لا يبدو أن الحجر الذى ألقاه محمد البرادعى قد حرك المياه الراكدة للسياسة والإعلام فى مصر فقط وإنما وصلت آثاره إلى دوائر الإعلام والدراسات السياسية فى العالم بعد أن أصبح الوضع السياسى فى مصر مطروحا بقوة على أجندة وسائل الإعلام العالمية ، حسبما أفادت صحيفة الشروق المصرية . ومن واشنطن بوست التى خصصت إحدى افتتاحيتها للحديث عن أهمية مساندة تجربة البرادعى الإصلاحية إلى صحيفة الإكسبريس الفرنسية، التى وصفت البرادعى بأنه «المنقذ» وصولا إلى مجلة نيويوركر التى خصصت تقريرها الرئيسى لرسم صورة المشهد السياسى فى مصر بعد عودة البرادعى. تحت عنوان «المتنافسون» نشرت مجلة نيويوركر الأمريكية المرموقة تقريرا مطولا عن الحالة السياسية فى مصر بعد ظهور محمد البرادعى على الساحة ودعوته إلى إجراء إصلاحات سياسية تضمن إجراء انتخابات نزيهة وحرة. ونقل الصحفى الأمريكى جوشوا هامر كاتب التقرير عن محمد البرادعى المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية قوله فى مقابلة معه «كل هؤلاء الناس (المصريين) قالوا يجب أن تأتى.. لا يجب أن تتخلى عنا.. شعرت أنه عليه القدوم إليهم والحديث معهم». وقال جوشوا أحد الخبراء الأمريكيين فى شئون الشرق الأوسط، والذى تعرض للاختطاف فى قطاع غزة عام 2001 إن قانون الطوارئ هو أحد أهم عوامل استمرار الرئيس حسنى مبارك فى الحكم منذ 30 عاما تقريبا. فهذا القانون بدأ مع تولى مبارك السلطة تقريبا ولم يتخل عنه الرئيس على مدى عشرات السنين. فنظام الرئيس مبارك استخدم قانون الطوارئ لسجن الآلاف بدون تهمة وفى قمع أى مظاهرة سياسية. وأشار جوشوا إلى أن وجود هذا القانون كان وراء عدم خروج أعداد ضخمة لاستقبال البرادعى فى مطار القاهرة لدى عودته أول مرة بعد انتهاء عمله فى الوكالة الدولية منتصف فبراير الماضى. فأنصار البرادعى اضطروا إلى التوجه إلى المطار فرادى أو فى مجموعات لا يزيد عددها على 3 أفراد. وأعاد جوشوا التذكير بأن الرئيس مبارك لا يعتزم التخلى عن السلطة طوال حياته، مشيرا إلى تصريحه أمام مجلس الشعب عام 2006 بأنه سيظل فى السلطة «ما دام فى صدره قلب ينبض». ولكن جوشوا يرى أن الرئيس البالغ من العمر 81 عاما يبدو فى الفترة الأخيرة مجهدا. ويشير إلى أنه فى قمة مجموعة الدول الثمانى الكبرى التى عقدت بمدينة لاكويلا الإيطالية عام 2008 ظهرت صور الرئيس مبارك، وهو يستند إلى أحد مساعديه أثناء صعوده السلم. وفى مارس الماضى أجرى الرئيس مبارك جراحة ناجحة فى أحد مستشفيات ألمانيا. وعن قضية خلافة الرئيس مبارك فى الحكم قال جوشوا هامر إن السنوات الأخيرة شهدت ظهور عدد من أسماء الخلفاء المحتملين للرئيس مبارك، بينهم جمال مبارك نجل الرئيس والمصرفى السابق. ولكن ظهور مبارك الابن خلال الفترة الأخيرة جعلته يبدو، كما لو كان المرشح الوحيد المحتمل لخلافة الرئيس مبارك. فقبل عودة البرادعى بأربعة شهور فقط قال دبلوماسى غربى فى القاهرة للصحفى الأمريكى إن جمال مبارك هو الرئيس المقبل لمصر. الأمر نفسه تكرر مع دبلوماسى إسرائيل أعرب عن اعتقاده بأن الطريق أمام جمال مبارك مفتوح. ثم عاد البرادعى إلى القاهرة وقرر لعب دور سياسى محلى لكى يقلب المائدة على جمال مبارك كما قال جوشوا. فالبرادعى من وجهة نظر الصحفى الأمريكى شخصية دولية مرموقة تحظى باحترام كبير فى الداخل والخارج وهو ما يجعله رمزا يمكن أن يلتف حوله الشعب المصرى، الذى يعيش نحو 40% منه تحت خط الفقر وتشعر أغلبيته بالسخط على نظام حكم مبارك. وينقل جوشوا هامر عن دبلوماسى غربى فى القاهرة قوله إن الكثير من المصريين يرفضون فكرة التوريث ويرون أن مصر جمهورية ولا يمكن أن تكون ملكية يتوارثها أبناء الرئيس. كما أن أغلب المصريين ينظرون إلى جمال مبارك باعتباره رمزا «للواسطة» واستغلال النفوذ فى مصر. ويرى الصحفى الأمريكى أن سباق الرئاسة فى مصر الآن أصبح مواجهة بين مرشح يتمتع بشعبية كبيرة ولكن تنقصه الموارد والإمكانات المادية، وهو البرادعى ومرشح شاب يتمتع بتنظيمات الحزب الحاكم وثروة رجال الأعمال وسلطة القمع لجهاز الأمن فى مصر وهو جمال مبارك. من ناحيته قال البرادعى فى مقابلته مع جوشوا إنه يدرك تماما أن النظام الحاكم سوف يحاربه بكل الوسائل المتاحة لديه وأضاف: «أنا لا اتطلع إلى الرئاسة وإنما إلى دفع مصر نحو الديمقراطية. فالديمقراطية القائمة هنا مهزلة». وعن لقائه بجمال مبارك فى الخريف الماضى قال جوشوا «التقيت جمال مبارك فى مكتبه الفسيح بالطابق الثانى من مقر الحزب الوطنى الديمقراطى بوسط القاهرة، حيث يطل على النيل». وقال جمال مبارك فى هذه المقابلة إن اللغة الإنجليزية ظلت دائما لغة أساسية إلى جانب العربية فى تربيته وأن جدته لوالدته إنجليزية من ويلز وأنه حريص على التواصل مع أقاربه الإنجليز حتى اليوم بما فى ذلك الأجيال الجديدة من أسرة والدته الإنجليزية. ويعلق الصحفى الأمريكى على نشأة وتربية جمال مبارك بالقول إنه نشأ فى شبه عزلة عن الشعب المصرى، حيث كانت كل تحركاته خاضعة لحراسة مشددة وفى سيارات فارهة. ونقل جوشوا عن أسامة الغزالى حرب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية المعارض قوله «جمال مبارك عاش حياته كلها فى القصور ولم يمشى يوما فى الشوارع ولم يركب «تاكسى»، ولم تكن له أى صلة بالثقافة المصرية. فقد عاش حياته كأمير يحيط به الجنرالات والمليونيرات». ويرجع الكاتب الأمريكى إلى السادس من أكتوبر عام 1981 عندما كان جمال مبارك فى السابعة عشرة من عمره وحضر العرض العسكرى بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر باعتباره ابن نائب الرئيس فى ذلك الوقت. فى هذا العرض كان جمال مبارك يجلس فى الصف الثامن على المنصة عندما أطلق خالد الإسلامبولى ورفاقه الثلاثة النار على المنصة لاغتيال الرئيس الراحل أنور السادات. فى هذه اللحظة نزل جمال مبارك تحت المقعد والتصق وجهه بالأرض. وعن هذه اللحظة قال جمال مبارك لجوشوا «فى هذه اللحظة لا تفكر إلا فى نفسك.. ولا تحاول إلا تفادى أى إصابة». ويضيف جمال أن الأيام التى تلت حادث المنصة شهدت وصول والده إلى الرئاسة وأن رؤيته لمشهد اغتيال السادات جعلته يدرك أن دخول الحياة العامة يرتبط بالكثير من المسئوليات والتضحيات، التى قد تصل إلى ثمن باهظ على حد قول جمال مبارك. ويقول جوشوا إنه بعد اغتيال السادات «بصم» مجلس الشعب المصرى الذى لا يمتلك أى سلطات حقيقية على اختيار نائبه حسنى مبارك لتولى الرئاسة. وحصل جمال مبارك على درجة البكارليوس فى إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة حيث قال عنه الدكتور سعدالدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع فى الجامعة الأمريكية أثناء فترة دراسة جمال مبارك فيها «إنه كان طالبا ضعيفا» من الناحية العلمية. ويضيف سعد الدين إبراهيم الذى قام بالتدريس لكل من السيدة سوزان مبارك وجمال مبارك فى الجامعة إن جمال كان «ذو وجه بلا تعبير وبارد». وبعد أن أنهى جمال مبارك دراسته التحق بالعمل فى بنك أوف أمريكا الأمريكى بالقاهرة. وفى عام 1988 انتقل إلى قطاع الاستثمار فى البنك بلندن. ونقل جوشوا عن جمال قوله إن خبرته فى مجال الأعمال جعلته يدرك حاجة الاقتصاد المصرى الجامد إلى الإصلاح. وأضاف «دائما كنت أتابع الأسواق والاقتصادات الدولية. ولكن عندما تنتقل للعمل خارج بلادك فإنك تنظر إليها بطريقة مختلفة». وفى عام 1997 أسس جمال مبارك بمشاركة عدد من أصدقائه شركة خدمات استثمارية خاصة باسم «ميد إنفست» ومقرها لندن. وخلال عام ونصف جمعت الشركة 54 مليون دولار لاستثمارها. وبعد ذلك بعامين عاد جمال مبارك إلى القاهرة وهو التوقيت الذى بدأت فيه الضغوط على الرئيس مبارك من أجل فتح الطريق أمام جمال للعمل العام. وفى عام 2002 أصبح جمال مبارك رئيس أمانة السياسات فى الحزب الوطنى وهى بمثابة مركز تفكير يضم نحو 700 شخص. ويشير جوشوا إلى أن أهم أعمال جمال مبارك كان تحرير الاقتصاد المصرى من سيطرة الدولة حيث تم تخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات الخارجية وتقليل الضرائب وبيع أسهم الدولة فى البنوك المشتركة وغير ذلك من خطوات تحرير الاقتصاد. ويقول دبلوماسى غربى فى القاهرة إن عملية الخصخصة التى رفع جمال مبارك لواءها أدت إلى نمو طفيف للاقتصاد المصرى، لكنها فى الوقت نفسه خلقت انطباعا لدى الشعب المصرى بأن جمال مبارك خدم الأغنياء فقط ولم يستفد عامة الشعب من سياساته. من ناحيتها تقول إيمان بيبرس عضو أمانة السياسات فى الحزب الوطنى إن جمال مبارك يؤمن دائما بالنخبة وهو يعتقد أنه بمجرد أن تترك الرأسماليين يقومون بأعمال جيدة فإن ثمار التنمية سوف تصل إلى الطبقات الدنيا فى مرحلة ما وفقا لما يعرف باسم «نظرية تساقط الثمار». ولكن محمد البرادعى له رأى آخر حيث يقول إن مشكلة الإصلاح الاقتصادى فى مصر تكمن فى أنه لم يحدث تساقط لثمار التنمية.. «وإنما حدث العكس حيث اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشدة. فهناك حظيرة للطائرات الخاصة فى مطار القاهرة وهناك مليارديرات مصريون فى قائمة فوربس لأغنى أغنياء العالم فى حين أن متوسط دخل الفرد فى مصر يبلغ 2000 دولار سنويا فكيف يستقيم كل هذا؟». وقالت المجلة الأمريكية إن أحمد عز أمين التنظيم فى الحزب الوطنى ورئيس لجنة الخطة والموازنة فى مجلس الشعب هو أحد المستفيدين من الإصلاح الاقتصادى، حيث حصل على قروض ميسرة من الدولة لكى يحتكر صناعة الحديد والصلب فى مصر. وهناك أيضا هانى سرور عضو أمانة السياسات سابقا والذى أدين ببيع 300 ألف قربة دم غير صالحة للاستعمال إلى وزارة الصحة المصرية. وهناك أيضا ممدوح إسماعيل، الذى كان عضوا معينا فى مجلس الشورى المصرى، والذى يمتلك شركة نقل بحرى تسببت فى وفاة أكثر من ألف راكب على إحدى عبّاراتها القديمة، وهو هارب حاليا فى لندن.