يطل علينا شهر رجب من كل عام هجرى، وهو يحمل عند قرب منتهاه ذكريات حدث جلل فى تاريخ الإنسانية بأسرها وتاريخ المسلمين على وجه خاص، ألا وهو حدث الإسراء والمعراج، الذى جاء ذكره فى كتاب الله القويم بقوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وكم من غريب القول أن نقرأ أقلاماً معاصرة ترى فى أن إحياء هذه الذكرى أمراً مكروراً، ولنا الدهشة فيما يكتبون أو يقولون ولهم الحسرة واليأس فيما نحن فاعلون. فمناسبة الإسراء والمعراج رغم ما كتب عنها أو تم إلقاء الضوء على إحداثياتها وحوادثها تظل ملمحاً عظيماً فى تاريخ الإسلام، ويخطئ الظن من يقتصر هذه الحادثة على مجرد التسرية وإدخال الطمأنينة فقط على قلب رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)، بل إن حادثة الإسراء والمعراج بما تتضمنه من مشاهد ومعالم وعبادات تعد فاصلة ذات دلالة فى عمر الدعوة الإسلامية الحنيفة. وحادثة الإسراء والمعراج ليست مجرد سرد وقائع حدثت للمصطفى صلى الله عليه وسلم، حينما عرج به من المسجد الأقصى، إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، لكنها مهمة إسلامية دعوية فى المقام الأول وجب علينا وعلى غيرنا أن نحيى ذكراها لدى الكبار منا، وأن نوجه أنظار الناشئة إليها حرصاً منا على ترسيخ دعائم الإسلام وأركانه. ومن النعم التى منَّ الله بها على نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وعلينا أجمعين فرض الصلاة، وفرض الله عليه وعلى أمة الإسلام تلك الليلة، كل يوم وليلة خمسين صلاة فى أول الأمر، فما زال يراجع حتى صارت خمساً فى الفعل، وخمسين فى الأجر وتلك رحمة من الله وفضل كبير لمن يعى ويتدبر. والحكمة من تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما عرج به إلى السماء رأى تلك الليلة تعبد الملائكة، منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى ولأمته تلك العبادات فى ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفى اختصاص فرضها فى السماء، دون سائر الشرائع فإنها فرضت فى الأرض، التنبيه على مزيتها على غيرها من الفرائض. وكما يذكر السهيلى فى التنبيه على فضلها، حيث لم تفرض إلا فى الحضرة المقدسة المطهرة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائطها، والتنبيه على أنها مناجاة بين العبد وربه عز وجل. والصلاة وهى الركن الثانى من أركان الإسلام بعد الشهادتين من أفضل العبادات التى تقرب العبد لربه، وهى الوسيلة التى يلجأ إليها العبد للتفريج عن كربه ولإراحة نفسه وجسده من عناء ومكابدة الأيام الحالكة، كما أنها طوق النجاة الذى يتعلق به العبد للنجاة من الأخطار التى تواجهه. إن الذكرى الجليلة التى تحل علينا كل عام لها فى قلوبنا صدى ووقع جميل، وتجعلنا نتحدى ذاكرتنا لالتقاط المعلومات والمعارف المرتبطة بهذه الرحلة المباركة، فيذكر رفاعة رافع الطهطاوى أن الحكمة من تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشاً تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفونه، مع علمهم أن رسول الله r لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع. وثمة مشاهد تعرض النبى (صلى الله عليه وسلم) لرؤيتها نراها جديرة بالذكر فى هذا المقام، منها ما أورده أبو سعيد الخدرى (رضى الله عنه) فى حديثه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: "ثم رأيت رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل، فى أيديهم قطع من نار كالأفهار (جمع حجر يملأ اليد)، يقذفونها فى أفواههم، فتخرج من أدبارهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً". ثم قال (صلى الله عليه وسلم): "ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة (العطاش) يعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا". وإذا كان جدل قريش مع النبى (صلى الله عيله وسلم) وصاحبه أبى بكر الصديق (رضى الله عنه)، قد انتهى، فسرعان ما بدأ جدل آخر فى كتابات المؤرخين أنفسهم حول كيفية الإسراء، ولقد اختلف المؤرخون وكتاب السيرة فى كيفيته، وأغلب المفسرين والمؤرخين أجمعوا على أن الإسراء كان بالجسد، والأقلية هى التى قالت إنما كان بالروح فقط. وهناك رأى ثالث مفاده أن الإسراء كان بالجسد إلى بيت المقدس، وبالروح من بيت المقدس إلى السماوات السبع، والصحيح عند الجمهور أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا رؤيا، والرؤيا هى ما أفاد به كل من حذيفة وعائشة ومعاوية (رضى الله عنهم). اللهم صل وسلم على حبيبنا وشفيعنا محمد دائم البشر سهل الخلق ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب، كان أكثر الناس تبسماً وأبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاء، يختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً، وكان أجود الناس وأكرمهم، وأوقرهم، وأشجعهم، وأجلدهم، وأشدهم حياء، وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وأوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأبعدهم عن الفحش والتفحش، وأعظمهم شفقة ورحمة، فأين أنت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟