السجن هو فقدان الحرية والشعور بثقل القيود والأغلال . والحرية هى الفطرة التى فطر الله الناس عليها، "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار" وأن تكون سجينا يعنى فى البداية أمران : الأول : أن تشعر بقيمة الحرية التى لم تكن تحس بها، كالصحة ونعمة العافية التى لا يراها إلاّ المرضى تاجا على رؤوس الأصحاء . الثانى : أن تعلم معنى الحرية الحقيقية، فليست الحرية مجرد الانطلاق بالجسد بلا قيود، فهناك حرية الروح التى لا تحدها حدود ولا توقفها سدود، ولا تقيدها أغلال ولا تحوطها أسوار. هنا تقرأ قول الله تعالى بتأمل وتفكر : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد: من الآية13) وتشعر بالمعنى الذى قصده شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عندما دخل سجن قلعة دمشق عدة مرات فقال "ما يفعل أعدائى بى، إن سجنى خلوة، وقتلى شهادة، ونفيى سياحة، جنتى وبستانى فى صدرى، أينما ذهبت فهى معى لا تفارقنى" وتردد مع الشهيد سيد قطب ترنميته الرائعة : أخى أنت حر وراء السدود أخى أنت حر بتلك القيود إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد إذا سيطر عليك المعنى الأول للحرية فإنك سيضيق صدرك إذا أغلقوا عليك الأبواب أو منعوك من الزيارات. أما إذا عشت المعنى الثانى للحرية الحقيقية فأنت ستشعر بالأنس الحقيقى مع الله حتى لو أغلقوا عليك الأبواب ولو عاقبوك بالسجن الانفرادى الذى عرفته مرتين، الأولى ل 21 يوما فى سجن القلعة عام 1981م وسط التعذيب والتشريد ومنع كل شئ أثناء التحقيقات فى قضية اغتيال السادات، والثانى ل 7 أيام عقوبة على احتكاك بمأمور سجن ملحق المزرعة، حيث لا مؤنس إلا القرآن والذكر والصلاة ولا حديث إلا بالتأمل والتفكر فى حكمة الله وقدرته وتصريفه للكون . **** السجن هو ابتلاء ومحنة، وامتحان وتجربة . وإن تكون سجينا أن تتأمل فى سنة الابتلاء فى الكون، وحكمة الله فيه . وأن أنسى لا أنسى كلمة والدة الأخ العزيز د. محمد بليغ الذى برأته المحكمة العسكرية فى القضية الأخيرة (قضية خيرت الشاطر ود. بشر وحسن مالك) وفور خروجه أصابه مرض خطير نادر، زحف على عضلاته يضعفها ويشلها عن الحركة، حتى قارب الفيروس النادر الوصول إلى قفصه الصدرى ليمنع عضلاته من التنفس وتكون النهاية المحتومة، وزرته مع أصدقاء بمستشفى "المقاولون العرب" حيث يرقد ضعيفا مسكينا صابرا محتسبا، وقالت أمه : "كان الأفضل عندى أن تحكم عليه المحكمة بأى سجن ولو طالت مدته، ولا أراه فى تلك الحالة ونحن عاجزون عن إنقاذه" وكانت رحمة الله قريب من المحسنين، فانتقل فورا إلى ألمانيا حيث تلقى علاجا عبارة عن مصل منع انتشار المرض وأنقذ الله حياته فى اللحظات الأخيرة . ونحن نتذكر الأخ الكريم فى نفس القضية من كفر الشيخ (سعيد سعد) وكان يوم خروجه من السجن هو يوم ابتلائه الأشد بفقدان ولده البكر فى حادثة أليمة، فكان الناس يعزونه ولا يهنأونه، ولا يدرون ماذا يقولون له، فأنت لا تدرى أى ابتلاء ينتظرك؟ وتأمل معى حكمة ابن عطاء الله التى يقول فيها : "لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت فى هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا مستحق وصفها، وواجب نعتها" وقد يدفع الله عنك ابتلاء أشد بآخر أخف، وهو السجن . وقد يمنع عنك العين والحسد إذا كنت ضيفا دائما على السجون . وقد يعوضك الله بنعم وفيرة كثيرة لا تدركها إذا صبرت ورضيت وأيقنت بأن اختيار الله لك هو الخير كله، وهو أفضل من اختيارك لنفسك . **** السجن للبريء ظلم بيّن، واعتداء على حرمات الناس أثيم . وإذا ذقت الظلم مرة أو مرات، فستتعلم ألا تظلم أحدا، وأن تكون رحيما بالخلق، كريما مع أعدائك، ذا مروءة مع خصومك . وإذا غصت فى المعانى فستعذر كل من يتعامل معك، لأنهم أدوات ووسائل ليس لهم من الأمر شيء . ستكون لطيفا صابرا حكيما فى تعاملك مع السجَّان الذى تراه يوميا يغلق عليك الباب الحديدى بقسوة، وفى تعاملك مع الحارس الذى يصحبك كل ترحيلة إلى النيابة أو المحكمة ومعه ورقة تشدد عليه أن يكون غليظا معك لأنك شديد الخطورة ويخشى من هربك، ومع رئيس النيابة الذى يحقق معك فى تهم هو أول من يعلم تهافتها وبطلانها وعدم جديتها، ومع الطبيب الذى يخاف أن يقترب منك وأن يقرر فى الأوراق خطورة مرضك لأن فوق رأسه ضابط أمن دولة يملى عليه القرار، وحتى مع رؤوس جهاز أمن الدولة الذين كنت تلقاهم بالأمس باشين مرحبين فإذا بهم يدبجون المذكرات الباطلة التى لابد منها شكليا لحبسك ومحاكمتك وسجن لسنوات طوال . حتى هذا السياسى الباطش الديكتاتور الذى يوهمه البعض بخطورتك وتدفعه التقارير السرية أو أجهزة المخابرات الأجنبية إلى البطش بك، لأنه لا يظلمك أنت وحدك، بل يمتد ظلمه إلى البلاد والعباد وهو يظن أنه يحسن صنعا، لأنه فى تقديره يحمى البلاد من خطرك الموهوم أو من خطر التدخل الأجنبى المزعوم . والأحق بالعذر أيضا هم أهلك الذين قد يتخلفون عن زيارتك أحيانا أو يبطؤون بها حينا، وأصدقاؤك الذين ظننت أنهم لن يتأخروا عن مؤازرتك فإذا بهم ينشغلون عنك بزحمة الحياة، ورفيق الزنزانة الذى يرقد بجوارك، ووجهه فى وجهك 24 ساعة بسبب الظروف النفسية والاجتماعية التى يمر بها، بل تعذر المساجين الذين لا يتوقفون عن طلب المساعدة ويظنون بك الخير، ولا يدرون أن استغاثة السجين بالسجين هى مجرد تنفيس عن النفس ولا تجدى نفعا . **** أن تكون سجينا يعنى أنك تتعرف على قدرك الحقيقى وقوة تأثيرك فى الحياة . وأنت حر طليق تتصور أن دولاب الحياة سيتوقف إذا غبت أو سافرت أو مرضت، فما بالك إذا سُجنت . وعندما تمر بك الليالى والأيام وأنت خلف الأسوار تشعر حينئذ بقيمتك الحقيقية، وأنك لست الرزاق، ولا المدير الخطير، ولا المسئول الهام، كل شيء يسير كما كان دون توقف أو تأثير، أنت مجرد أداة لقدر الله، وقدر الله لا يتوقف عليك ولا على غيرك . حينئذ ستعرف أهمية أن تعلّم زوجتك وأولادك وإخوانك معنى الإيمان الحقيقى بالله تعالى وقدرته وحياته وغناه وقوته، وأنهم وأنت والكون جميعا يسير بإرادته وهو سبحانه مسبب الأسباب ومقدّر الأقدار . أن تكون سجينا يعنى أن تتعلم البساطة والتواضع، فحياتك تتحول إلى أمور واهتمامات صغيرة جدا، وكل ملكك فى الدنيا هى حجرة لا تتجاوز بضعة أمتار فى بضعة أمتار، نصيبك منها قد لا يتعدى مترين مربعين تضع فيها كل أشياءك، هذه المساحة الصغيرة هى حجرة النوم والطعام والمعيشة والصالون والحمام والمكتب، هى كل حياتك، وطعامك مهما جاءك من الخارج هو البساطة بعينها، فأنت لا تملك شيئا، فتعلم أن الله هو مالك الملك وملك الملوك . تتعلم كيف تعتمد بعد الله على نفسك فى كل شئ، فلابد أن تنهض لخدمة نفسك وخدمة الآخرين الذين تجد السعادة فى خدمتهم والتخفيف عنهم . أن تكون سجينا يعنى أن تقترب أكثر من الله، تشعر بالفقر الحقيقى إليه، والاضطرار الجاد بين يديه، وترضى عنه سبحانه وترضى بقضائه وقدره، وأن تتعاطف مع كل مظلوم أو سجين مهما كانت جريمته وتسأل الله أن يتوب عليك وعليه . هذه خواطر سجين كتبها أثناء سجنه الأخير، وعاشها فى سجنه الطويل وخرج أخيرا من سجن صغير إلى سجن كبير، وسيخرج بعد حين طال أو قصر، من سجن الدنيا إلى الفضاء الأرحب، حيث تسرح الأرواح وتروح تحت عرش الرحمن، نسأل الله أن يجعل أرواحنا فى حواصل طير خضر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم .