وسط حالة الانقسام المجتمعي الحالية علينا جميعًا البحث عن مخرج يُبقى على لحمة المجتمع التي يحاول البعض تفتيتها من خلال آليات الديمقراطية التي اتفقنا على أنها الحَكَم في تداول السلطة والتي تؤكد احترام استحقاقات شعبية خمسة هي التعديلات الدستورية 2011م وانتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخاب الرئيس والدستور وما عداها يمكن أن يكون مادة للحوار المجتمعي. ولا يعنى هذا أن تتصرف آلية الحكم بلا رقابة ولكن من خلال محددات ديمقراطية ارتضيناها جميعًا ويلفظها البعض حينما لا تحقق مبتغاهم. ولعلنا حينما نناقش الوضع الحالي نتبين أن علينا بتر الفساد الذي يترعرع في جسد الوطن منذ عقود وهو أمر يستتبع تعديل قائمة العلاج بصورة حدية لأننا خلال عام كامل من انتخاب الرئيس تركنا الفساد يترعرع بصورة كبيرة دونما ضابط لأن اليد التي يجب عليها تطهير الجسد من هذا البلاء ضعيفة ومرتعشة ويتم غلها كلما حاولت القيام بأي عمل وهو أمر يستدعي أن تغير آليات عملها، لأن غالبية المؤسسات تدار بنفس الأسلوب القديم الذي انتفض الشعب لمحاربته، ومن ثَمَّ علينا أن ندرك أن الفكر الذي يضع العلاج يحتاج إلى تقويم خاصة مع ازدياد وتيرة الفساد نتيجة ضعف الآليات القانونية والأمنية في مواجهة تداعيات الفساد السابق وما يستجد من صور فساد جديدة باتت كظاهرة تستحق المواجهة. حين ندرك أن القانون الحالي الذي برّأ الفساد في العديد من قضاياه والذي أفتى بحل مجلس الشعب المنتخب والذي لا يقدر على ملاحقة الفساد والمفسدين، هو قانون مليء بالاستثناءات التي يمكن معها قانونًا ألا يتساوى الحكم على نفس الفعل لنفس الظروف وبالقانون وبالتالي فهذا القانون غير عادل. في ظل هذه المعطيات فالاحتكام إلى قانون غير عادل بهدف إعمال العدل وهو أحد مطالب الجماهير في انتفاضتها، يصبح إفسادًا وليس فسادًا وهو ما تغفل عنه آلية الحكم الحالية. ولن أستبق الأحداث لأشير إلى أن إعلان الأحكام العرفية لإيقاف مسلسل التدهور الأمني والتنموي لالتقاط الأنفاس أصبح ضرورة ملحة بهدف إصلاح منظومة الأمن والقضاء على أن يتم بالتوازي التفكير في الحلول الجذرية للمشاكل المجتمعية التي تفاقمت وبدون هذا ستلفنا آليات إفساد ممنهج ونستمر في دائرة غياب الأمن وتناقص معدلات التنمية. إن تجنيب البلاد ويلات الإفساد لا يمكن أن يكون من خلال النوايا الحسنة بل من خلال إصلاح المناخ القانوني والأمني وبسط العدل في مختلف أرجاء المجتمع وإنشاء أهداف قومية ومشاريع قومية يلتف حولها الشعب بدلًا من دائرة رد الفعل التي يدور فيه الحكم حاليًا. إن إصلاح القوانين وتنقيتها من الاستثناءات التي تغلفها في أسرع وقت لأمر لا يحتمل إلا اتخاذ إجراء فوري وحاسم. وحتى نكون منصفين فإننا يجب أن نشير إلى أن العهد السابق لم يكن فسادًا كله لكن الفساد كان هو السمة الغالبة فالقانون وهو ميزان الحكم كان فاسدًا بالاستثناءات التي فيه والتي لا يكاد يخلو منها قانون واحد. كما أن قضايا التصالح هي تقنين للفساد إن تعمقنا فيه لأن الملتزم يُضار لأنه لم يخالف وتضيع عليه فرصًا عديدة يقتنصها المخالف. هذا التصالح لابد له من بيئة فاسدة ليترعرع فيها فهو بذلك إفساد. كما أن عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب فساد. أعتقد أن حجم الفساد الذي تم كشفه دليل على ذلك وإن لم يتم كشف جميع الفساد الذي مازال يترعرع في مختلف أجهزة الدولة. علينا في الوقت ذاته رعاية المناحي التي كانت مبشرة وتخفت فيها لهجة الفساد مع تطهيرها. الفساد آفة لابد من اجتثاثها ولكن يجب ألا يلهينا إصلاح المبنى عن البناء. الإصلاح أفضل كثيرًا من الهدم فالهدم هو الخطوة الأخيرة إن لم ينفع الإصلاح والذي أتمنى أن يبدأ بصورة جدية جذرية الآن الآن وليس غدًا. حينما نتفرغ للهدم دون البناء فهذا فساد عظيم. علينا البناء وتطهير المجتمع من الفساد والإفساد بالقانون وبالعدل فالعدل هو الركيزة الأهم في أية منظومة قويمة للتنمية. إن تحدياتنا جسيمة وعلينا أن نكون على مستوى التحدي ولنتذكر أن حالنا ليس أسوأ من البرازيل أو ألمانيا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية أو اليابان بعد الحربين العالميتين أو روسيا التي تحولت خلال سنوات قليلة من دولة زراعية إلى إحدى أقوى قوتين في العالم. ولنتذكر دومًا أننا نحتاج إلى حسم وعزم وعدل داخل خطة قومية من خلال هدف قومي يتحرك فيه الشعب جميعه، فالعواء الذي نسمعه من البعض منشأه الأساسي الفراغ التنموي وغياب الأمل في المستقبل الذي نكاد لا نرى فيه شمعة في نهاية النفق. وعلينا أن ندفع الحكومة لتوجد تنمية حقيقية بصورة جادة من خلال تنقية القوانين ثم تفعيلها وتفعيل الدستور. علينا أن نحافظ على ما اكتسبناه من خلال خمسة استفتاءات وندفع في طريق البناء لنوجد الحلم الذي نرى فيه وطننا في وضع يستحقه. ويبقى أن على القيادة عامل مهم في التنمية وأولى مواصفاتها أن تتخذ العلم منهجًا لعملها فالقيادة ليست خطبًا عصماء ولكنها رؤية وجهد وعمل وقدوة وقبل ذلك عدل في التطبيق وهو ما يُنتج علمًا يقود المجتمع وينميه. لقد عشنا في ستينيات القرن الميلادي المنصرم حلمًا قوميًا علينا أن نستفيد من ايجابياته ونتجنب سلبياته، أما الآن فإن الحلم لم يتشكل بعد بالوضوح وبالتفاصيل التي يجب أن يكون عليه وبالتالي لم يُطرح للشعب وهو أمر خطير لأننا بهذا لا نستطيع تحريك الجماهير إلا لتلبية احتياجاتها المادية فقط وهو أمر لا يمكنه أن يحدث طفرة التنمية المجتمعية التي نحلم بها كما أن قصر الأمر على الاحتياجات المادية الآنية فقط أمر سلبي لأنه يدفع المجتمع إلى الصراع المادي ويفك لحمته ويعطي في نفس الوقت الأطراف المناوئة لتنمية الوطن ورقة رابحة يشعر بها المواطن العادي فلا يتحدث إلا عن المطالب المادية دونما الحديث عن تنمية الوطن والتضحية من أجله. لقد أعطى غياب المشروع القومي الفرصة للمسوخ التي تتمسح في تلك الفترة الفرصة للظهور مع أنها لا تستحق أن نعيرها اهتمامًا لخوائها الفكري وعدم طرحها أية مشاريع قومية يمكن أن يلتف حولها الشعب. وسط هذا الضباب يلفت النظر ما يقوم به وزير الثقافة من تطهير للبيت من الداخل ومن فضح لأوجه الفساد الذي تغلغل في جسد الوطن الثقافي، وآمل أن يكون البعد اللغوي والقيمي فيما يقوم به وزير الثقافة الحالي حاضرًا في تطهيره لقطاع يمكن أن يضيف بعدًا قوميًا لأعمالنا وألا يقتصر عمله على النواحي المادية فقط فهذا أدعى لتحقيق تنمية ثقافية ترتبط بالوطن. وحتى لا ننظر للجانب السلبي من الصورة علينا أن نتذكر قضايا ملحة تصب مباشرة في صالح الجماهير وفي صالح الوطن يمكن حلها بالحسم والحزم مثل قضايا الحدين الأدنى والأقصى على الجميع وقضايا البطالة وقضايا ضريبة الوطن المتمثلة فى التجنيد الإجباري وقضايا التعديات على حق المجتمع بصوره كافة وقضايا إصلاح منظومة القضاء والشرطة. يحتاج بعض هذه القضايا إلى عزيمة قوية ويد ثابتة غير مرتعشة ويحتاج بعضها الآخر إلى تعديل تشريعي لا يتطرق إليها مجلس الشورى الحالي، فهل له أن ينهض من غفوته ليعالج قضايا المجتمع الأساسية من منظور شامل وليس بترقيع البنية الحالية المتهالكة. لا أحد يدري في فضائنا المتسارع هل آلية الحكم بطيئة التفكير أم أنها تتروى في اتخاذ القرار أم أنها لا تقوى على اتخاذه أساسًا وبصرف النظر عن الأسباب فالوضع الحالي يعطى انطباعًا للعامة أنها ضعيفة. فهل هى فعلًا ضعيفة أم أنها تحتاج إلى المعاونة؟ ألنا أن نطلع على بواطن الأمور أم أن تلك الأسرار ستذهب مع أي فيضان يجرف الأسرار بحامليها؟ إن المكاشفة والشفافية أمر مهم في أية منظومة إصلاحية بجانب الحسم والحزم بالعدل، فهل يمكن تحقيق ذلك خلال الأيام القادمة أم أن الزمن سيدهمنا جميعًا؟
أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.