمة داوود السداسية، فوجدتُني مدفوعاً بقوة خمسين ألف شهيد مصري لإلقاء الهدية في وجهيهما وأنا أصيح لتنبيه المحيطين إلي حقيقة تلك الهدايا الملوثة بدماء أهالينا الشهداء، مع الإشارة لوجود العلم الإسرائيلي متصدراً أعلي الجناح بصفاقة وكأنه يتبول فوق رؤوسنا!!.
(6)
حدث هرج ومرج عفوي تكفلنا نحن الستة بتنظيمه، حيث حملني الزميلان علي أكتافهما لإنزال نجمة داوود إلي الأرض ووضع علمين متعانقين لمصر وفلسطين بدلاً منها، وأبقاني الزميلان فوق أكتافهما لأدعو الجمهور المحيط بنا إلي رفع صوته بالاحتجاج علي احتلال الجناح الإسرائيلي لقطعة من أرض المعارض بجزيرة الزمالك في قلب "القاهرة"، بينما لم يزل احتلال الجيش الإسرائيلي لقطعة من أرض "مصر" الشرقية بجزيرة سيناء، وصرخت الزميلات الثلاث بأعلي ما لديهن من طبقات صوتية للاستغاثة بزوار المعرض الآخرين فهرول إلينا المئات من الجمهور البعيد وقد أغضبتهم مفاجأة وجود الإسرائيليين بينهم. داست الحشود المهرولة بأقدامها الغاضبة نجمة داوود وهداياها المجانية ثم سرعان ما أمسكوا بالعلم الإسرائيلي لتمزيقه إرباً قبل إشعال النيران فيه، بينما الحناجر تهتف باللهجة العامية المصرية لتردد شعارات تؤكد الإجماع الوطني علي كراهية إسرائيل، حيث هتف الليبراليون قائلين "دم إخواننا للحرية موش لثقافة إسرائيلية"، بينما هتف القوميون بقولهم "دم إخواننا للتحرير موش لثقافة جولدا مائير"، أما الماركسيون فقالوا "دم إخواننا الفلاحين موش لثقافتك يا بيجين"، وتعمد الإسلاميون تقصير صلاتهم ليلحقوا بنا وهم يقولون "دم إخواننا بأمر الله موش لثقافة الهاجاناه"!!.
حددت الجهات المعنية هوياتنا نحن الستة علي وجه السرعة واعتبرتني قائد المجموعة، ثم شرعت في إخلاء الموقع بفض التجمهر مع الحيلولة دون إصابة الإسرائيليين ومنعنا من التسرب وسط الجمهور العادي، فأغلقت الأبواب الداخلية والخارجية بعد توزيع صورنا الفوتوغرافية هنا وهناك لمنع مغادرتنا، ثم أرسلت عدة تشكيلات من كوادر القوات الخاصة مفتولي العضلات لاختراق ميدان المعركة، تكفل بعضهم بتأمين سلامة انسحاب الإسرائيليين، وقام الآخرون بشل حركتنا نحن الستة عبر الالتفاف الكامل واللصيق حول كل واحد فينا مع التصريح لهم باستخدام العصي المكهربة والسوائل المخدرة عند مقاومتنا لسياجاتهم البشرية، وكان نصيبي بمجرد اشتباكي معهم للفكاك من أسرهم الغليظ هو شحنة كهربائية مكثفة ما زالت بقاياها ترفض مغادرة عظامي حتي الآن. في نفس الوقت الذي انتشرت فيه جحافل قوات التدخل السريع المدربة لفض حشود المحتجين الغاضبين من الجمهور العادي بالهراوات الغليظة وخراطيم المياه وقنابل الغازات المسيلة للدموع والمثيرة للأعصاب، حتي نجحوا في إخلاء مسرح الأحداث من الجميع باستثنائنا نحن الستة فتم تكبيلنا تمهيداً لإيداعنا داخل سيارتي ترحيلات كانتا تنتظران خارج المبني، لتحمل إحداهما أصدقائي الخمسة معاً في رحلة معروفة إلي الأماكن المخصصة لتأديب المشاغبين، أما السيارة الأخري فقد تقرر أن تحملني بمفردي في رحلة غامضة إلي مكان مجهول ليس فقط بصفتي قائد المجموعة ولكن أيضاً لإقدامي علي الاشتباك مع كوادر القوات الخاصة، لولا الظهور المفاجئ للشاعر "صلاح عبد الصبور" رئيس هيئة الكتاب ورئيس المعرض والذي أربك بظهوره كل الأطراف!!.
(7)
أصدر "صلاح عبد الصبور" تعليماته الفورية لمرؤوسيه من موظفي أمن الهيئة والمعرض ذوي البنيان الجسماني القوي بالتدخل المباشر في المعركة لمنع ترحيلنا خارج المبني، فقاموا بوضع السلاسل الحديدية لإغلاق الأبواب بالأقفال بعد أن كان قد سبق إغلاقها بالمفاتيح بواسطة قائد المجموعة الميدانية للجهات المعنية ومساعديه، والذين أصبحوا في وضع المحتجزين معنا بدلاً من وضعهم السابق كمحتجزين لنا، الأمر الذي أسهم في تدعيم موقف "عبد الصبور" التفاوضي حيث أقنعهم بأن نبقي جميعاً داخل المبني المغلق لحين قيامه بإجراء الاتصالات السياسية اللازمة لتسوية الأزمة علي نحو يرضي كل الأطراف، بمن فيهم مجموعتنا حيث حرص الشاعر علي فك قيودنا باعتبارنا شباب وطني استفزتهم رؤية العلم الإسرائيلي أمامهم وجهاً لوجه في "القاهرة"، وتعمد "عبد الصبور" إسماعنا دفاعه عن نفسه خلال حواراته الهاتفية مع كبار قادة الدولة، مشيراً إلي أن الجهات المعنية هي التي فرضت عليه استضافة الجناح الإسرائيلي في المعرض رغم رفضه لذلك مما اضطره للتوقيع القهري بالموافقة وانسحابه من مراسم الافتتاح بادعاء المرض. أدرك الشاعر أننا حبل نجاته الوحيد لتحسين صورته الشخصية التي تلوثت ولانتشاله خارج المأزق المهني والوطني الذي فاق كل توقعاته بعد أن أوقع نفسه فيه، فحرص علي التودد إلينا وقدم لنا عصير الليمون بيديه وهو يربت علي أكتافنا داعياً إيانا للاطمئنان بقرب نجاح مساعيه في ضمان عدم تعرضنا لأية عقوبات حالية أو مستقبلية بسبب أحداث المعرض، ومؤكداً إن ما كنت أنا قد لقيتُه في ذلك اليوم من ضرب بالعصي المكهربة يكفيني كعقوبة يصعب نسيانها حتي آخر العمر!!.
في تلك الأثناء كان المحتشدون خارج المبني يزدادون عدداً حتي تجاوزوا العشرة آلاف متظاهر يطالبون بإطلاق سراح الطلاب المحتجزين في الداخل، من قبل الجهات المعنية كما أشار بعضهم ومن قبل الإسرائيليين كما ألمح البعض الآخر، أما خصوم الشاعر "صلاح عبد الصبور" فقد أطلقوا إشاعة مفادها إننا محتجزون بأوامره الشخصية في إطار تبعيته لإسرائيل وعمالته للجهات المعنية، وراحوا يكيلون له الاتهامات والإهانات والشتائم دفاعاً عن مجموعتنا رغم أننا نحن المجني عليهم المفترضون كانت لنا رؤية أخري. لم تفت في عضدي مناورات "عبد الصبور" لاحتوائي أنا وأصدقائي الخمسة بهدف استخدامنا في تحسين صورته وانتشاله من مأزقه، كما لم تفت في عضدي إشاعات خصومه المتطلعين نحو إزاحته عن رئاسة هيئة الكتاب بهدف إخلاء الموقع لأنفسهم، حيث رأيته مثقفاً بائساً خالف ضميره الشعري وتاريخه الوطني بنفسه مرتين، أولاهما عندما وافق علي أن يحتويه السلطان بين أعمدة حكمه، ولعله قد انطلي عليه الخداع رغم أنه هو نفسه صاحب مسرحية "الأميرة تنتظر" التي سخر فيها من الأحلام وقد خدعتنا وانخدعت فينا حتي أصبحنا نتشبث بحبال الحياة المبتوتة... أما المرة الثانية فعندما أحجم عن الانسحاب الواجب حفاظاً علي بقايا ضميره بعيداً عن أعمدة الحكم التي اعتراها العفن، ربما بدافع الطمع في المزيد من الهبات السلطانية رغم أنه هو نفسه صاحب ديوان "مسافر ليل" الذي سخر فيه من النهاية المأساوية لأحد أتباع السلطان والذي طمع في قطعة أرض فوهبه السلطان الأرض بأكملها كي يرقد فيها!!.
(8)
مع الازدياد المتتالي لأعداد الحشود الجماهيرية الغاضبة المتدفقة من كل صوب لتحيط بالمبني الرئيسي في معرض الكتاب، وإزاء نقل الأحداث عبر أثير إذاعات الدول العربية التي كانت آنذاك تسمي بمجموعة "الصمود والتصدي"، فقد اتسع نطاق الأزمة وارتفع سقفها بما يفوق قدرات أطرافها المباشرة، الأمر الذي استدعي تدخل القيادة السياسية لوضع خريطة طريق تكفل التسوية بأقل خسائر ممكنة، وهو ما تحقق بالفعل قبل نهاية اليوم. حيث صدرت عدة قرارات هامة أحدها فقط هو المعلن بإغلاق الجناح الإسرائيلي في معرض الكتاب نزولاً عند رغبة الجماهير المصرية مع عدم إشراك إسرائيل في أية مناسبة ثقافية مستقبلية، وهو القرار الذي لم يزل سارياً حتي اليوم رغم النجاح الإسرائيلي في اختراق معظم مؤسساتنا ومناسباتنا الأخري، أما القرارات السرية الأخري فقد تضمنت نقل أرض المعارض من وسط "القاهرة" إلي ضاحية مدينة نصر التي كانت آنذاك إحدي المناطق النائية، ومنع الجمهور العادي من زيارة المعرض خلال يوم الافتتاح بقصر الدخول فيه علي الرسميين فقط، مع تسليم الجهات المعنية مهمة الإشراف علي أمن المعرض من ألفها إلي يائها دون أدني مشاركة لأمن هيئة الكتاب صاحبة المعرض. بينما تم اتخاذ وتنفيذ قرار إطلاق سراحنا لمجرد استخدامنا في تهدئة حشود الجماهير الغاضبة حتي يمكن تفرقتهم بعيداً عن أرض المعارض، ذلك أن عودتنا إلي منازلنا كانت مشروطة بمرورنا عبر المتظاهرين لطمأنتهم بسلامتنا، كما أن تلك السلامة لم تستمر لأكثر من شهر رغم وعود "صلاح عبد الصبور" حيث انفردت الجهات المعنية بي لاعتقالي بتهمة إنشاء تنظيم سياسي اسمه "اللجنة القومية لمقاومة التطبيع" دون الحصول علي ترخيص بذلك، ثم اصطادت كل واحد من أصدقائي الخمسة علي حدا لتوضيبه حسب ظروفه!!.
كان الشاعر "صلاح عبد الصبور" قد تحاشي قبل عدة أعوام إجابة سؤالي حول موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه وشعبه، لكيلا يعترف بفشله في الجمع بين متناقضين لا يجتمعان، حيث يعني استمرار كتابته للشعر عدم صلاحيته لقيادة إحدي مؤسسات دولة السبعينيات في حين يتطلب استمرار قيادته للمؤسسة ترويضه لمارد الشعر داخل نفسه ولكنه أراد السير علي الحبلين معاًً، بإبقائه علي ولعه بكلمات شعره التي وصفها في ديوانه "أقول لكم" بقوله "عاشت لتهدهدني، لأفر إليها من صخب الأيام المضني"... وإبقائه في الوقت ذاته علي ولعه بالقوة الناجمة عن انتمائه للسلطة كما جاء في مسرحيته "مأساة الحلاج" التي كشفت نواياه وهو ينادي قائلاً "من لي بالسيف المبصر؟ من لي بالسيف المبصر؟"... وها هو يحاول مرة أخري خلال أحداث معرض الكتاب أن يتحاشي الاعتراف بفشله الذي أوقعه بين فكي كماشة الأوساط الرسمية من ناحية والأوساط الثقافية من الناحية المقابلة، في ظل بورصة الاتهامات والإهانات والشتائم التي زايد عليه فيها المزايدون من الناحيتين بلا هوادة. حتي كان يوماً تالياً علي أحداث المعرض بستة أشهر عندما تم استدعاؤه صباحاً لمقر الجهات المعنية، حيث اتهمته القيادة هناك بالانحياز للمثقفين المشاغبين مما تجلي في رعونة إدارته لأزمة المعرض الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بهيبة الجهات المعنية، وفي المساء كان يتوسط أحد مجالس المثقفين، الذين أجمعوا علي اتهامه بخيانة الوطن والتبعية لإسرائيل والعمالة للجهات المعنية مما تجلي في سماحه باستخدام القوة المفرطة ضدنا وباعتقالنا نحن الستة علي خلفية مقاومتنا للتطبيع مع إسرائيل. لم يتحمل قلب الشاعر تجريحه مرتين متتاليتين في ذات اليوم عقب جلده بقسوة معنوية شديدة هنا وهناك، فأخذ يردد بصوت مسموع ما سبق أن أوردته مسرحيته "الأميرة تنتظر" من قوله "يكفيني في اليوم الواحد جرح واحد" ثم أسلم روحه لبارئها، بعد أن كشفت أحداث معرض الكتاب بتداعياتها أن سؤالي حول موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه وشعبه، والذي كان "صلاح عبد الصبور" قد وجد لنفسه فيما سبق مخرجاً دبلوماسياً ليتهرب من إجابته، هو ليس بسؤال اختياري أو إجباري لكنه أحد الأسئلة الفاصلة بين حدود الحياة والموت!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.